[ما حدث أيام المؤيد بالله في الحجاز]
ولما فتح الله لمولانا المؤيد بالله بن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- كاتبه الإمام فأظهر الموالاة للإمام -عليه السلام- ووقع بينه وبين الأتراك عداوة، فكان من أمره ما تقدم ذكره في سيرة مولانا الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- ولما عاد ولده الشريف زيد بن محسن إلى الحجاز وهو موالٍ للإمام -عليه السلام- وقد أيده الله بإمداده من المال والرجال، ومات الشريف مسعود بن إدريس بعد أن ولى مكة نحواً من ستة أشهر، وصار أمر مكة فوضى، فاجتمع الأشراف على الشريف زيد بن محسن، والشريف محمد بن عبدالله بن حسن، فكان عليها إلى عام إحدى وأربعين بعد الألف[1631م] وعاد طائفة من الأتراك-أقماهم الله تعالى- الذين كانوا باليمن، وكان أمراؤهم من أصحاب الباشا الهالك في جده المخرج للشريف محسن من مكة، كما هو في السيرة المؤيدية مستوفى، فرشوا أخاً للشريف أحمد بن عبدالمطلب يسمى نامي ودخلوا مكة عنوة[71/ب] وقتلوا جماعة من الأشراف مع كثير من غيرهم، منهم الشريف محمد بن عبدالله بن حسن ونجا الشريف زيد بن محسن وأنفار حتى استجاروا بالمقام النبوي والحرم المصطفوي، وكان هنالك.
ولما خرج الأمراء من أهل مصر على أولئك الذين عبثوا وأفسدوا في مكة، استخرجوا الشريف زيد بن محسن، وولده وخلعوا عليه، وأعانوه بالمال والرجال، وذلك في أول عام ثلاث وأربعين وألف[1633م] وحسده الأشراف وخرجوا عليه، والإمام المؤيد بالله -عليه السلام- يداري من لجأ إليه منهم، وتتابعوا إلى الإمام المؤيد
-عليه السلام- وهو يقرر لهم العطاء الواسع، والكفايات الفايضة ويمد الشريف، فمن ذلك أن الشريف عبدالعزيز بن إدريس وإخوته كانوا بمكة المشرفة ويظهرون للشريف زيد الطاعة، وهمهم الغوايل والفساد عليه، وكان يروى للشريف عبدالعزيز وأخيه مبارك بعض نسك، فمال إليهم الأشراف ومناهم الأمير المتولي من قبل الأتراك في بندر جدة، وهو الأمير غيطاس من عظمائهم بولاية مكة وأنه يعزل الشريف زيداً وعظم ذكر ذلك، وكاد الشريف عبدالعزيز يظهر أمره بمكة، وكان ربما يأمر وينهي في مكة قبل أن يظهر أمره، وتوصل إلى حصول الإختلاف بينه وبين الشريف زيد فتفرق الأشراف عليه، وقد وعده بذلك أكثرهم سراً، ولكنهم ممن لا يقدر على المشاق بمكة، والشريف زيدٌ -أيده الله- قد عرف ذلك فتغافل عنه مدة، واستمد من صاحب مصر عسكراً.
ولما كان في عام أربع وأربعين وألف[1634م] وهبط الشريف عبدالعزيز إلى جده، وأظهر أمره وأمر صاحب جدة بأن ينادي بولاية الشريف عبدالعزيز، وأخذ في مكاتبة الأشراف والترغيب والترهيب، واتهمهم الشريف زيد بن محسن أيضاً فانقبض عنهم وأقل ذكرهم، وكادوا يخلون من مجلسه، ثم إنه خرج الشريف عبدالعزيز وصاحب جدة بمضاربهما ومن أجابهما مع رتبة جدة من الأتراك لإرادة الصعود إلى مكة المشرفة، وقد قيل للشريف زيد بن محسن بذلك فسكن في موضعه وجعل العيون عليهم، ثم إنه خف من فرسانهم أنفار إلى حدّه -بالحاء المهملة- ووصل الخبر إلى الشريف زيد فقام من حينه، وأمر بخفق الطبول وما يجمع من الأشراف في عادة مكة، وركب فاستل سيفه، وكان أول من حضر عند الطبل المسمى الزير، وقلب فرسه -عليه السلام- حركة الطبل وهي الإمارة في عرف أهل مكة، فحضر الأشراف جميعاً، فكانوا كذلك فأغار بهم إلى جهة طريق جدة، ولهم شعار وحامية[72/أ] حكى ذلك من شهده، فوجدوا أولئك الفرسان قد رجعوا إلى محطهم الأول، فعاد للشريف زيد بن محسن ظنه في الأشراف، فأوقفهم على أمره يستنصحهم وأفاض عليهم الإحسان، ثم إن الشريف عبدالعزيز والأمير صاحب جدة، قدما قريب من طريق العمرة، وقد جمع الشريف زيد جموعه وأخرج مضاربه إلى خارج الحرم وعسكر هنالك.
ولما طلعوا عليه قسم الأشراف من خاصته مثل الشريف الكامل أحمد بن الحارث ذات اليمين وذات الشمال، فكانوا كالجناحين وبقي هو في المضرب المتوسط ظاهراً لم يركب، وجعل في القلب حماة أصحابه، وحصل الطراد ثم الرمي بالبنادق وقتل من الأشراف الذين كانوا مع عبدالعزيز فارسان من عمدة أعوانه وأنفار من العسكر، وقد أمر الشريف زيد أصحابه أن لا يعترضوا للأتراك بشر مهما وجدوا إلى سلامتهم سبيلاً خوفاً من العواقب.
وكان لمولانا محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين رسول إلى الشريف زيد بن محسن لبعض الأغراض، فوافى هذا الحرب، واستعار من الشريف أو من بعض أصحابه بندقاً ورمى بها فأصاب أحد الأشراف المقتولين من أصحاب الشريف عبدالعزيز وغيره، وكان هذا الرسول من أهل الحيمة، ثم أُصيبت الجمال التي تحمل الماء للشريف عبدالعزيز وللأمير المذكور وعقرت، (ثم آنيتها تقطعت) فانكفى ماؤهم فأجهدهم العطش والسموم، وانقطعوا من ورائهم، فانجزل الشريف عبدالعزيز إلى الأشراف الذين في الميمنة واستجار بهم، ثم فعل من بقي من أصحابه كذلك، وبقى صاحب جدة وأصحابه وكانوا زهاء من خمسمائة، فراسله الشريف زيد بن محسن، وأطلق له دخوله مكة إن شاء الله أو العود إلى جدة، فعاد في حكم المؤَّمن إلى جدة، وكتب الشريف زيد بذلك الواقع إلى صاحب مصر وإلى ملك الروم، وكتب الأمير المذكور كذلك، وكان الجواب راجعاً بعزل ذلك الأمير، وابدال ولاية البندر بغيره رعاية للشريف زيد، ولتسكين فتن اليمن التي قد عرفوا مواقعها فيهم، وكتب صاحب مصر إلى الإمام -عليه السلام- بإرسال ذلك الأمير إلى جدة وفيه خضوع وخنوع
من معنى لفظه: وصدر الأمير فلان إن وافقكم وإلا أبدلناه أو كما قال.
كما أخبرني بعض الأصحاب مكاتبة، وقد تواردت كتب الشريف إلى الإمام -عليه السلام- يطلب منه المدد[72/ب] بالمال ويستطلع رأيه الكريم في معاملة ابن عمه الشريف عبد العزيز فأجابه -عليه السلام- بما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلى وسلم على محمد وآل محمد، واعن وأهدِ إلى هذه المراشد يا الله يا رحيم، شد الله أزر دينه الحنيف، وحمى جوزة أهل بيت نبيه الشريف، وحفظ حرمة بيته الحرام، وحرس سوح مشاعره العظام، بما أجراه من جميل العوايد، وأحسن به من غيظ كل حاسد، بما طلعه الصنو السيد الشريف الأعظم، وملك أهل البيت في الحرم المحرم، والذاب لمن أراد فيه بإلحاد يظلم، والدافع عدوان من أراد فيه أن يسلك في سبيل عدوان وهضم، زيد بن محسن بن حسن زاده الله من جميل ما عوده وثبته في ما يأتي ويذر، وما يقول وما يفعل، وسدده ورفع شأنه في درجات خاصة عباده وأسعده، وأهدى إليه شرايف التسليم، وزلايف البركات والتكريم، وعواطف العون الإلهي على مقصده الصالح ومنهجه القويم، وبعد: فإنه كان وافانا كتابه الكريم، وخطابه الشريف الوسيم، على يدي الفقيه شهاب الدين أحمد الحُليبي بتحقيق ما كان[قد] وقع من صاحب جدة من تلك النزعة الشيطانية التي دارت دوايرها عليه.
وكان الله عز وجل وله الحمد بما أيدكم من المعونة بتولي دفعها من لديه، وعوده خائباً بعد أن قتل من أعوانه، واختيار الله وله الحمد الشهادة للسيد ويس بن محمد -رحمه الله- ورفع في درجات الشهداء من شأنه، ثم تعقبه كتابكم الكريم صحبة المحب المخلص حسن بن علي الصنعاني -بارك الله فيه - بما تجدد بعد ذلك من أخبار، ورفع يد المشار إليه عن جده، وما تضمنه من الأغراض المترتبة على ذلك في شأن أهل الأسباب والمسافرين، وتنزيلهم من بندر القنفذة -حرسه الله تعالى- وذكر ما كان اقتضاه الحال من استمداد ما استمددتم من القرضة، وإلى الآن لم يذكر لنا أحد منهم شيئاً من ذلك لحسن ظنهم بوعدكم الكريم، وما يعرفون أنكم لم تستمدوا ذلك إلا لعارض مهم، وتحبون مشاركتكم فيه، ومعونتكم عنده، ولا يفوتكم إن شاء الله ما لديكم، وكيف معولهم بعد الله سبحانه في الإستيفاء ممن يقدر قُوتِه على الله وعليكم، وتعقب ذلك الكتاب الكريم الثالث، وتحقيق عزل الأمير الغيطاس، وورود من يقوم مقامه من جماعة الباشا، وأن تلك العوارض إن شاء الله بفضل الله قد زالت[73/أ] والأحوال بحول الله وقوته قد انتظمت، وقد حمدنا الله وهو أهل الحمد على جميع ما ذكرتم من تفضلاته عز وجل ومننه، التي من أهمها وأولها اجتماع قلوب أهل هذا البيت الشريف وحرمهم المنيف، ثم بما من به من عودة كيد الكايد عليه، ورجوع ضرره إليه، ورجونا أن يجعل الله تعالى ذلك إن شاء الله عنواناً لكل خير في الدين والدنيا، وبلاغاً لكل عمل صالح وتقوى، وكفَّا لأكف كل عاد أثيم وحسماً لطمع كل عدو لئيم{ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، والفقيه حسن بن علي الصنعاني أدى ما ذكرتم أنكم أودعتموه إياه من القول، وحقق من الأحوال ما نسأل الله صلاحها إن شاء الله في الحال والمال، من كرم الله وعونه وهو ذو القوة والحول، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وقد توجه إليكم مصحوب السلامة والكرامة، بما تطلعون إن شاء الله عليه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم كتب -عليه السلام- إلحاقاً في طي ذلك لفظه: حاوي خير إن شاء الله تعالى، وقفنا على الملحق الكريم بتحقيق حال الخاصة، وما لحق من الخاصة، وقد عوّد الله الجميل وحسبنا الله ونعم الوكيل، ووعده عز وجل باليسر على أهل ملك البقاع الشريفة صادق، وعود الحال لأحسن ما كانت عليه منتظر، فثقوا بوعده وتوسلوا إليه تبارك وتعالى بما أشرتم إليه من حسن مقصدكم، وحميد صالح نيتكم في صلاح البلاد والعباد، وحفظ جوزة هذا الحرم الشريف، والبناء النبوي الحنيف، عن عدوان أهل الفساد فلا تلجأوا إلاَّ إليه، ولا تعتمدوا إلا عليه، وابشروا إن شاء الله بالظفر وحسن العاقبة إن شاء الله والأثر، فإن العاقبة لمن اتقى وصبر، والذي التمستموه من الرأي بعد استخارة الله.
أمَّا ما يتعلق بجماعتكم الأشراف جمع الله شملهم، وألف بين قلوبهم، فما يسع إلاَّ احتمالهم كيف كانوا والصبر عليهم، وإن يكونوا فإن لهم أولاً حق الرحم، إنما هم والد وولد وأخٍ، وهم العدة إن شاء الله على الأعداء والأعوان عند الحقائق على النوايب (والمرءِ كثير بأخيه) ومثل هذه الحادثة قد أبانت بفضل الله عن حفظهم لشرفهم، ورعاية حق سلفهم:
فاحفظ أخاً لك على ما كان فيه ولو
ضاقت به النفس واحذر قول كل خلي
وكن حريصاً لما فيه اجتماعكما
فإن ذلك أزكى القول والعمل
[73/ب]وقد قال أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- في وصيته للحسنين - سلام الله عليه وعليهما-: ((أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله عز وجل، ونظم أموركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما ً يقول: ((صلاح ذات البين أفضل عند الله من عامة الصلاة والصيام )) .
وأما شأن الرعية والأعراب فإنما يُستجلبون بالرفق والتيسير، ومداوات علل رؤسائهم وكبرائهم، بشيء من الدنيا، ويحسن الوفاء لهم بالوعد واصطناع المعروف، فهم تبع في الغالب لا كما توهم وإنما يتوهم في بعض الأحوال فإنهم لا يرجعون إلى غيرهم عند النوايب، وأما أمر العدو الثالث فاستكفئوه بالله عز وجل{عَسَى الله أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} وبالتوسط في المعاملة بين التفريط والإفراط، ما دامت الضرورة مُلحِّة إلى معاملته ومداجاته لحفظ جملة الإسلام، ومعالم الدين فلا يوحش حتى تخفف العداوة فتحمله على الشطط، ولا يطمع فيخيل الضعف والوهن فيتحكم ويتجرأ، وإن كانت حوايل دفاع الله حايلة إن شاء الله بينه وبين ما يروم، ثم انتظار فرج الله يصلح جميع ذلك إن شاء الله. انتهى. وكتب في عام ثلاث وستين [وألف] .
وقد عظم حال الشريف مبارك بن شبر بن حسن بن أبي نمي، وهو بقية من عظمائهم، وعمدة من زعمائهم، مما أخبرني به مولانا أمير المؤمنين -أيده الله- إن الشريف زيد بن محسن -أيده الله- طالعه في مكاتبة في تحويل إمارة مكة إلى الشريف مبارك مرة، أو قال مرتين وإنه في بعض طلب من الأشراف إقالتهم الإمارة وأن يعينها وإياهم لهذا الشريف وأن الإمام (عليه السلام) لم يرد ذلك في كلام ساقه عليه السلام في ذلك فعظم هذا الشريف عند تعيينه، وطلب من الشريف زيد أن يجعل له الربع، فلم ير ذلك الشريف وقال: أردتك للجميع وتحمل مؤن الجميع، وتتركني أكون في الحجاز، ولا أطلب منك شيئاً وأجاهد العصاة أو كما قال، فخرج هذا الشريف مبارك من مكة لإرادة الشقاق، وكان مولانا عز الإسلام محمد بن الحسين -أيده الله- المتوسط في إصلاحه فلم ير ذلك الشريف زيد بن محسن صيانة لجانب مولانا محمد بن الحسين، لما يعرفه [من] جهل صاحبهم بما يحق له من التعظيم، فلم ير ذلك مولانا محمد -أيده الله- أو قال: إني أخاف من الإمام -عليه السلام- [74/أ] أن ينسبني إلى التقصير، أو كما قال، فوصله إلى خارج مكة وهو معسكر هنالك، فلم يكد ينصفه في السلام فضلاً عن الكلام، وأظهر غلظة البدوان التي ربوا عليها، وأخلاقهم التي لجأو إليها، وطلب من مولانا محمد أن يضمن له بما لا يحتمله الحال، وعاوده أخرى إلى ذلك المحل فتكلم بما لا ينبغي، كما أخبرني بعض أصحاب مولانا وتركه وعاد إلى اليمن، ومكث الشريف مبارك أياماً وهلك.