[دخول الإمام المتوكل على الله شهارة]
ثم تقدم الإمام -عليه السلام- من صنعاء إلى بلد جدر من بلاد بني الحارث، ومنها سرى ليلاً فأصبح في عمران ولم يشرب في بلاد همدان الماء كما بلغ احتياطاً وتقززاً من أن يبقى عليهم شيء من باطنهم الخبيث، وبقي في عمران[ ] ثم تقدم إلى جبل عيال يزيد ثم منه إلى بيت بني علا من الأكهوم ثم إلى السودة وقد تلقاه أهل تلك الجهات من شظب وغربان وبلاد جنب والسودة، وما إليها ثم ظليمة والأهنوم أفواجاً بالضيافات والهدايا والنذور والمصارفات، ولقد أخبرني من شهد ذلك أن الإمام -عليه السلام- لا يجد مع المشي موضع قدمه إلا بمشقة لازدحامهم عليه، وكادوا يتهالكون عند رؤية طلعته الكريمة، وأقام في السودة [ ] ثم تقدم إلى محروس أقر من أعمال البطنة وأقام[ ] ثم صعد شهارة المحروسة بالله تعالى، وكان أهلها قد طال عهدهم بالإمام -عليه السلام- وضاقت صدورهم لاعتيادهم بقاه فيهم فأنسوا به، وكثر الوافد [ون] إليه والزائرون حتى أنه كان -عليه السلام- يجعل لكل قوم مكاناً يكونون فيه فيملئونه بقراً وغنماً وغير ذلك من الضيافات والنذور فإذا فرغوا دخل غيرهم وهو مع ذلك يوسع كفايتهم وينزلهم منازلهم.

مما أخبرني بعض المترددين من رسلي وقد وصف كثيراً من سعة صدره وضيافته لكل ما ينبغي من أكثر من ذلك الوصف، وأنه سمع في الليل رسولاً من الإمام -عليه السلام- يسأل قوم من وادعة فلما وقف عليهم قال: فلان المهتار عندكم، قالوا: نعم، فقال الرسول: هذا عشاءاً له من الإمام يختص به ومصروف ودهنة يدهن بها قدميه وهذه إزار سوداء من صوف الغنم مما يستعمل سجادة للصلاة له أيضاً.
قال الراوي: فسألنا عن سبب ذلك، فقال: إنه -عليه السلام- طلع وادعة مع عوده من زيارة المشهدين المقدسين ظفار وذي بين في أيام الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- ففعل إليه هذا المهتار معروف، وأعطاه دهينة ودهن قدميه مع [65/ب] حاجته لذلك، ثم مسحها بإزار له كذلك سجادة، ومما قيل في ذلك من التهاني................. .

[ذكر ما حصل من الاختلاف في عذر والعصيمات]
[66/أ] فصل نذكر فيه مقامه -عليه السلام- في شهارة المحروسة وما اتفق فيه من الحوداث.
لقد ذكرنا ما حصل من الاختلاف فيما بين عذر، ثم في بعض العصيمات، ثم بلاد بني عريان من أعمال المير وطريق حيدان، فإنها كثرت فيهم المفاسد وظهور المنكرات وقطعوا السبيل، فأرسل عليهم الإمام -عليه السلام- عسكراً أميرهم الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل فأتاهم من قبل المشرق ومن وجهة الهيجة من بلاد أبي زيد عسكراً أيضاً عليهم [........] من جهة المغرب، فأوقعوا فيهم وانتهبوا أنعامهم وقتلوا منهم وعادوا بالغنائم الواسعة حتى ملئت شهارة وحولها[وبلغ ثمن الرأس البقر الذي بعشرين كبيراً] أربعة دراهم، والشاة الواحدة درهم واحد، فاستقاموا بعدها، وتركوا الفساد، وأمنت السبل، وتسمى[هذه الغزوة] غزوة ذو غيثان، ومن ذلك وقعة في عذر ولعلها قبل الأولى فإن الإمام -عليه السلام- راسلهم إلى الانقياد، فجمحوا وعاملهم بالرفق فطمعوا، فأرسل عليهم عسكراً فانتهبوا أنعامهم وأخذوا منهم أشرافاً، فاستقاموا بعدها وانتهوا عما كانوا عليه وتابوا، وكان أميرهم الحاج المجاهد سرور بن عبدالله بن مولى مولانا الحسن وتسمى غزوة درب الحجر، وكان هذا درب الحجر مخزاناً لذو سلاب ، وكان رأس الفساد في رجل يسمى ابن عليا من ذو منصور قد انتهى فساده إلى مكة المشرفة، ووصلت مطالعة الشريف الجليل زيد بن محسن -أيده الله- فيما أخبرني من أجله الفقيه علي بن قاسم الملك الأهنومي وفاة المذكور هرباً، ثم وصل إلى الإمام -عليه السلام- بأمان، وأظهر توبة، واستحلفه

الإمام -عليه السلام- أن لا يعود، فلما وصل خارج شهارة سأله بعض من يعرف أمره ما فعلت فقال: أعطيته من رأس أصابعي يريد أرضيته باليمين، وأنا عايد لحالي الأول، فأصبح ثاني ذلك اليوم أو ثالثه ميتاً فجأة، وأراح الله منه البلاد والعباد، وبعد أن وطأهم العسكر ،وأخذوا منهم رهاين صلحوا، ثم إنه -عليه السلام- خرج بعدها إلى جبل ذري، ثم إلى جانب عذر، وزار الأمير الشهير مجد الدين يحيى بن الأمير الداعي إلى الله بدر الدين -عليه السلام- إلى الخموس وذلك في شهر[.....] من عام[..........] ثم إنه تعلق بجبال العصيمات بكثرة عسكره غير أنهم منتشرين على صفة الطاغين في البلاد، فارتاع لذلك[66/ب] العصيمات، وعرفوا أنه -عليه السلام- قاصداً لهم، فأقبلوا إليه فلاذوا به وتبركوا برؤيته والإحتكام له، وأضافوه وأكرموا من لحق به، ولقد أخبرني من شهد ذلك أنه صار للرجل الواحد رأساً من الغنم، ثم خرج من بلادهم إلى حوث.
ومما أخبرني به -صلوات الله عليه- في معرض ذكر الظنون وأنها تخطي في غالبها بأن قال: إنه كان بلغه وهو في تعز العدنية في أيام أخيه مولانا المؤيد بالله -عليه السلام- بعض المنكرات وذكر حديثاً طويلاً، أفضى إلى أن غار إلى موضع من بلاد السلمي ولحق العسكر ارسالاً . ولما عاد في الليل وقد لحقه ومن معه تعب، وكان ممن معه من العسكر قوم من العصيمات فذكروا معقلاً في بلادهم يسمى كوكب، فقال قائل منهم: ذلك موضع لم تصله الدولة مذ كان، فقال -عليه السلام-: إن شاء الله نطلعه ونأخذ الحق من أهله.

قال: ثم تدارجت [الأيام] ، ولما صارت الخلافة إليه -عليه السلام- وطلع هو وهذا العسكر الكثير، وأخذ قوماً من العصيمات ووصل بهم هجرة حوث لجراير كانت بينهم، وأقام التناصف في هجرة حوث مما قضاه الشرع الشريف -أعزه الله تعالى- وزجر قوماً وعاقب آخرين.
قال -عليه السلام-: وكانوا يقولون له يا مولانا تحلة قسمك في طريق النجد لتطأ كوكباً، فقال -عليه السلام-: مقسماً بالله أني لم أذكر ما [كنت قد] قلته إلاَّ منهم.
وأخبرني القاضي محمد بن صلاح البشاري العذري أنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- محمد بن ناصر بن مطلق الغزني، وأخوه هادي بندر فرده إليهم، وقال بلغني عنهم الربا والمعاملة به، واستتابهم وحلفهم، فما كان نحو اسبوع إلا وماتا وامتحق مالهما. وأقام -عليه السلام- في حوث أربعة أيام ثم عاد إلى زاقر وبقى فيه أياماً وطلع شهارة المحروسة بالله في شهر [........] .

[إقامة دار الضرب]
وفي أيام إقامته في شهارة أمر بإقامة دار الضرب فيها وجعلها أربعة أنواع درهماً كبيراً على وزن الدرهم الإسلامي في نهاية من طيب الفضة، مكتوباً في أحد جانبيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخر المتوكل على الله أمير المؤمنين إسماعيل وتأريخ الضربة، ومحلها بمحروس شهارة.
والنوع الثاني: قطعة أغلظ منها، وأثقل في الوزن[67/أ] مكتوباً في جانبه اسمه -عليه السلام- وشهارة المحروسة، فالثمان من الأولى: حرف واحد، ومن الثانية الخمس منها: حرف واحد، فيكون الحرف من الأولى: ثمان، ومن الأخرى: خمساً.
والنوع الثالث: كل بقشة بقشتين، يكون الحرف منها عشرين كبيراً.
والنوع الرابع كما سبق قبلها من ضريبة اليمن البقشة برأسها الحرف أربعون كبيراً ، وأمر بذلك في صنعاء وكوكبان، وانتشرت في البلاد، وتهاداها الناس في أول خروجها وهي النوع الأول التي الدرهم منها خمس وصل به الحاج مكة والمدينة، وكان لها موقع وطارت في الآفاق، وكان فيها هيبة له -عليه السلام- قاطعة لطمع الأتراك في اليمن وغيرهم وذكرها الفضلاء في أشعارهم............ .

[رسالة الإمام المتوكل إلى دعاة الباطنية]
[67/ب] وبلغ الإمام -عليه السلام- أن من همدان صنعاء وحراز من اتهم ببقائه على باطنهم الخبيث، وأنهم ألحقوا ضلالهم القديم بالحديث، فكتب إليهم مرشداً إليهم معلماً ومرشداً ومحذراً لهم من موجب السب، واراقة الدماء، وبرهن على الدليل، وأوقفهم على الحق الذي يعرفه كل عاقل، وأتاهم بما هو الحق الذي لا يخفى على العالم والجاهل، فقال -عليه السلام-: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلى وسلم على محمد وآل محمد، وارحم وأهد ولقًّني حجتي ، وأذقني عفوك ورحمتك ولا تحرمني رائحة الجنة يا رحمن، وبعد: فاعلموا أن أوجب الواجبات النصيحة وهي على أئمة الهدى أوجب وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ألزم،[لما] تحملوه عن الله وعن رسوله من عهدة التبليغ، وأمانة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحق ذلك ما حفظ الدين والتقوى، وبلغ إلى منازل رضوان الله الذي هو الغاية القصوى، وأنتم قد اعتزيتم إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتسبتم إلى محبتهم ولن يتم لكم ذلك إلا باتباعهم في الإعتقاد والقول والعمل، فإن اعتقاد آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والبعث والنشر والحساب والكتاب، والجزاء بالثواب والعقاب{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا

فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وتصديق جميع ما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما تفهمه العقول والألباب، واللغة العربية، وأن خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لم تجر إلا على هذا الأسلوب ليس فيه تلبيس ولا تعمية ولا كتمان، ولا إخفاء ولا باطن لاتفهمه العقول ولا الألباب، ولا تدل عليه اللغة العربية.
وأما قول أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو ما علمهم الله عز وجل وأنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تبارك وتعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا[68/أ] أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .

وأمَّا عملهم فيما نظمه قول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} يعتقدون هذه على ظاهرها ومعناها الذي يدل عليه فطر العقول وألباب أهل البصاير، ولغة العرب الفصحى لا يدَّعون لها باطناً، ولا يدينون بخلاف ما يقتضيه أمرها ونهيها ظاهراً، وقد بعّدكم الله وله المنة عليكم في هذا الزمان من مقارنة أهل الضلال، وخدع أهل المكر، ومن يكيد الإسلام، ويريد تبديل الدين، ويغر عباد الله بإدخالهم فيما لا تفهمه عقولهم، ولا تعيه ألبابهم، ولا تقتضيه لغتهم، فإنهم لم يريدوا بدعواهم الباطن غير خدع الجاهلين واضلال العالمين، وابطال خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: إن للظاهر باطناً على خلافه لا يطلع عليه غيرهم، وانظروا بعقولكم فنحن نحاكمكم إليها،

ونحيلكم عليها من أحق بالتهمة الله عز وجل مع ما أظهر من آيات قدرته، وبينات آياته ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم مع ما ظهر على يديه من المعجزات، وجرى في تصديقه من البراهين النيرات، أم هؤلاء الذين أدعوا بالباطل بمجرد أقوالهم، لا يحيلون ذلك على عقل عاقل، ولا فهم فاهم، فإنه والعياذ بالله إذا صح التلبيس في خطاب الله عز وجل وهو (العليم الحكيم) وجاز أن يريد بكلامه أمراً باطناً لا يعرف كلامهم الذي ادعوا أنه الباطن أحق بأن تقع فيه التهمة، وتتعلق به الريبة لأنهم ليسوا بأرباب ظهرت آياتهم، ولا أنبياء ظهرت معجزاتهم، وإنما هم من جملة عباد الله وخلقه، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشورا، ولا يدري أحدهم ما ينزل به من فقر ولا غنى، ولا صحة ولا سقم، ولا مرض ولا هرم، ولا موت ولا حياة، وهل يمكن العاقل[68/ب] إذا صدق دعواهم أن يتصرف بعقله، أو فهمه أو لغته أو عرفه في نفسه أو في ولده أو في أخيه أو في مملوكه، أو في أي شيء مما خوله الله من نعمه؟ لأن كلامهم ذلك يؤدي إلى أن نجوز الأمر في حق نفسه على أمر باطل مخالف لما يعرف، وكذلك في ولده وماله وزوجته ومملوكه وأكله وشربه ولباسه، وجميع تصرفاته، فكيف يسوغ الإنتفاع بشيء من ذلك، وهو لا يدري حكمه، ولا ما باطنه؟ تأملوا رحمكم الله تعالى ذلك بعقولكم وأفهامكم فما منكم إلا من له عقل وفهم ونظر، وانظروا إلى كتمانهم لدعواهم هذه لو كانت حقاً لما كتموها عن أتباعهم وأسروها في أنفسهم، فإن الحق والصواب لا ينبغي أن يستر:

32 / 116
ع
En
A+
A-