بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فإن حظنا الكريم، ورسمنا السامي الوسيم، النبوي الإمامي المتوكلي المحمدي -أعزه الله تعالى وأعلاه وأنفذه في الآفاق وأمضاه وأقر عين المتمسك وأرضاه- يشهد بيد القاضي الأعلم الفاضل الورع الهمام الكامل شرف الدين حسين بن يحيى النحوي -أسعده الله تعالى- أنه من أخلص أتباعنا وأجل أنصارنا وأشياعنا يأمر بالمعروف أينما سلك، وينهي عن المنكر أينما ذهب، ويعلم مراشد الدين، ويهدي إلى سنن سيد المرسلين وعترته الأئمة الهادين، ويقوم عنا بهذه الخطة الجليلة المقدار، الحسنة الآثار، في أداني الأرض وأقاصيها، ومعاقلها وصياصيها، حسبما يقتضيه ورعه ودينه ويوجبه إيمانه ويقينه، وكما أمر بذلك مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين المتوكل على الله رب العالمين -حفظه الله تعالى- بما حفظ به الذكر المبين، فليمض لسبيله الأرشد، ومنهجه الأشد، موفقاً إن شاء الله في مقاصده، مسدداً في مصادره بارك الله لنا وللمسلمين فيه، وشكر عن الجميع مساعيه، وتولاه بولايته، وشمله بحياطته وكفايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، بتاريخ شهر شوال الكريم أحد شهور سنة ثمان وستين وألف[يوليو1657م] وحرر بمحروس ضوران.

[سيرة الحبشة]
ارسال القاضي العلامة الحسن بن أحمد الحيمي إلى سلطان الحبشة[77/ب] ومن ذلك أنه تقدم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- مكاتبة من ملك دنيا صاحب الحبشة، وهو ملكها الأعظم، فأرسل إلى الإمام -عليه السلام- مكاتبة وهدية فأجابه الإمام -عليه السلام- بما مر في السيرة المؤيدية، وكان قد طلب من حي الإمام -عليه السلام- رجلاً يلقي إليه ما تحمله الأوراق، ولا يودع صدور الرجال، مع رجل منهم اسمه سالم، وقد فهم الإمام -عليه السلام- أنه يريد مرشداً وداعية يعلمه القرآن وأركان الإسلام، فانتهوا في ما بلغ إلى جانب من الطريق وبلغهم وفاة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وقيام الإمام بعد الإمام فراسلوا إلى ملكهم بما بلغهم، فأمرهم بالمضي إلى الإمام القايم بعد الإمام، ولبثوا في الطريق نحو السنة كما سيأتي، فلما وصلوا إلى محروس شهارة عمرها الله بالإيمان عظمهم الإمام -عليه السلام- وتابع لهم الإحسان، ثم أرسل معهم القاضي الأفضل، العالم الأعمل، ذا العزيمة الماضية، والهمة السامية، شرف الدين الحسن بن أحمد بن صالح اليوسفي ثم الحيمي -أسعده الله وأطال بقاه- وهذا القاضي من عيون الشيعة، وأهل الحلم والكرم والصبر والأناة، والمعرفة لمخالطة الكبراء، وحسن الدعاء إلى الحق، وأصحبه بما يحتاجه من الكتب، ورغب من صحبه من سفره، وأعطاه مطلوبه وهو مع ذلك يعظمهم ويذكرهم بالله ويوصيهم بتقوى الله، وأن يعلموا أولئك القوم بالفعال قبل المقال، وقال فيما قال للقاضي -أيده الله-: لست رسولي إنما انت تُبلغ عن الله سبحانه، وعن رسوله ً وكثير من نحو هذا

وكتب الإمام -عليه السلام- جواباً على السلطنة هذا نسخته................. [78/أ]................. [78/ب].......... .
[79/أ][وقد ذكر القاضي -أيده الله- سفره هذا من ابتدائه إلى انتهائه بما هذا نسخته وهو أصدق راو وأوفى حاكم، وقد كتب الله له ولمولانا (عليه السلام) أجر ما قصد من الهداية، وعملاً بما ندب الله له ورسوله صلى الله عليه وعلى آله إلى الشمايل الحسنة، في قوله عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وبقوله تعالى{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } صدق الله العظيم.
الحمد لله على ما آتانا من الإيمان والتقوى، ونصبه لنا من البرهان الموصل إلى التمسك بالسبب الأقوى، وعلمنا من البيان ما يؤثر خيره للأعقاب ويروى، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له شهادة أنور من فلق الصباح وأضوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أسرى بجسده إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وبعثه إلى العالمين على اختلاف الأديان واتباع الهوى، فأخرج بعث هدايته في رياض قلوب أوليائه عشب الإيمان فأصبح للنظارة أحوى، وهشم به بنية الطغيان فأباد خضراءهم بما سن عليهم من شآبيب كل غارة شعواء، صلى الله عليه وعلى آله صلاة يبلغه بها كل أمل ورجوى، وسلم علهم أجمعين سلاماً لا يقحل غصن دوحته ولا يذوى.

وبعد: فإنه سألني من وجه إلى أمل الإسعاف، فأمرني من لا يسعني مخالفته على طريق المطابقة والإنصاف، أن أصف له ما ينبغي مذاكرته من سفرنا إلى الديار الحبشية، واتصالنا بملك الفرقة النصرانية والملة المسيحية، عن أمر مولانا أمير المؤمنين، وخليفة الله الداعي إلى كتابه المبين، وأمينه على تبليغ ما انزل على قلب جده سيد المرسلين، المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين.
وكانت هذه جملة كلية، تشتمل على جزيئات تفصيلية، يتعين تعريف مبتدأها وخبرها، وإيضاح ما أراد السائل من عجائب قصصها وعبرها، فأجبته إلى ذلك إيثاراً لقصده، وقضاء لما ثبت عليَّ من حقوق وده، ولما أرجوه من نعش أهل الخمول! والحث على ارتكاب الأخطار العظيمة في طاعة الله عز وجل وطاعة أئمة آل الرسول، ولقد ذكرت [79/ب]عند ذلك شعر الإمام الحسين بن علي الفخي-صلوات الله عليه- حيث يقول:
وإني لأنوي الخير سراً وجهرة .... وأعرف معروفاً وأنكر مُنكرا
ويُعجبني المرء الكريم نِجَارُه .... ومن حين أدعوه إلى الخير شمَّرا
يعين على الأمر الجميل وإن يرى .... فواحش لا يصبر عليها وغيَّرا

وشجعني على رقمه في هذه الأوراق أنه ليس من التأليف المفتقر إلى كمال الإجتهاد، ولا من التصنيف الذي يتطرق إليه انتقاد النقاد، ولا يتعلق بروايته معرفة الإسناد والإرسال، ولا المعلول والإنقطاع والإعضال، وغيرهما من ساير العلل التي لا يبلغ معها درجة الصحة والكمال، ولا معرفة علم الجرح والتعديل في أحوال الرجال، وإنما هو إخبار عن مدركات الحواس، ومشاهدات النظر التي يستوي فيها الكافة من الناس، فلذلك فلم أدخل في قول من قال: من صنف فقد استهدف، وأنا أرجو أن يكون لما نويته ورتبته عليه من حسن القصد وثبته لاحقاً بعلوم الدين، ناطقاً أثره بلسان صدق في الآخرين، فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئٍٍ ما نوى، وبالله استمد الهداية والتوفيق، وأعوذ بالله أن أكون ممن جذبته الأهواء، فهي تهوي به في مكان سحيق، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وولي الخيرات وموليها في الدنيا والآخرة.

[وهنا نشرع في] ذكر السبب المقتضى لذلك، وهو أن الملك المعروف بجهة الحبشة المسمى بلغتهم (سجد فاسلداس) بن السلطان سجد سينوس، -ومعنى (سجد) كما ذكره لي بعض أهل لغتهم-: كثير السجود، ومعنى سينوس من أسماء الباري عز وجل بلغتهم- وجه إلى مولانا وإمامنا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، ومبيد أهل البدع والمفسدين، المؤيد بالله رب العالمين- سلام الله ورحمته ورضوانه- رسولاً من مسلمي تلك الديار في عام اثنتين وخمسين وألف ووجه صحبته بهدية من الدقيق والزباد وسلاح الحبشة، وضمن كتابه استدعاء رجل يصل إليه من خاصة الإمام -عليه السلام- ولم نكن على اطلاع على خاصة سر هذه القضية ومعرفتها، وإنما أخذت ذلك من رواية سيدنا القاضي العلامة غرة علماء الشيعة والعلامة، وجوهرة عقد أعضاء الخلافة والإمامة، شمس الملة والدين، أحمد بن سعد الدين بن الحسين المسوري -أطال الله عمره- سمعته يملي على مولانا المتوكل على الله -أيده الله تعالى- فكان من حديثه أنه قال مولانا المؤيد بالله-سلام الله عليه- لم يستحسن المسارعة إلى[80/أ] إجابة هذا الملك بإرسال أحد إليه قبل المعاودة منه، وتكرار المراسلة، قال: فإن عاد من كتاب آخر بعد ذلك فلا بأس بإسعافه إلى مطلبه، وانبرم الرأي على الجواب عليه وتأخر[الرسول] المطلوب من أصحاب الإمام -عليه السلام- فكتب جواب الملك ووجه إليه مولانا المؤيد بالله-رضوان الله عليه- هدية سنية، وعطية فاخرة هنية، وصدر رسول من الحضرة المؤيدية، مثنياً عليهم بلسان الثناء، متملياً من أنوار ذلك الفضل والسناء، وتوجه راجعاً من جهة بندر (المخاء) حرسه الله

تعالى.
وقد أمر مولانا أمير المؤمنين -قدس الله سره- النايب في البندر المحروس بتجهيزه في المراكب المعدة من جماعة العسكر المحافظين في ذلك البندر، واعداده عدة المحاربة في تلك المراكب من المدافع والزبارط من البنادق المتخذة سلاحاً للعسكر المنصور، وذلك لأجل لخوف من الأتراك الذين بجانب (سواكن) وبندر (مسوع)-أقماهم الله وقطع دابرهم- فوقع التجهيز من النايب في هذا البندر على هذا التقرير، ومطابقة هذا التقدير، وبلغوا به إلى بندر (بيلول) المعروف بلد السلطان (شحيم بن كامل الدنكي) ورجع العسكر سالمين لم يعرض لهم شيء من جانب الخصم بحمد الله ومنه، وتوجه رسول ملك الحبشة إلى مخدومه بتلك الهدية، والجواب عليه في ما ذكره، وغاب هنالك الرسول سنة ثلاث وخمسين وما بعدها إلى عام سبع وخمسين وألف، ثم إن الملك المذكور عاود مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله -رضوان الله عليه- بكتاب آخر وهدية أخرى، واستعجل الرجل المطلوب وصوله إليه، وذكر في كتابه معناه أن المهاداة بالمال هي نفس المطلوب، وإنما هي تبع للوصول إلى نيل الغرض بإرسال الرجل الذي أستدعينا وصوله، وقد كان سبق قبل هذا وفاة حي أمير المؤمنين مولانا المؤيد بالله ومصيره -رضوان الله- وما عند الله خير للأبرار، فلما وصل رسول الملك إلى بعد أطراف الحبشة، وبلغه خبر وفاة مولانا الإمام -عليه السلام- وأرسل إلى الملك يرفع إليه ذلك، ويعلمه بما بلغ إليه، فرجع له الجواب أن ينفذ لما أمر به، وجعلوا كتاباً إلى مولانا المتوكل على الله-أيده الله- في شهر [.....]من عام سبع وخمسين وألف سنة، وكان خروجه إلى

بندر (المخا) وجاءت طريقه بطن تهامة من جانب مدينة (زبيد)[80/ب]-حرسها الله تعالى- ثم على مدينة (مور) و(الأمروخ) ونفذ إلى (هجر الأهنوم). ووصل إلى إمامنا سلام الله عليه إلى حصن (شهارة) المحمية، ومستقر الأئمة، وعمدة معاقل الزيدية، فأعظم مولانا -أيده الله تعالى- أمره، وأكرم مثواه، وأحسن نزله، فاطلع على كتبه وعرف ما استدعاه الملك من وصول رجل يفيض إليه بسر لا تحمله بطون الأوراق، ولا تطيب نفسه أن يفضي إلى رسوله، لما يخشاه من الحاسد، ويخالطه من الإشفاق، وكان في ما لا يخفى من الإجمال، والتسبب لأن تتعلق به عظائم الآمال، فاختص مولانا -عليه الصلاة والسلام- بذلك الرسول في بعض مجالسه الخالية، وسأله عما في كتاب الملك، وهل عنده ظن بمراده من ذلك، فقال: الذي يبلغ إليه ظني أنه يريد الإسلام، فلما قال ذلك سر به مولانا -عليه السلام- ولمعت أسارير وجه المضيء، وأنبسط نشاطاً خلقه الرضي، وأسرَّ في نفسه أن هذه نعمة جليلة، وأمر عظيم يتوصل إلى تمامه بكل حيلة، ثم التفت بعد ذلك إلى مشاورة أهل حضرته، واستتنصاحهم في ذلك، وما الذي يتوجه فيه الرأي، فاتفق نظر كثير من أهل الفضل، وأرباب القول الفصل، أن إجابة هذا الملك إلى وصول رجل تجب قطعاً، ويتوجه لزومها شرعاً، حيث يعلق الطمع بإسلامه، والإنخراط في سلك هذا الدين ونظامه، فإنه يجب إجابة من نظن فيه، ولو لم يرج إلا صلاحه في نفسه، كيف والمعلوم من طريق العادة أنه يتبعه الجماهير، كما ثبت في قضية العقل وحدسه، وقد وقع في ذلك الرأي من بعض أهل النظر، استناداً إلى ما ثبت لديهم بالفكر وتقرر، وهو أن هذا

الملك الثابت في تخت ملكه، المتقرر لديه أباطيل شركه وزخارف إفكه، لا يغلب على الظن أن هذا المنهج قصده، ولا تحدى فيه عيسه ولا يوري فيه زنده، فأطرح هذا الرأي لما كان القايل به القليل، والترجيح بكثرة الرجال دليل وأي دليل، لا سيما وقد طابق ذلك رأي صاحب الحل والعقد، والإبرام والنقض، المهتدى بهداه، الذي يقصر كل نظر في مصالح الدين عن منتهى نظره ومداه، مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- بمواد التسديد والنصر المبين، مع الإستظهار بذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأن يهدي الله رجلاً على يديك خير لك مما طلعت عليه الشمس )) وليس الطريق إلى إمكان الهداية إلا الظن، فأستقر الرأي على وجوب إجابة الملك إلى وصول رجل إليه، يبحث عن سره، ويطلع على حقيقة أمره، وكنت في تلك السنة في سفر الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة الضريح النبوي على صاحبه وعلى آله أفضل الصلاة وأشرف السلام[81/أ]، وكان من فضل الله عليَّ أن هذه الحِجة هي الثالثة، فلله الحمد على ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.

ولما رجعنا من ذلك السفر الميمون ووصلنا إلى الحضرة المولوية -أعزها الله تعالى- في غرة شهر ربيع الأول من تلك السنة المذكورة، وهذا الخبر شايع أمره، ذايع سره، كنت ممن تشرف بالمفاوضة فيه من مولانا أمير المؤمنين -أيده الله تعالى- وكنت أجبت بما ظهر لي من النظر، وسنح لديَّ من خاطري الظن الذي حضر، مما يطابق رأي الأكثر، وكان مولانا -أيده الله- يحرر النظر في تعيين الرجل الذي يتوجه إلى تلك الديار، ويدبر في ذلك جلايل الأنظار؛ ولا أدري هل وجه نظره قبل التعيين عليَّ إلى غيري أم لا، ثم إنه -أيده الله تعالى- أراد أن يخصني بفضيلة هذه العزيمة، ويقلدني القيام بهذه الفريضة العظيمة، وعلمت أنه -أيده الله تعالى- قد أدلى إليَّ بحسن ظنّه، وأن ذلك من فضل الله عليَّ ومنّه، فأجبته إلى ذلك، وسألت الله عز وجل أن يرفع لنا أنوار هذه المسالك، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ثم إن مولانا -أيده الله تعالى- أخذ في تعيين هدية فاخرة، وعارفة تليق بمقامات الملوك، ومكارمه الظاهرة، منوعة أنواعاً، وأسنى من هدية الملك إليه وأطول باعاً، من خلع الديباج العجيبة، ومطارف الملوك السنيَّة القشيبة، والسيوف القاضبة القاطعة، والدروع القاضبة السابغة، والبنادق الفاخرة البالغة، مع شيء من آلات الخيل النفيسة، والأتراس المناسبة لكل حضرة رئيسة، ولما استكمل -أيده الله تعالى- ما يريد من ذلك أمر بإرسال رسالتين، إلى الملك عظيمتين، كنت أحب إثبات ألفاظهما في هذه الجملة إلا أن إحداهما ذهبت بحريق النار الذي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، والأخرى التي وصلت إلى الملك فاتنا

36 / 116
ع
En
A+
A-