ذلك منها بفواتها من أيدينا، ولم يخطر بالبال رقمها إلاَّ بعد الذهاب، وقد كان مولانا -أيده الله- أودعنا ما اقتضاه حسن نظره، وكمال تدبيره وهو أن قال: إذا انتهيتم إلى هذا الملك أظهرتم له هذه الرسالة الظاهرة المتظمنة الجواب عليه وذكر الهدية، وأخرتم الرسالة الأخرى حتى تجتمعوا به في موقف خال، وهو لا بد يفيض إليكم ما عنده من الخير الذي يريد إلقاءه، فإن وجدتموه يريد ذلك الأمر الذي يعلق به للأمل، وأنه يريد الدخول في ملة الإسلام المشرفة على ساير الملل، دفعتم إليه الرسالة الأخرى، وخضتم معه في ذلك على ما تقتضيه الحال سراً وجهرا، وإن وجدتموه تائهاً في ضلالته، سادراً في ظلمات جهالته[81/ب] لا سبيل إلى ولوج النصيحة في لبه، ولا طريق إلى تقرير ذلك في قلبه، أعرضتم عنه صفحاً، وطويتم عنه كشحاً، والحاضر يرى ما لا يراه الغايب، والحازم من نفعته النصايح وأفادته التجارب، واعتمدنا هذه الوصية النافعة، ووجدناها ولله الحمد لأسباب الرشاد والخير جامعة، ذكر ابتداء السفر وتوجهنا من حضرة الإمام -عليه السلام- في غرة جمادى الأخرى مقدمين ما بين يدي ذلك حسن التوكل، وخالص التوسل، والمبالغة بتقوى الله عز وجل، وتعليق النية بطاعته وطاعة خليفة الإمام الأجل؛ فإن ذلك أبلغ ما يستعان به على نجاح المقاصد الصالحة، ونمو متاجر الخير الرابحة، كما قال تعالى{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وكان في
صحبتنا جماعة ممن تليق مصاحبتهم في السفر من الشيعة والعسكر، أهل الصبر والرعاية، والمروءة والحماية، وقدر اثنين وعشرين نفراً، فيهم نحو اثنى عشر بندقاً، وكان مرورنا على السيدين العظيمين، والرئيسين المكرمين، عز الملة والدين وجبل العلم والحلم الشامخ الحصين، وصفي الإسلام والمسلمين، وسيف الحق المنتضى على أعداء الله المفسدين، محمد وأحمد ابني الحسن بن أمير المؤمنين -حفظهما الله تعالى- وهما إذ ذاك بمحروس مدينة صنعاء -حرسها الله تعالى وعمرها بأهل الإيمان والتقوى.
وكان هذا الرسول الواصل من الملك استصحب إليهما كتابين، وما تيسر من الهدية، فأجابا عليه ووجها إليه ما تسنى من الهدية مضافة إلى هدية مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- وكانت هدية من أسنى الهدايا، وعطية من أجل العطايا، واستقبلنا السفر المبارك على تيسير الله وتدبيره وهو الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال والولد، ولا يجمعهما غيره؛ لأن الصاحب لا يكون خليفة والخليفة لا يكون مستصحباً.
ولما انتهينا إلى بندر المخاء -حرسه الله تعالى- وكان مولانا -أيده الله تعالى- قد أمر النايب فيه بتجهيز جميع العسكر المحافظين في البندر بأعظم ما يكون من الإعداد في المراكب لما يتوهم أن يعرض من الأتراك -أذلهم الله تعالى- وتلقيهم من بندر سواكن وبندر مصوع، ففعل نايب المخاء بما أمر به، وتجهزنا من هنالك في نصف شعبان من تلك السنة المذكورة، وكان جملة سفرنا في البحر يومين فقط، والمسألة مع استواء الريح أقرب من ذلك بأنها قد تقطع في يوم واحد.
ولما وصلنا[82/أ] إلى بندر بيلول وكنا استصحبنا إلى السلطان شحيم بن كامل الدنكلي صاحب بيلول كتاباً من نايب المخاء، لما بينهما من الإتصال وحسن المعاملة، وجميل المواصلة، وكان هذا السلطان المذكور غايباً حين وصلنا إلى بندر بيلول، فراسلناه حتى وصل، وكنا قبل وصوله ضاربين خيامنا في مكان خارج البلد بينها وبين البحر؛ لأنا كنا من أهل البلد تشوشاً من وصولنا فبقينا هناك حتى وصل سلطانهم شحيم بن كامل المذكور، وقد كان خرج في صحبتنا جماعة من تجار الحبشة.
ولما وصل السلطان شحيم بن كامل تلقانا بالكرامة، وسني الضيافة، واطلع على أخبارنا، وعلم أنا نريد الوصول إلى ملك الحبشة، وكان هذا السلطان شحيم له اتصال بملك الحبشة؛ لأنه إنما نشأ في ديار الحبشة، وله هناك أهل وأولاد والملك يعده من خاصته وأهل بطانته كما هي قاعدة من هنالك ممن يدعي الإسلام وليس له منه إلا نفس الاسم الذي لا يترتب عليه من الأحكام، كما سيأتي تحقيقه في ما يعرض من ذكر من يطلق عليه اسم الإسلام هنالك إن شاء الله تعالى.
ولما اجتمعنا بالسلطان شحيم وفد معه من رجال البدو المتصلين بذلك المحل خلق كثير، منكرين الصور، خالين عن التحلي بشيء من أحكام الشرع الشريف المطهر، وذلك لما شاهدناه من اختلاط رجالهم بنسائهم وكلهم عراة لا يسترون عوراتهم، ولا يتسترون بمنكراتهم، كان المنكر عندهم من المعروف والبدع لديهم من الأمر المأنوس المألوف، ولسانهم أعجمي بلغة تخصهم ليست من لغة الحبشة فكنا إذا خاطبناهم نفتقر إلى ترجمان وقليل معنا من يعرف لغتهم كل المعرفة إلا من كان منهم يتصل ببندر المخاء فإنه ربما عرف اللسان العربي، وكل من يجي إلينا من هؤلاء البدو المذكورين يريدون مجرد الإطلاع ومعرفة هؤلاء العرب الوافدين، فإذا وصلوا إلينا جعلوا ينظرون إلينا من بعد، وهم يتعجبون بالنظر إلينا، ونحن بالنظر إليهم أعجب {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
ولقد حكى لنا بعض العارفين بأخبارهم أن كبيرهم الذي يقتدون بأقواله متزوج بإثني عشر امرأة وغيره مثل ذلك على ما ظهر لنا ممن يعرف أحوالهم، ومع هذا فإنهم يريدون الإطلاع على أحوالنا والتجسس عليها، وهل يمكنهم الوقوف لنا على الطريق التي نمر فيها، والوصول إلى شيء مما في أيدينا، أو غير ذلك مما يفعله[82/ب] المحتربون والأكراد المختطفون من الفساد.
وكان من فضل الله علينا وما أمد الله به إمامنا -عليه الصلاة والسلام- من حسن النظر، وكمال الرأي، استصحاب البنادق، فإنها من صنع الله وبركة مولانا -أيده الله تعالى- دفعت عنا المكروهات، وكانت لنا مع عون الله من أعظم المعونات، ولقد كانوا يعجبون من رمي البنادق غاية العجب، وأحسب فيما ظهر لي أنهم يعتقدون أن صاحب البندق إذا رمى يتمكن من متابعة الرمي من غير انقطاع ولا تخلل وقت بين كل رميتين، ونحن مع هذا التوهم نوهمهم صدقه ونحرص ألا يظهر لهم خلافه، فما يزالون يتحدثون بذلك وينقلونه لأصحابهم بالأخبار المتداولة حين شاع ذلك فيهم وذاع، وملأ القلوب والأسماع، ثم إذا بقينا في بيلول هذا نحو الشهر، نلازم صلاة الجمعة والجهر بالخطبة لمولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين -أيده الله تعالى- وصمنا هنالك شهر رمضان المعظم وخرجنا لصلاة العيد، والسلطان شحيم معنا بجمعه وأصحابه ناشرين الأعلام، مظهرين شعاير الإسلام، وصلينا في جبانة البلد، وخطبنا كذلك خطبة العيد المأثورة مع ذكر الإمام -عليه السلام- والدعاء له جهراً على رؤوس الأنام.
ثم لما كان العيد المذكور بنحو ثمانية أيام توجهنا من بيلول وفي صحبتنا هذا السلطان شحيم بجماعة من أصحابه نحو ثلاثين نفراً فقط، وأهل القافلة من الجيوش يبلغون كذلك ثلاثين نفراً، وسبب هذا التحير في بيلول أن هذا الطريق كثير الأخطار من كل وجه، منها أنها مفاوز منقطعة عن الماء، وإنما يعرف المياه الدليل الماهر والعارف الخابر، وقليل ما هو، لعدم الإختلاف فيها، ثم إن أهل الأمانة فيهم قليلون، فإن الدليل إذا شاء سلك بالناس حيث لا يوجد الماء فإن شاء أهلكهم وإن شاء تحكم في أموالهم بما يريد. ومنها: الخوف من هؤلاء البدو المتصلين بهذه الطريق. ومنها: الخوف الأعظم من القالة -أبادهم الله- لإمكان وصولهم إلى هذه الطريق، فأحتجنا إلى المبالغة لنفي المخاوف وسد أبوابها، ومراسلات كبار البدو من السلطان شحيم، وبذل الأموال لهم.
وبعد أن قررت هذه الأمور بحسب الظن وقدر الإمكان، توجهنا في ذلك الوقت من بيلول في أرض مستوية كثيرة الأشجار نحو مرحلتين، ثم دخلنا بعد ذلك في أودية بين جبال عالية[83/أ] وفيها ماء جار، وفي هذا المحل جاء إلينا من أخبار البدو أنهم يريدون غزونا في تلك الليلة، فأمرنا الناس في تلك الليلة بالإحتراس، وأن يكونوا على أهبة، فكان من عجايب الإتفاق، أنها جاءت في أربعة فيلة في تلك الليلة، فأدركها الحرس وسمعوا حسها في ذلك الوادي، ففزعوا منها فاجتمع الناس بعضهم إلى بعض، ثم تبينا الأمر فإذا هو تلك الفيلة، فرمت عليهم البنادق فسمع أولئك البدو رمي البندق، فأرهبهم وأرعبهم وفرق شملهم، وبدد جمعهم، ولقد أخبرنا رجل ممن بلغ إليه حقيقة أمرهم أن قدر الجمع الذين كانوا قد اجتمعوا لذلك خمسمائة رجل، فسبحان الملك القدير، الذي حالت قدرته بينهم وبين ما أرادوه، واتصل بعد ذلك سيرنا وتوالت أيام سفرنا قدر اثنتي عشر مرحلة، حتى وصلنا محل يسمى (عين ملى) وهذا المحل وما بعده أعظم خطراً وأكثر مخافة لقربه من القالة -أقماهم الله تعالى وقطع دابرهم- وحال ذلك الوادي من الوحشة وعظيم المخافة، كما قال شحيم بن وثيل شعراً:
مررت على وادي السباع ولا أرى .... كوادي السباع حين يظلم واديا
أقل به ركب أتوه بآيةٍ .... وأخوف إلاَّ ما وقى الله ساريا
تنبيه: اعلم أن هؤلاء القالة أمة شديدة البأس، متينة المراس، كثيرة العدد، مديدة الأمد، إذا توجهوا للحرب على أحد من الناس من الكفار وغيرهم كالمسلمين في جهة مدينة (أوسة) وما إليها فقد يبلغ عددهم نحو مائة ألف أو ما يوازي ذلك، ثم إنهم مع هذا أهل قوة في أبدانهم، وصبر على طول الأسفار واحتمال المضار، ولقد حكى لي من له خبرة بأحوالهم أن الرجل منهم إذا صرخ بأعلى صوته عند ملاقاة الحرب وسمع ذلك بعض الكفار من النصارى انفلق قلبه فيموت من نفس الصوت، وعلى الجملة إن هذه الأمة رأيت أوصافها تلحق أوصاف التتار، في ما نقله عنهم أهل التواريخ والأخبار، ومنهم مسلطون على نصارى جهة الحبشة من جميع جهاتهم، وأطراف بلادهم، لم تجد جهة من جهاتهم خالية عنهم، وأكثر السبي إنما يكون بأيدي هؤلاء القالة وهو من غيرهم نادر. انتهى.
رجعنا إلى ما نحن بصدده ثم أقمنا في هذا المحل المسمى (عين ملى) قدر شهر كامل، وقد كان هذا السلطان شحيم قدم رسولاً من هؤلاء البدو إلى بعض أمراء ملك الحبشة المتولي على أقرب قطر إلينا من بلاده يخبره بقدومنا، وأنه يتلقانا إلى محل معين قد عينه له، بمن أمكنه من جموع النصارى، وهذا الكتاب قد كان سبق من أيام إقامتنا في بيلول، ورجع جوابه[83/ب] إلى هذا المحل المسمى (عين ملى) وبعد رجوع الجواب عليه أظهر المسرة العظيمة، وضرب عليها بالنقارة، واجتمعوا للعب الذي يعتادونه عند حصول المسار، وأراد بذلك السلطان شحيم تبشيرنا وادخال المسرة علينا، وتهوين الشدة، وتخفيف أثقال المخافة.
ثم بعد ذلك أمر السلطان شحيم بالرحيل، فارتحلنا وهو في صحبتنا وسار معنا بعد ذلك قدر خمس مراحل، ثم إنه أشعرنا أنه يريد الرجوع من هنالك؛ لأنه إذا جاوز ذلك المحل لم يتيسر له العود منفرداً بأصحابه خوفاً على نفسه ومن معه؛ لأنه في التحقيق لايتم له السلوك في هذه الطريق، إلا مع انضمامه إلينا، وتقويه بقوتنا التي أمدنا الله تعالى بها وألقاها في قلوب الناس فضلاً منه ونعمة علينا، ثم إنه جمعنا نحن وأهل الحبشة الذين في القافلة، وأخبرنا أنه يريد أن يجعل معنا من يدلنا على الطريق، ويجنبنا مخاوفها وأخطارها، وكان هناك ثلاث طرق:
إحداهن ظاهرها الأمان من القالة، والثانية: تجوز المخافة منهم، والثالثة: مقطوع بخوفها وخطرها؛ لكونها في جانب القالة وبين مراعيهم ومخاليفهم، فأختلف رأي أهل الحبشة في الطريق، فرسول الملك الواصل بكتابه إلى الإمام -عليه السلام- يريد سلوك هذه الطريق المأمونة، وإن كانت بعيدة المسافة، وساير أهل الحبشة يريدون سلوك الطريق الوسطي مع تجويز بعض الخوف، وكلهم لا يريدون سلوك الطريق الثالثة، فقال السلطان شحيم: نجعل لكل فريق منكم دليلاً يدله على طريقه التي يريدها، فطلب لنا رجلاً جمع بيننا وبينه، وأخذنا عليه عهداً أنه لا خاننا ولا غدرنا، ولا سعى لنا في ما فيه ضررنا؛ ولأهل الحبشة رجل آخر كذلك، ثم قال: أما بعد ذلك يكون مسيركم أنتم وأهل الحبشة مرحلتين مجتمعين، ثم تفترقون بعد ذلك، فدليلكم يدلكم على هذه الطريق المتوطأ عليها، وأهل الحبشة في طريقهم كذلك، فقلنا له وللدليل: هل بقي بعد ذلك المحل أحد من البدو نخاف اعتراضه لنا في الطريق ونطلب منه الصحبة أم لا؟ فقال السلطان شحيم وهذا الدليل المذكور: ليس بعد هذا إلا أرض مقفرة حتى تصلوا أرض الحبشة، فودعنا السلطان شحيم وأصحابه في ذلك المحل، وعزمنا على سيرنا في ذلك الدليل، وكنا جميعاً نحن وأهل الحبشة بناءً منا أنا لا نفترق عليهم إلاَّ بعد يومين كما ذكره السلطان شحيم، فاستمر بنا السير ثلاث مراحل متوسطة ليست بالكبار ولا بالصغار، وانتهينا إلى جنب جبل عظيم أبلغ ما يكون من العظم في الإنبساط والإرتفاع[84/أ] ووجدنا هنالك بحيرة يتصل ماؤها بذلك الجبل، وبجبال أخر من أطرافها، ماؤها مالح زعاق، وطولها