وأما السيد إبراهيم فإنه لما بلغه وصول مولانا الصفي -أيده الله- دخل قراض وبلاد آل الخطاب وبقي فيها أياماً، وراسله مولانا أحمد بالمكاتبة فيها تذكيره وتحذيره مما يعظم ضرره عليه وعلى المسلمين، فعاد جوابه بالدخول في الطاعة، واستدعى عدة من الفضلاء يصلون إليه، منهم سيدنا العلامة المجتهد الصمصامة عين الشيعة، وشمس الشريعة، أحمد بن يحيى بن حابس الدواري الحاكم، والسيد الفاضل العالم شمس الدين أحمد بن عبدالهادي بن هارون، والقاضي العالم الكامل شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال، وغيرهم من العيون، فلما وصلوا إليه أظهر التوبة مما كان[62/ب] منه من نكث الأيمان بعد توكيدها، والشقاق الذي فيه تفريق كلمة الحق وتبديدها، وأشهد على نفسه بذلك وأمر القاضي شمس الدين بالشهادة عليه، والحكم بما أظهر من الطاعة، فكتب القاضي حُكماً بتوبته، وحكم بها والرجوع عن معارضته وسارت بها الركبان، وكتب بها البشارات إلى جميع البلدان.
وهذه القاعدة التي كتبها وأشهد عليها عنوانها ما لفظه: سيدي المولى أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، ومن لديه من السادة الكرام والقضاة الأعلام والمشايخ الفخام، وكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمدلله مدبر الأمور على مقتضى ارادته و{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } المتصرف في مصالح خلقه على مر الدهور بلطيف حكمته من غير موازر ولا ثان، المُملك المُلك من عند من ملكه في الكتاب مسطور في سالف أزليته، فأنّى لغيره سلطان، والصلاة والسلام على الهدى والنور والمبعوث لاعلاء كلمته إلى الإنس والجان، وعلى آله المطهرين (أحسن طهور) من رجس الشيطان ومعصيته فهم لأهل الأرض أمان، وبعد فليعلم من على البسيطة من داني الأرض وأقاصيها، من أتهم بغورها وأنجد بصياصيها ، أن الداعي إلى الله بالمغفرة وراجيها، إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عزالدين ثبته الله على قواعد الشريعة ومبانيها، يقول: لما ظهرت الدعوة المتوكلية ظهور الشمس عقب ليل الفتن التي حارت فيها ذووا الألباب، ودان لها ذووا العقول، وخضعت لخضوع الذليل غلب الرقاب، ورفعها المسلمون مُعزين لها ومُكرمين، وذهب إليها العلماء ثباتاً وعزين، ووكل قوماً ليسوا بها بكافرين، حتى صارت ماضية لشأنها، قاطعة لعنانها، قائلة بلسانها:
دعوني أجوب الأرض في طلب العلى .... فلا الكرخ في الدنيا ولا الناس قاسم
وعقد المسلمون للمسرة بها تاجاً، ووهجوا للجذل بها سراجاً وهاجا، ودخل تحت أوامرها المسلمون أفواجا، وجاءوا نحوها أفراداً وأزواجا، وما ذاك إلا أن محتملها ينبوع العلم الفوار، وغيث الفضل المدرار، وزبِرقان الفلك الدوار، وطراز علالة المعالي والفخار:
عليم رست للعمل في أرض صدره .... جبال جبال الأرض من دونها قُف
ذلك فاتح الأرتاج[63/أ] ودرة التاج، المولى أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين فعند أن اختصه الله بالخصايص الجليلة، ورأيت المصلحة في معارضة مثله قليلة، وكان الله قد أمر بالوفاق، ورغب فيه وحث عليه، وقال تعالى{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} سلمت ما كنت تحملته من الأعباء الثقيلة، تسليم راضي لا شبهة فيه ولا حيلة، لوليه وابن وليه الإمام المذكور المشهور، المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم المنصور:
إذا الأمر هذا لا يليق بغيره .... فألقى إليه قوسه ومشاقصْه
ولا شك أن الله راضٍ بدعوة .... إليها قلوب الخلق لا شك شاخصه
ولم يشترط عليه في ذلك تسليم إلا ما شرطه الله عليه ما بقي -أيده الله- على حالته المرضية، سائراً على الكتاب والسنة النبوية، شعر:
رهاناً قد خففت عني ثقلها ... على نية لله والله خالصه
فها أنذا سائرٌ تحت لواه، مهتد بهداه، ملتزم أحكام الطاعة، داخلٌ تحت جمعته والجماعة، على مقتضى ما يريده الحق، من طاعة الأئمة الذين هم أمان الخلق، ما طابقوا مراد الله، والتزموا طاعة الله، فليعلم من وقف على مكتوبي ما التزمته من أحكام الطاعة للإمام، وأن ما تقدم مني من مقتضيات النظر الذي اعتقدت فيه المطابقة لمراد الملك العلام، فإن كنت في ذلك موفقاً لمراد الله فقد ما مضى ما فيه من أجر، وإلا فأنا أستغفر الله وأسأله حسن العاقبة، وإليه ترجع الأمور، والإنسان محل الخطأ والنسيان، والكريم محل المسامحة والغفران، وقد ألزمت النفس طريقة الاقتصاد، والتمسك بالوفاق، وأوقفتها في حلبة السباق، على قصبة المصلين وحديثها عن ادراك (شأو السباق)، ومن سبقت منه إساءة إلى ظن إني بها قمين، فقد سألت الله أن يغفرها له وهو أرحم الراحمين، وجل من لا عيب فيه، وعلا عن كل قول ذميم، وقلَّ ما سلم من الخدش أديم:
ألا لا أبالي من رماني بريبة .... إذا كنت عند الله غير مريب
ولا شك أن مثل هذا الأمر لمثلي في هذا الزمن لا يدخل فيه إلا من جذبته أمراس الاغترار، ولمعت له بوارق الأماني من بين عارض شبه الوجوب، وما هي إلا اعصار فيه نار؛ فعلمت ما كنت جهلته بعد الدخول فيه، وأبقيت بعد الخروج منه أن الله قد خفف عني[63/ب]الأصر، واختار لي ما لا أختار{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله وسلم.
حررت بتاريخ شهر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وألف[يونيو 1646م] وكتب مع ذلك إلى الإمام -عليه السلام-:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} سيدي ومولاي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين، إسماعيل بن أمير المؤمنين -حفظه الله تعالى وحماه وحرسه ووقاه- وأهدى إليه من أخيه في الله الفقير إلى الله إبراهيم بن محمد شريف السلام، وزليف التحية والإكرام، فصدرت معرفة له -أيده الله- بأني ما زلت أستخير الله ونعم المستخار، في كل عشي وأبكار، أن يقضي لي بما هو المختار، في ديني وآخرتي التي هي دار القرار، فقضى سبحانه وهو الناصح الذي لا يغش بالقاء هذا العبء الثقيل وتحميله وليه وابن وليه على محكم كتاب الله وسنة نبيه، من غير أن يشاب ذلك بشائبة من الأمور الدنيوية، بل يكون عملاً من خالص الطوية ، وقد قضى النظر في باديه بوضع كان ارسلنا به إلى الصنو السيد صفي الإسلام أحمد بن الحسن -حفظه الله- ثم أنه تعقب ذلك ما ذكرناه لكم من صنع الاستخارة، فتقدمنا عقيب ذلك إلى محروس قراض، والقاضي صفي الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال وله العناية التامة في النصيحة لله ولكم، فوجدنا فيها الوالد السيد العلامة المهدي بن الهادي -أبقاه الله- وقد تقدم بوضع من الصنو صفي الدين أحمد بن الحسن-حفظه الله- فيه أمان شديد وذكر شيء مما يتعلق بالقرابة، بعد أن كنا أردنا التنبيه عليه-حفظه الله- بما صنعت استخارة الله سبحانه وتعالى فحمدنا
الله على تطابق الكل على مراد الله، ثم إني كتبت إلى الصنو صفي الإسلام-أبقاه الله- بما كانت النية انطوت عليه، وذكرنا له أن النية قد انطوت عقيب استخارته تعالى على التقدم إلى حضرتكم الشريفة المكرمة ليكون ذلك زيادة في الإطمئنان، وحسماً للمادة التي تورث وسوسة في القلوب، أو تسويلاً ممن لا يخاف علام الغيوب، وقد كنا اعتذرنا بادئ الرأي منكم ومنه عن هذا المطلوب، حتى أن الله وله الحمد هيّأ ذلك لنا وطلبنا منه وصول جماعة[64/أ] يحضرون على التسليم منا عن رضا واختيار، وذكر له طلب المكتوب منكم-أيدكم الله- على نحو مكتوبه، واعتذرنا عن الكتاب إليكم حتى يقع الكتاب بعد المحفل العام الذي يرضى به الله سبحانه الملك العلام، ثم رجح عندنا أن نقدم بين يدي ذلك هذا المسطور، ونطلب مكتوباً خالصاً للأمان ليس فيه شائبة من تلك الأمور، وهو على النحو الذي وضعه الصنو أحمد بن الحسن، إلا أنه خال عما يخصنا وقرابتنا ليكون العمل على ما قد قضت به الاستخارة لا يكون مشوباً بأمر غيره، فقد صدر إليكم، فلكم الفضل بوضع خطكم عليه وخط من حضر سوحكم الكريم، وإن كانت الغنية بما فعله الصنو شمس الدين -حفظه الله- إذ هو يد من أيديكم عظمى، لكن ذلك زيادة في الإطمئنان والله المستعان، وعليه التكلان، والدعاء وصيتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في محروس قراض صبيحة يوم السبت خامس وعشرين في شهر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وألف[يونيو 1646م].
وفي كتاب القاضي العلامة صفي الإسلام أحمد بن سعد الدين -أيده الله- الآتي زيادة على ذلك مما نقله من كتبه الآتية، وبعث إليه مولانا أحمد بالعطاء الكثير، واعتذر عن الوصول في تلك الحال وعن الوصول إلى الإمام -عليه السلام- لئلا يقال ذلك منه رهبةً وطمعاً، ولما صار مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- في صعدة، وقد تلقاه والده الصفي -أيده الله- بالإعظام والإكرام، وأفصح بشكره في المقال، وأنشد بلسان الحال:
رقدت وطاب النوم لي وكفيتني ... وكل فتى يكفى الهموم ينام
وقد تكاثر العسكر في صعدة، وثقل بقاؤهم فيها، وأكثرهم لا يحتمل أحوال بلاد الشام، فإنها كما قال الإمام الهادي -عليه السلام-:
بني العم إني في بلاد ضريرة .... قليل وداها شرها متتابع
وليس بها مال يقوم ببعضها .... وساكنها عريان غرثان جائع
فألقى الأمور إلى والده الصفي وعاد إلى جهة اليمن، وكان الإمام -عليه السلام- يحب بقاءه أكثر مما يقع في ما بلغ، ولكنه يرى الحاضر ما لا يراه الغائب، وقد صلح الحال، وأثمرت الأوامر الإمامية -أدامها الله تعالى-.
[ذكر تقدم الإمام -عليه السلام- إلى محروس صنعاء وشهارة]
وقد ذكرنا تقدمه المرة الأولى إلى صنعاء للقاء السيد إبراهيم وبقي فيها[....] ثم عاد إلى جهة ضوران، وبقى[........] ثم تقدم إلى صنعاء وأقام بها أياماً[64/ب] وكان قد ظهر في كثير من البلاد اهمال الحقوق والتظالم، منها في بلاد خولان العالية فإنه امتنع أهل ملاحا عن الزكاة وعن عقوبات بسبب حروب اتفقت بينهم لمفاسد ومنكرات فأرسل الإمام -عليه السلام- عسكراً فامتنعوا عليهم. فأمر إلى مولانا أحمد بن الحسن أطال الله بقاه وكان في صنعاء فخرج عليهم في عسكر وخيل وهدم دوراً وقبض رهاينهم بالطاعة وصلح الحال وكان رجل منهم قد تعمد مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- بالرمي بالبندق بعد أن قرب من المحطة المنصورة في غفلة، ونجاه الله سبحانه وتعالى وأخذ الله سبحانه ذلك الرامي بعدها بالجذام كما أخبرني الفقيه أحمد بن عبدالله خصيب الخولاني وغيره، وأرسل الله سبحانه وتعالى عقب ذلك سيلاً عظيماً فأخرب من الوادي المذكور أكثر ما أخربه أهل الحق وصار عبرةً ظاهرةً والإمام -عليه السلام- حينئذٍ في ضوران، ثم إن بني الحارث ومن إليهم من بلاد صنعاء امتنعوا عن بعض الأوامر، فأرسل الإمام -عليه السلام-مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- بنحو ألف من العسكر المنصور، فوطأهم بذلك العسكر ورفق بهم، وصلح الحال وقد كثر في بلاد شهارة وجهاتها الاختلاف بين الناس كما تقدم، وأقام الإمام -عليه السلام- أياماً[.......] وامتدت الضيافات، وكان السيد العلامة (الريِّس) عزالدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله
قد صنع دعوة حافلة حضرها الإمام -عليه السلام- وأولاده وعيون الناس.
وكان [قد] وصل إلى الإمام -عليه السلام- قوم برط، وهم خمسمائة، فتدافع رجل منهم وآخر من أهل الحيمة في الباب، وكان أهل الحيمة كثرة، فافترق الحيان فأما أهل الحيمة فغلبهم عقلائهم ومنعوهم من الحرب، وأمَّا أهل برط فأكثروا الرجم والأصوات والجلبة، فخاف أهل المدينة وكثرت منهم الأصوات أيضاً، فأمر الإمام -عليه السلام- مولانا علي بن أمير المؤمنين المؤيد بالله بالخروج إليهم لدفعهم وكف المكروه، فلم يندفعوا وقد ركب معه فرسان وصاح صايح لا يعرف ممن كان ابتداؤه أن الإمام -عليه السلام- أهدرهم فأوقع منهم من حضروا ورجمهم أهل الدور منها، وطعن فيهم أهل الخيل، وقتل منهم أربعة أنفار من خيارهم، وصوبوا كثيراً منهم وأنتهبت من سلاحهم، فحصل في نفس الإمام -عليه السلام- كثيراً، وكان قد وفدوه قبلها مراراً، وهو في كلها يحسن إليهم كثيراً[65/أ] لسالفهم مع والده -عليهما السلام- ولبعد جهاتهم، وكان قد قال لكبرائهم: قد أكثرتم التردد والناس يتناظرون، فلو قلتم كان أحب إليَّ أو كمال قال، فحصل معه -عليه السلام- لأجل ذلك تعب حتى قال بعضهم أنه رآه يبكي فأرضاهم واحتمل الديات، وبالغ في الإحسان إليهم والإعتذار، فعادوا وقد طابت نفوسهم.