وهكذا نرى أن الجرموزي كان على اطلاع ومعرفة بعلوم عصره، ينبئنا بذلك كتابه الذي نتناوله بالدراسة، فهو إلى جانب اهتمامه بالتاريخ وتتبعه بالرصد لمجريات العصر وأحداثه، كان على جانب كبير من الإلمام بالعلوم الأخرى، حيث نجد كتابه زاخراً بالإستشهاد بالآيات القرآنية والآحاديث النبوية، فضلاً عن قصائد الشعر والأمثال.
ولعله في ذلك شأنه شأن غيره من معاصريه الذين تكّونوا بالثقافة الإسلامية التي سادت في تلك الفترة الزمنية.
مؤلفاته
كتب الجرموزي خلال فترة حياته الحافلة بالعطاء أربعة مؤلفات، ثلاثة منها عن الدولة القاسمية، أرخ فيها للأئمة الثلاثة: الإمام القاسم بن محمد، وولديه الإمام المؤيد بالله، والإمام المتوكل على الله.
أما مؤلفه الرابع فقد تناول فيه أخبار ملوك اليمن منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى زمنه.
ولم نقف في ما وقع بين أيدينا من مصادر ترجمته على إشارة تثبت إنشغاله بالكتابة في مجالات أخرى غير التأريخ، سوى كتابه (عقود الجوهر). ويكون بذلك كمن تخصص في علم التاريخ فأبدع فيه. وفيما يلي نتناول بالتفصيل نتاجه الفكري، متمثلاً في مؤلفاته الأربع:
1- النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة
ويتناول هذا الكتاب سيرة الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (ت 1029هـ/1619م) ولا يزال مخطوطاً وتعرف هذه السيرة أيضاً باسم (الدرة المضيئة في السيرة القاسمية). وقد تعرض فيها لجوانب حياة القاسم الشخصية والعلمية، والسياسة والحربية .
وكان الحافز على تأليفه لهذا الكتاب هو ما يذكره الجرموزي نفسه في مقدمة كتابه هذا، بقوله: (...فإني قد سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن ممن بقي، وأجعله في هذه الأوراق اليسيرة، توقيعاً لما أمكن من الجمل...) .وذلك أنه لم يكن خلال الفترة الأولى من حياة الإمام القاسم شاهد عيان وحسب، بل و..(سجل حوادثها المعاصرة له كذلك..) . وحرصاً منه على ألا تضيع أحداث هذه الفترة ووقائعها في طي النسيان، عمل على تدوينها وجمع أخبارها ممن شاهد أو شارك أو اتصل بالأحداث في حينها. وقد أورد نسب الإمام وذكر الرسائل التي كانت تتبادل بين الإمام القاسم بن محمد وبين أشخاص ممن ناصروه، وبعض العهود لتعينيات لأشخاص تولوا الحكم في بعض الأقاليم التابعة للإمام . وتناول أيضاً ما قام به الإمام من اصلاحات في مجالات عديدة، كبناء المدارس والمساجد وشق قنوات للمياه المستخرجة من الينابيع...إلخ.
أمَّا القسم الأخير من الكتاب فقد أفرده للحديث عن ثورة الإمام، وهو الجزء التاريخي الهام من هذه السيرة، حيث تناول فيه تفصيلاً شاملاً لمقدمات الثورة التي قسمها إلى أربع فترات، امتدت الأولى من بدء دعوة الإمام القاسم سنة (1006هـ/1597م) حتى خروجه إلى برط، والثانية من خروجه من برط إلى إنعقاد الصلح بينه وبين سنان باشا، ثم جعفر باشا سنة (1017هـ/1608م)، واختصت الثالثة بحملته ضد جعفر باشا سنة (1022هـ/1613م).
أما الرابعة فشملت معاركه ضد محمد باشا، ثم وفاته في (12) ربيع الأول من سنة (1029هـ/1619م).
كما اشتمل الكتاب ما تناوله المؤلف من تراجم لعدد من العلماء والفقهاء، وغيرهم من الأدباء ممن عاصروا الإمام القاسم.
وانتهى مؤرخنا من تأليف كتابه في عام (1065هـ/1654م)، أي في حياة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وهو ما أشار إليه المؤلف نفسه، في نهاية كتابه بالقول: (حُررت في أيام مولانا أمير المؤمنين، المتوكل على الله إسماعيل لعشر مضت في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وألف من الهجرة النبوية...) .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيرة تعد- بلا ريب- مصدراً موثوقاً لمادة تاريخية غاية في الأهمية.
2- الجوهرة المنيرة في تاريخ الخلافة المؤيدية
أفرد الجرموزي كتابه هذا -والذي لا يزال مخطوطاً - للحديث عن سيرة الإمام المؤيد محمد بن القاسم، منذ توليه الإمامة بعد وفاة أبيه سنة (1029هـ/1619م)، وحتى وفاته سنة (1054هـ/1635م) تطرق فيه إلى ما تمتع به الإمام من سجايا كريمة، كالورع والكرم، وكذا علمه، وما إلى ذلك من الخصال الحميدة.
وقد أبدى الجرموزي اهتماماً خاصاً بتسجيل ثورة الإمام المؤيد وحروبه التي خاضها ضد الأتراك من سنة (1036هـ/1626م) إلى أن تم إجلاؤهم من اليمن عام (1045هـ/1635م). يضاف إلى ذلك تلك الثورات التي قام بها نفر من المعارضين للمؤيد أمثال أحمد بن الحسن بن القاسم .
كما تناول تراجم للمعاصرين من علماء، وفقهاء، وأدباء، ممن عاصروا المؤيد ووالده الإمام القاسم، بالإضافة إلى من اشترك في المعارك التي دارت رحاها ضد العثمانين .
ويتضمن الكتاب أيضاً تلك الرسائل والعهود التي كان يرسلها الإمام إلى أشخاص وجماعات في داخل اليمن وخارجه، تحتوي نصائحه وأراءه في تسيير شئون الدولة .
واهتم الجرموزي في نهاية مُؤْلَّفه بسرد مجريات الصراع الذي دار بين الإمام المتوكل على الله إسماعيل وأخيه أحمد، حول أحقية أي منهما في تولي الإمامة بعد وفاة الإمام المؤيد بالله محمد سنة (1045هـ/1635م).
3- تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار
وهو الكتاب الذي نُعنَي بدراسته، وتناول فيه الجرموزي سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، فعرض في مقدمته للصراع الذي نشب بين أفراد الأسرة القاسمية، على تولي الإمامة بعد وفاة الإمام المؤيد وهو الصراع الذي انتهى بتولي الإمام المتوكل على الله إسماعيل إدارة شئون البلاد في عام (1054هـ/1644م).
كما تناول فيه حياة الإمام المتوكل على الله، السياسية والعلمية، إلى جانب إصلاحاته الإقتصادية، واهتم بشكل كبير بإيراد أخبار حروبه التي خاضها لبسط نفوذه على مناطق اليمن قاطبة. حيث استطاع ولأول مرة في تاريخ اليمن الحديث توحيدها تحت مظلة دولة مركزية واحدة.
وتطرق مؤرخنا في كتابه للعلاقات الخارجية التي أقامها الإمام، مع الدول العربية والإسلامية والأجنبية، وسوف نتناول ذلك تفصيلاً في مَعْرِضِ حديثنا عن الأهمية التأريخية للفترة الزمنية للموضوع.
وتوقفت أحداث الجرموزي في كتابه هذا عند سنة (1074هـ/1663م) ولا نعلم سبباً لتوقفه عند هذه السنة بالذات، فالفترة بين وفاته (1077هـ/1666م) وبين التوقف تمتد لثلاث سنوات. ولعله إنشغل فيها بكتابة مؤْلَّفه موضوع الدراسة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيرة كانت مصدراً هاماً ورئيسياً لمادة تأريخية إعتمدت عليها باحثة سعودية ، ونالت بها درجة علمية-ماجستير- من جامعة الملك عبدالعزيز بجدة.
4- عقد الجواهر البهية في معرفة المملكة اليمنية والدولة الفاطمية الحسينية
وهو رابع مؤلفات الجرموزي بعد سيره الثلاث الآنفة الذكر. إلا أنه لم يقدر أهمية هذا الكتاب، كما يقول الدكتور حسين العمري: (سوى أناس قليلين منهم الشيخ أحمد الجاسر الذي يمتلك نسخة عن الأم المجهولة...) .
تناول مؤرخنا في هذا الكتاب أخبار من ملك اليمن منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم انتهاءاً بعصره، فقسمه إلى خمسة عشر فصلاً، خصص لكل دولة فصلاً (وانتهى فيه إلى سنة (1007هـ - 1598م) في النسخة التي سمعنا بها، ولا يعرف ما إذا كان لها بقية أو أن ثمة نسخة اخرى أكمل منها..) .
وصف المخطوطة
البحث عن النسخ واختيار النسخة الأم
بادئ ذي بدء، أود الإشارة إلى أنني لما عزمت على تحقيق مخطوطة (تحفة الأسماع والأبصار بما في السير المتوكلية من غرائب الأخبار)، للمؤرخ (المطهر بن محمد الجرموزي)، والتي تُعنى بتاريخ اليمن الحديث-لإتصال ذلك باهتمامي وتخصصي- برزت أمامي العديد من الإجراءات التي كان عليَّ اتباعها، سبيلاً في الإهتداء إلى النسخة الأصلية أو أي نسخ أخرى...إن وجدت.
وكانت أولى خطواتي في البحث هي التوجّه إلى فهارس المخطوطات في المكتبات العامة والخاصة، مبتدءاً بفهرست دار المخطوطات التابع للمكتبة الغربية بالجامع الكبير، والتي تضم عدداً غير قليل من المخطوطات، فُهرستْ بطريقة علمية، وبعد جهد مُضنٍ من البحث وفقاً لما هو متبع ومتعارف عليه في مثل هذه العملية، إتضح لي وجود نسختين للمخطوطة، الأولى برقم (2505) بينما حملت الثانية رقم (2504) فأخذت لكل واحدة منهما صورة.
وأود الإشارة بأن نسختي المخطوطة-في الدار- كانتا بورق قديم، بدا في حالة جيدة، وقد جُلِّدتا تجليداً سميكاً، إمتد من الغلاف الأول لكل منهما لسان مثلث سميك ليلتف حول المخطوطة، إمعاناً في الحفاظ عليها من التلف، وهي عادة جرى عليها نظام التغليف قديماً.
إلاَّ أن ما اهتديت إليه لم يكن نهاية المطاف، بل عمدت إلى البحث في المصادر والمراجع اليمنية التي تطرقت إلى الحديث عن الأعلام (الأدباء، المؤرخين...إلخ) مثل (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني) للدكتور (حسين العمري)، و(حوليات يمانية) للحبشي.
ولم يكن ما ذهبت إليه عبثاً، وإنما ليطمئن قلبي، خاصةً وقد ساورني الشك حينها في إحتمال وجود نسخ أخرى غير ما اهتديت إليه، فأردت بذلك أن أقطع الشك باليقين، وبالفعل فقد وُفّقتُ من خلال البحث في تلك الكتب في العثور على إشارة تفيد بوجود نسخة للمخطوطة في مكتبة الأحقاف بتريم في سيئون.
أمَّا ما يخص البحث في المكتبات الخاصة-لدى الأهالي- والتي تزخر بالعديد من المخطوطات القيّمة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مكتبة القاضي زبارة، فلم أعثر في إحداهن على أية نسخة للمخطوطة، وزد على ذلك ما وقع بين يدي مؤخراً وهو كتاب للأستاذ عبدالله الحبشي (فهرست مخطوطات بعض المكتبات باليمن) ويتناول الكتاب في طياته بالذكر العديد من المخطوطات المتواجدة في المكتبات لخاصة، والتي لم أجد بينها بعد بحث وتحرّ دقيقين-في الكتاب- أي ذكر للمخطوطة، وبعد فترة من العمل الشاق في رسالتي هذه حصلت على نسخة مصورة بحوزة الوالد العلامة، القاضي (محمد قاسم الوجيه) رئيس المحكمة الاستئنافية سابقاً، وكنت قد أنجزت (حينها) شوطاً كبيراً في نسخ المخطوطة التي اخترتها من بين النسخ التي حصلت عليها.
وتوخياً للأمانة العلمية، وجب عليَّ أن أشير في هذا الموضع إلى أن الأستاذ (عبدالله الحبشي) أخبرني ذات يوم بأن هذه النسخة ربما تكون النسخة الأم؛ فحسبما جاء على لسانه وبالرغم من أنني كنت قد قاربت على الإنتهاء من عملية النسخ المضنية لمخطوطة، إلاَّ أنني لم أتردد عن إحاطة أستاذي المشرف-الدكتور حسين لعمري- علماً بهذا الأمر، فما كان منه إلا أن وجهني باستكمال ما تبقى من النسخ، والإكتفاء بالإشارة إلى ما ذهب إليه الأستاذ الحبشي.
وفي الثاني عشر من مايو 1996م، أي بعد أن كنت قد فَرغتُ من العمل في إعداد رسالتي، تسلمت نسخة أخرى للمخطوطة (مكتبة الفاتيكان)، أرسلها لي أستاذي لمشرف مشكوراً من مقر عمله في لندن، إلاَّ أن هذه الأخيرة -نسخة الفاتيكان-لم تُشر إليها أي من الفهارس (آنفة الذكر).
وقد سبق أن تحدثت مع أستاذي بشأنها، وذكرت له ما كان من أمر الباحث عبد الله الحييد، وتطرقه بالإشارة إليها في بحث كان قد أعده عن المؤرخ الجرموزي في مجلة (المؤرخ العربي) .علماً بأنه كان قد تعثر عليَّ الوصول إليها-أي المجلة- لعدم احتواء أي من المكتبات الخاصة منها والعامة على نسخة منها. ولذلك حرصت على طلبها من بغداد-مقر صدورها- عن طريق أحد الطلاب الدارسين هناك، والذي قام-مشكوراً- بتصوير البحث من العدد المذكور للمجلة، وإرساله إليَّ، كما تجدر الإشارة إلى أنني حاولت مع أستاذي المشرف غير مرة الحصول على نسخة لهذا المخطوط، ولمّا لم تُجدِ محاولاتنا هذه، قام أستاذي-بعد تعيينه سفيراً في المملكة المتحدة- بإرسالها إليَّ مشكوراً من لندن، بعد أن توجه بطلب إلى مكتبة الفاتيكان في الحصول على نسخة منها.
وأمَّا بالنسبة للنسخة التي اعتمدت عليها-واعتبرتها النسخة الأم- عند قيامي بعملية النسخ، فهي نسخة المكتبة الغربية في الجامع الكبير، والتي تحمل رقم (2505)، وأشرت إليها في رسالتي هذه بالرمز (أ). وقد انطلقت في إختياري لها مستنداً إلى جملة من الأسباب، نتعرض لها تفصيلاً في إطار الحديث عنها.
وفيما يلي وصف للنسخ التي اعتمدت عليها عند تحقيقي للمخطوطة، كل على حدة:
1- نسخة المكتبة الغربية في الجامع الكبير، ويشار إليها ضمن الرسالة بالرمز (أ)، حملت رقم (2505)، تقع في (301) ورقة، وتضم كل صفحة منها(27) سطراً، كُتبت بخط نسخي مُعتاد، وبعض كلماتها غير منقوطة؛ ولم يذكر اسم ناسخها.