صفة الحرب في الرعارع
إنه خرج من البغاة طليعة من الخيل فوافوا مقدمة مولانا أحمد -أيده الله- فهزموهم، ووصلوا معهم إلى محطة مع هربهم، وهم جمهور ألفاف من جموع الأمير المذكور، وقد طاروا على وجوههم واختار منهم نحو ثمانمائة [مع] أكثرهم بنادق، ونحو أربعمائة من الخيل، وبقوا في الرعارع وأحربوا، وقتل من الفريقين نحو خمسة عشر رجلاً، وسلموا في اليوم الثالث بأمان وصاروا إلى مولانا أحمد.
ولما انهزم الباقون إلى خنفر وقد عرف مولانا الصفي[59/ب] -أيده الله- الطريق ومواضع غلبهم فيها أعمل فيهم الإقدام المعروف، والبسالة التي لا تجارى، واستعان الله سبحانه وتعالى، وعبَّأ راياته وخيله وسرى في الليل حتى أصبح في مكان قريباً من أبين يسمى محل الشيخ، وبلغه الخبر بهرب هذا الأمير، فتجرد بنجائب خيله وفرسانه، ولحقه قافياً أثره إلى مواضع قد بلغه أن المذكور فيها، وأبقى أمراء العسكر عليهم وتشدد عليهم في البقاء في موضعهم حتى يأذن لهم، وقد خاف أن يدخل العسكر المدينة فيتفرقوا ولا يأمن الكرة عليهم، ولما حاذى خنفر إلى جهة المشرق صح له أن الأمير قد هرب في الليل وعرف أنه قد فاته، وأن جموعاً باقية في خنفر. ثم لما ظهر مولانا أحمد قصدوه بحرب شديد وكانوا كثرة، فأرسل إلى عسكره وهم في الموضع الأول ليبادروا الغارة،
وكان ذلك من التدبير النافع مع نصر الله العزيز وحفظه الحريز فإنهم لو كانوا قد تقدموا لما تمكن من جمعهم للحملة، ولما اجتمعوا به حمل بهم وهزم الله عدوهم، ثم إنهم قاتلوا في البيوت والمواضع المرتفعة، فكان البغاة في الظل وعندهم الماء والمجاهدون في السموم ولا ماء معهم، فصبروا ومنحهم الله النصر، فهزموا أولئك وأخرجوهم من البلد وقتلوا منهم زهاء من ثلاثمائة.
وأخبرني من شهد ذلك أن مولانا أحمد وقف للعسكر الذين قطعوا الرؤوس فما زالوا يطرحونها بين يديه حتى قابلت الرؤوس فرسه، ثم انتقل إلى موضع آخر فكان كذلك وغنم الناس ما لم يحتسبوا، ومنهم من ظفر بخزائن من المال، ومنهم من ظفر بسلاح وفضة، وتقدم مولانا أحمد -حفظه الله-[إلى] بيت الأمير المذكور وقبض] ما فيه من الخزائن بعد أن جمع محارمه إلى موضع وجعل عليهم ثقاته معظمين مكرمين وجعل معهم خدمهم، ثم أرسل معهم بعد ذلك الشيخ (الريِّس) المجاهد حسن بن الحاج أحمد بن عواض الأسدي في قوم فسَّلموا بندر عدن بعد أن حاصروا رتبة فيه من أهل يافع، فأقام مولانا أحمد في أبين أياماً ينادي بأمانهم وقد طاروا إلى جهات متفرقة، وكذلك الأمير المذكور قد صار في يافع، وطمع في غارة منهم وهيهات أن يقوى على أكبر مما كان فعل.
وكان مولانا محمد بن الحسن لما جهز صنوه من مدينة إب انحدر في من بقي معه إلى تعز العدنية ، ثم أرسل الإمداد والرتب لحفظ الطريق، وأعد خيلاً تسير مع القوافل، وبذل العطاء والإحسان في أهل المشارق، فقطعوا ما بينهم[60/أ] وبين هذا الأمير من العلايق، وقد احتاط أيضاً بأن أرسل الأمير الكبير عبدالله بن منيف المنصوري الحمزي في عسكره إلى مدينة رداع، وكاتب الرصاص وأحسن إليه، وهو مع ذلك يكاتب الإمام -عليه السلام- بأن يتابع الإمداد، فأرسل مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- ومع عسكره إلى مدينة ذمار لينظر ما يصح من أهل المشرق من التخلية لهذا الأمير أو غير ذلك، فسكتت لذلك الرعاع، وقرت الأمور على المحبوب .
وأمَّا مولانا أحمد -أطال الله بقاه- فإنه قام في خنفر نحو عشرة أيام، وأمر بنقل أولاد الأمير عبدالقادر ومحارمه، وجعل عليهم أخا الأمير المسمى ناصر بن عبدالقادر مع خدمهم وثقاتهم إلى لحج، وقد بحث أيضاً عمن بقي أيضاً من أصحاب المنبسي في حبس الأمير المذكور وأخرجهم ورفقهم من جملة أولاد الأمير عبدالقادر، ثم نقلهم إلى تعز المدينة، وأجرى عليهم الإمام -عليه السلام- النفقات الوافرة، والكفاية الفايضة من كل شيئ.
وأمَّا الأمير حسين فبقى في يافع أياماً، ومولانا محمد يلطف به ويكاتبه ويكاتب من يكاتبه، ويبذل له من الإنصاف، ثم عاد إلى خنفر وجعل له عوايد آبائه من عدن ولحج، وجعل له بلاد أبين أيضاً، وأقره الإمام -عليه السلام- على ذلك وصلح الحال.
[تعيين الحاج ياقوت إسماعيل على عدن]
واستعمل مولانا الصفي-حفظه الله- على بندر عدن مولاه الحاج الصالح المسمى ياقوت إسماعيل، وفي لحج أيضاً بعض خواصه وعاد بالغنايم الواسعة، وفيها جملة من العبيد والإماء، وتحدث من تخفى عليه الحقيقة وأهل الحسد والطعن أنها ملكت الحراير، وكان الأمر كما كان في سيرة الإمام الأعظم المنصور بالله عبد الله بن حمزة -عليه السلام- في جارية صارت إليه من غزاة المحالب، وهي أم ولده الحسن والقصة مشهورة.
نعم! إنه لم يحصل شيء من ذلك مع أنا لو فرضنا صحة ذلك فهو أقل حالاً مما سباه الصحابة -رضي الله عنهم- من مثلهم، وكذا أئمة الهُدى -عليهم السلام- وبنو حنيفة أمثل من هؤلاء طريقة، وأقرب إلى التقوى حقيقة، وكذا بنو ناجية والمطرفية وغيرهم ممن سباهم أئمة الهُدى، وقد تقدم ذكر شيء من أحوال هذا الأمير والدار وأحكامها وما يترتب على ذلك والله الموفق والهادي.
ومما قيل في هذه الوقعة من الشعر....................... [60/ب] -أطال الله بقاه- إلى محروس تعز، وأقام أياماً[ثم انتقل] إلى ذمار المحروسة بالله، ثم إلى الإمام -عليه السلام- إلى محروس الدامغ.
نعم! وكان الإمام -عليه السلام- أرسل قبل فتح عدن وجهاتها السيد الأعلم الأفضل بدر الدين محمد بن عبدالله بن علي بن الحسين بن الإمام عزالدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن الأمير المؤيد أحمد بن يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى إلى سلطان حضرموت والشحر وجهاتها، وبعث معه كتاباً نسخته......... .
[وأرسل معه من العسكر نحواً من أربعين رجلاً من كبار الجند، وأمره بإقامة الجمعة في تلك النواحي، وأمره أن يضرب المرفع بتلك البلاد ويظهر الشعار والتأذين النبوي حي على خير العمل، وتم له ذلك، وكان لذلك موقع، وعاد جواب السلطان بما هذا نسخته.....] والإمام حينئذٍ في محروس ضوران جاهداً مجتهداً في صلاح الإسلام، مُفرقاً للدعاة والولاة إلى جميع البلدان، وبعث رسايل إلى الحجاز وغيره، منها هذه الرسالة......... وإلى جهات جيلان وديلمان كذلك هذه نسختها.......... [61/أ] وتشدد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفرض للعمال، وقرر الأعمال، وولى على القضاء من الحكام، وأكثر من النفقات على الخاص والعام، ووضع عن الرعايا كثير من المعاون المعتادة مع نشر العلم الشريف، وتقريب أهله وتوظيف الوظائف لأهلها كما يفعله ائمة الهدى-صلوات الله عليهم- ومالت إليه القلوب وأحبه من يعرفه ومن لا يعرفه، وتيمنوا بخلافته وانبسط فيهم عَدْله ورأفتُه.
وكان قد حدث عقيب وفاة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- مع تلك الهزاهز والتقلبات التي ذكرنا جرادٌ في غالب اليمن أكل ثماره إلا القليل، وأشفق المسلمون، وساءت الظنون، وهو -عليه السلام- ينفق ما لديه ويمد كل سايل بما قدر عليه، فأغاث الله عباده برخص الأسعار، فإنه مع ذلك الأمر العظيم رخص الطعام حتى بلغ الزبدي حرفين، مع أنه لا يكاد يوجد الطعام في غير الأسواق، وهذه الآية لم يسمع بمثلها، وشاهدة لما روى القاضي العلامة عمدة الموحدين وشحاك الملحدين، عبدالله بن زيد العنسي في ارشاده بالإسناد الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وآله ((إنه لما أمر الله عز وجل إبراهيم -صلوات الله عليه- ببناء الكعبة، سأل الله أن يريه حدود الكعبة فأمر الله الريح فرفعت التراب عن حدود الكعبة حتى ظهرت الأربعة الأركان فوجد مكتوباً على أحد أركانها، وهو الأول منها: أنا الله لا إلا إله إلا أنا رب بكة مغلي الأسعار والأهرا غرار ومرخص الأسعار والأهرا أقفار ))، ثم خلف تلك الشدة الخصْبُ وصلاح الثمار فلم توجد تلك الشدايد أثراً مع عمومها في البلاد، وعَدّ العامة والخاصة أن ذلك من بركات الإمام -عليه السلام- وسعده، فازدادوا إليه قرباً وله حباً، وقد تقدم مثل ذلك.
[فتوى للمتوكل في شأن طفلين يهودي ومسلم رضعا معاً]
ومما حدث في الأيام المذكورة أنه رفع إلى مولانا عز الإسلام محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- أن رجلاً مسلماً من أهل ذي جبلة جاراً ليهودي، وكان المسلم كثير الغيبة عن أهله واليهودي أقل غيبة، فولد لليهودي من اليهودية ولد، وولد للمسلم من المسلمة كذلك، ثم ماتت المرأتان المسلمة واليهودية وبقي الولدان وكانوا أجواراً في حكم البيت الواحد، ورضع كل واحد مع الآخر، وبقي الولدان مع مربية أخرى أظنها يهودية أيضاً، فعاد أبواهما المسلم واليهودي فلم يعرف أحد ولده لاشتباههما؛ فترافعا إلى مولانا محمد بن الحسن -أيده الله- فرفع[61/ب] أمرهما إلى الإمام -عليه السلام-[فأحضرهما الإمام -عليه السلام-]وقال: من أقضى بينكما بتأديب المسلم لمخالطة اليهودي فعزره بالضرب، ثم أجاب بما هذا مثاله الذي نراه والله أعلم: إنه يحكم بابن الذمية بالإسلام؛ لأنه يعلوا ولا يُعْلَى عليه؛...ولأنه صار في دار الإسلام دون أبويه إذ قد صارا مع الإلتباس كالمعدومين،
وأما حكم الصبي في الإرث فمن الأب الكافر لا ميراث لهما لاختلاف الملة، وأما الذمية فلها ميراث ابن؛ لأنها ماتت قبل الالتباس فتقسم بينهم للإلتباس كذلك ومن الأم كذلك، فأما ميراث الأبوين منها فعلى المختار لا شيء لهما إلا تحويل على ما عليه الحق، وأمَّا على القول بالتحويل على من عليه الحق فإذا مات أحد الابنين كان للأب منهما نصف ميراث والأم كذلك، ثم إذا مات الآخر ورثا منه كذلك، ويدخلان على من يدخل عليه الرضيع ويجتمعان للعقد القريب، وهكذا لو كانت الميتة هي المسلمة والإرضاع للمسلمين من الذمية إلا أنه لا ميراث للإثنين من الذميين لاختلاف الملة هذا الذي يقتضيه النظر في هذه المسألة والله اعلم.
[عود إلى أخبار صعدة]
فصل: ولنرجع إلى إلى أخبار صعدة والسيد إبراهيم قد ذكرنا اضطراب الشام واهمالهم حق الله سبحانه وتعالى وحق الإمام -عليه السلام- وأن مولانا أحمد عاملهم بالإحسان فظنوه ضعفاً، ووالى الإمام -عليه السلام- إليهم البر فلم يظنوه عطفاً، وربما ووسايط السوء من الماكرين قطعوا بأن ما كان سببه مقدوراً بين قادرين فقووا ذلك الظن السيء فكثرت المفاسد والحروب بين القبايل، واهمال الحقوق، وظهور المنكرات، فأمر الإمام -عليه السلام- مولانا أحمد بن الحسن -أيده الله- بالتجهز إلى بلاد صعدة، ورسم له أعمالاً يمضيها، وحدوداً يقتفيها، وخرج من محروس الدامغ [......] وأمر إلى مولانا العزي -أطال الله بقاه- أن يمده بالعسكر والعيون والخيل، فأرسل إليه جماعة من الأمراء، كالأمير الكبير عبدالله بن يوسف المنصوري ، والأمير عبدالله بن صلاح الحمزي العفاري، وغيرهم من الأعيان، وأرسل الإمام -عليه السلام- أيضاً محطة أخرى من عنده مع أمرائه فكانوا فوق أربعة آلاف وجهزهم بما يحتاجون إليه وخرج من صنعاء يوم [....] وبات في بلاد همدان، ثم منها إلى عمران وبقي فيه......] . ثم إلى ريدة البون، ثم إلى خمر ثم منه إلى غربان ثم إلى بطنة حجور ثم إلى قرن الوعر، وقد أرسل إليه مولانا الحسين بن أمير المؤمنين -أيده الله- الضيافة والعليق وبقى في قرن الوعر ليلتين، وقد كتب إلى والده الصفي -أطال الله بقاه- إلى صعدة يخبره تقدمه ثم من قرن الوعر مراحل إلى حيدان من بلاد خولان، وتلقاه السيد الفاضل المجاهد شمس الدين أحمد بن الهادي بن هارون، وهو العامل عليها بوجوه
خولان، وقد خاف المحدِثون فلاذوا به، ولما استقر في حيدان أمر بتسليم ما أهملوه من الواجبات، وانصف المظلومين من جميع الجهات، وأخذ رهاين من بعضهم بالطاعة، وصلح الحال وأقام في حيدان أكثر من عشرين يوماً. ثم تقدم إلى وشَحْة من أعمال شعب خولان، وأقام فيها أياماً كذلك ينظم الأعمال، ويقمع الضلال، ويوطي البلاد، ثم تقدم إلى بوصان من أعمال بني جماعة وجانب بلاد بني خولي وأقام أياماً، ودخل يسنم ورغافة وتلك الجهات، وأرسل إلى بلاد رازح عسكراً وصلح الحال، واتفق في أيام اقامته في بوصان أن قوماً اغتالوا نفراً فأراد أن يعاقبهم لما أحدثوه بغزوهم لامتناعهم فتحصنوا في مواضع حصينة، وأرسل عليهم عسكراً قتلوا منهم أنفاراً، وهدموا دورهم وقطعوا أعنابهم، وقتلوا أيضاً من العسكر أنفاراً، ثم قبض رهاينهم، واعتقل منهم وأرسلهم إلى محروس صعدة وعاد إليها.
وأخبرني الفقيه الأفضل علي بن محمد بن عشوان العماري، أن رجلاً في هذه الوقعة هم باغتيال مولانا أحمد بأن يرميه بالبندق وأهلكه الله في ذلك اليوم، نهشته أفعى. قال: والقضية مشهورة في تلك البلاد. انتهى.