أيكذب فيكم الثقلين طرا .... ونقلبكم لأنفسكم شهودا
فلم يلتفت إلى ذلك أحد وصغر في أعين الناس، وعرفوا أنما كان هذا منه إلا طمعاً في الرئاسة والتنافس على الدنيا، وكان قد ظهر منه في خطبته في صنعاء عند البيعة التألم لآل المؤيد، واشترط له ولهم فصغر أيضاً في أعين الحاضرين، وربما وأمكن للمتناول منه أن يتناول، ولما أضاف إليها هذه الأخرى قطعوا بذلك.
مما أخبرني بعض الفقهاء من خواص حي مولانا السيد العلامة شيخ العترة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي -نفع الله به- قال: كنت عنده -رحمه الله- وقد أوجد من الكبر، فقيل له: هذا رسول من السيد إبراهيم فأذن له بالدخول إليه على مشقة، فلما وصل أعطاه رسالة السيد.
ولما وقف عليها رمى بها إلى الرسول وقال: لا جواب لك عندي، ثم قال أحملوها إلى الوالد يحيى والجواب منه، ثم أخذ القلم وكسره، وقال: لا خطاب إليَّ في هذا أو كما قال، فلما خرج الرسول سألت السيد -رحمه الله- عن السيد إبراهيم، فقال: ما أحوجه إلى القراءة في صعدة.
نعم! وأقام السيد إبراهيم في برط أياماً ثم طلب من أهل برط من يسير معه حتى يتصل ببلاده من أعمال[56/أ] فللة وجهاتها، فساروا معه ليلاً، ولما كانوا بالقرب من مخلاف صعدة وقد بلغ مولانا فأرسل كميناً خيلاً ورجلاً فأخطاه بعض الكمين، ووقع مع بعضهم فقتل من أهل برط ومن أصحاب مولانا أحمد ستة أنفار، ونجا السيد إبراهيم وقد أخذ أهل برط على أصحاب مولانا أحمد فرساً أو فرسين ثم لحق فللة وخاف، فسار إلى نواحي قراض وقد قل أتباعه كما تقدم.
[ذكر وفاة الأخوين آل أبي نمي]
ولنعد إلى أخبار مولانا -عليه السلام- في ضوران وقد ذكرنا وفاة السيد العلامة رضى الدين هاشم بن حازم بن راجح بن أبي نمي في زبيد، وتوفي أيضاً صنوه السيد فايز بن حازم بعده بأسبوع، وكان وفاته في بلاد الشقيق من تهامة الشام، وكان إليه ولايتها وبلاد الشقيق هذه إلى القنفذة مما افتتحها الإمام المؤيد بالله -عليه السلام-.
ولما كتب الشريف الجليل المعظم زيد بن محسن -أطال الله بقاه- إلى مولانا الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- فيما بلغني أن بلاد مكة محيطة بها أعتام ولاة العجم فإذا تطرق لهم تناول شيء منها كان فيه اختلال نظام الأشراف، فرأى الإمام -عليه السلام- الوفاء بالحقين نحو الشريف صاحب مكة، وحق الرعية الذين أولوه بأن جعل ولايتهم لشريف من أصحاب الشريف ممن يقف على المراسم الإمامية والحدود، فوقع الاختيار على السيد فايز، فكان فيها بنظر الإمام -عليه السلام- حتى مات، ثم هم على ذلك الآن الولاة من قبل الإمام -عليه السلام- يصلح فيها من الأشراف أهل مكة.
نعم! وقد ينقد بعض ما كان عليه السيد هاشم -رحمه الله- من الورع والاحتياط، ثم إنه أوصى وصية تليق بمثله، وخلَّف كثيراً من النقود والآلات والخيل وغيرها لبيت المال، وأن سبيلها أن تصرف إلى الإمام -عليه السلام- وعظم موقع وفاته -رحمه الله- على أهل تهامة والجبل؛ لما كان فيه من العدل مع الحزم، وخَّلف أربعة أولاد أكبرهم سناً علي بن هاشم، فأقره الإمام -عليه السلام- على ولاية أبيه واستصغره مولانا محمد بن الحسن -أطال الله بقاه- وهم أن يولي غيره إذ تهامة ولايته، فلم ير ذلك الإمام -عليه السلام- فوصل السيد علي بن هاشم بأكثر خيل أبيه وحفدته إلى محروس الدامغ في شهر محرم سنة خمس وخمسين بعد الألف[فبراير1645م] فأرسل مولانا محمد بن الحسن الشيخ محمد بن ناصر المحبشي لولاية مدينة زبيد وما إليها، وأن تبقى[56/ب] للسيد علي بن هاشم ولاية بيت الفقيه[أحمد] بن عجيل وولايته بيت الفقيه الزيدية وساير تهامة، وكانت تهامة ملكها في ولاية مولانا محمد [بن] الحسن -أطال الله بقاه- كما تقدم فكره الإمام ذلك، وتابع الرسل في عود الشيخ محمد المحبشي، وكره مولانا محمد عوده عقيب وروده، وأن يظهر في رأيه الخطأ، فوصل مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- وكان في ذمار إلى الإمام -عليه السلام-وطلب منه أن السيد علي يمضي على مولانا محمد إلى إب، ويوليه كما كان مولياً لأبيه، ليبقى لمولانا أحمد التصرف في ولايته، فخلع [عليه] الإمام -عليه السلام- وعلى كبار أصحابه ووجهه لعمله وأن ريعه يكون على مولانا محمد -أطال الله بقاه- فلما وصل إلى محروس ذمار لازمه ألمٌ ليس
بالكثير ثم تزايد، فلما وصل يريم انتقل إلى رحمة الله وصلى عليه مولانا أحمد ودفنه، وأقام على القراءة وعظم مصابه عند الجميع رحمة له ولمن بعده. ولم يبق إلا أطفال صغار فنصب عليهم الإمام -عليه السلام- وقرر ولاية الشيخ محمد المحبشي على زبيد بنظر مولانا محمد بن الحسن -أيده الله- ثم ولي بيت الفقيه بن عجيل وما إليه السيد المعظم زيد بن علي بن إبراهيم بن جحاف وترك ما بقى من تهامة بنظر مولانا محمد على عادته، وجعل لأولاد السيد هاشم ولمن يتعلق بهم الكفاية الفايضة من بيت الفقيه من زبيد، وعُمر على السيد هاشم مشهد مزور في باب الحداد خارج زبيد، وكانت وفاته -رحمه الله- في شهر القعدة سنة أربع وخمسين وألف [ديسمبر 1644م]، ووفاة ولده -رحمه الله- في أواخر شهر محرم سنة خمس وخمسين وألف [فبراير 1645م].
[الإستيلاء على عدن ولحج وأبين]
فصل نذكر فيه خروج مولانا الصفي أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- إلى عدن ولحج وأبين والاستيلاء عليها
وقد تقدم في سيرة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- صفة موالاة الأمير الكبير عبد القادر بن محمد بن علي بن سليمان، صاحب خنفر وحسن موالاته ، وأنه كان يروى عنه عزم وصحة موالاته مع السخاء الذي لا وراءه، وفيه نزاهة وملازمة لوظائف الصلاة، وكان فيما أخبرني حي الشيخ المجاهد علي بن شمسان الغربي الجبري-رحمه الله- وكذا حي الفقيه علي بن المعافا الذماري وأخبرني أيضاً بجملة ما فصّله القاضي حسام الدين الهادي بن عبدالله الحارثي، أن سلطان سحرت من بلاد الحبشة صاحب مدينة منسبة، كان نصرانياً فخالطه تجار من المسلمين ومن أشراف حضرموت[57/أ] المعروفين ببني باعلوي فأسلم وأسلم معه جمهور أهل مملكته، وحارب ملك النصارى صاحب الحبشة، وتكاثرت عليه المشركون فَقُتِل فاستولوا على مدينته ومملكته، وكان قد تزوج امرأة من الأشراف آل باعلوي، وولد منها ولد أسماه محمداً فأُخذ من جملة من أُخذ أصحاب السلطان وأمه وقد اشتهر عندهم أنها شريفة، وكان يدعى ولدها لذلك بالشريف محمد. فلما صاروا عند صاحب الحبشة، وأخبروه بأنها شريفة فعظمها وجعل لها ولولدها إقطاعات، وجعل على مكانها حريماً لا يخالطها إليه غير من لا غنى لهم عنه، ثم أنه أدخل ولدها هذا المكتب وعلموه مع أولادهم الإنجيل وصبغوه بالنصرانية حتى كان من العلماء فيهم ومن وعاظهم، فكانت والدته تخوفه بالله وتنكر عليه فعله، ثم إنها تلت عليه شيئاً من القرآن فذاقه وتلهف على حفظه،
وكانت أمه لا تحفظ كثيراً من القرآن، فوصفت له تجار الإسلام، وطلبت منه أن يأتيها برجل ممن يخالط إلى حضرموت فأدخل إليها أحدهم، فكتبت معه إلى أهلها أن يحتالوا لها بقارئ يصل إليها يقريها هي وولدها ففعلوا، وقرأت هي وولدها على غاية من الإختفاء، ثم رجع ولدها إلى الإسلام وقد كبر اسمه في النصارى وظهرت رهبانيته وزهادته، وقد جعل نفسه واعظاً، وكان يزوره الكبراء، وينقل معهم إلى المدائن حتى احتال بمسيره بوالدته إلى منبسة، وكان على ذلك واعظ، وقلعة منبسة عليها والي غير صاحب المدينة في نهاية من القوة سلاحهم البنادق والمدافع، فكان هذا الشريف الواعظ يخالط صاحب المدينة ويتجنب صاحب القلعة، ويظهر البعد عنه وعنها وعن أهل الدنيا، وعظم ذكره، فراسله صاحب القلعة أن يخالطه كما خالط صاحب المدينة وغيره، فاعتذر إليه، وبعُد عنه، ولما كثر من صاحب القلعة المُطالبة فقال لأجل وجوب حقك وسؤالك أصل معك الباب فقط، فنزل صاحب القلعة وعيون أصحابه وعليهم السلاح والزينة، وكان هذا الشريف يلحق به كثيرون لملازمته وللتبرك به، فقرأ لهم ما قرأ من المواعظ ورغبهم في حديثه فأحبوه واعتقدوا فيه كغيرهم، ولم يزل يتردد إلى ذلك الموضع لاستدعائهم وقد عرف[57/ب] بقية من المسلمين وممن كان مع أبيه وغيرهم ممن يقدم الإحسان إليهم، فدعاهم إلى الإسلام وأن يثور بهم على الكفار، ويستنقذهم مما هم فيه من الإهانة والصغار، فعاقدهم وكان فاتكاً شجاعاً.
ولما صار إلى باب الحصن وقد أمنه صاحب الحصن، فكان يحضر معه من غير سلاح، وهذا الشريف الواعظ عليه وعلى أصحابه السلاح، فقتلوا صاحب القلعة وأصحابه، وثاروا فيمن بقى فيها فقتلوهم وهم على غير أهبة، وأمنوا من بقي وقد قتلوا منهم نحو ثلاثمائة رجل، وكان في هذا الحصن مدافع وبنادق تمنع المدينة من الداخل إليها براً أو بحراً، والخارج منها كذلك إلا برأي صاحب الحصن، ولما ملك الحصن ومنع الداخل والخارج أظهر المسلمون أمرهم، واستأصلوا من بقي من المشركين، واستعاد مملكة أبيه على طول في وصف القضية، وخرجت عليهم النصارى فقاتلهم وأعمل فيهم الحيل والمكايد في البر والبحر، حتى أهلك منهم كثيراً وعظم ذكره، وأقلقهم خوفه، افتتح كثيراً من بلاد المشركين، ثم تكاثروا عليه، وتظاهر ملوك الكفار على حربه، فراسل إلى بلاد المسلمين للغارة فلم تنجع .
قال الشيخ جمال الدين علي بن شمسان: إنها وصلت مراسلته إلى مولانا الحسن
-رحمه الله- وهو في اشتغال بحرب تهامة وفتحها، ثم إنهم غلبوا على بلاده وقُتِل كثير من أصحابه، ونجا بخاصته في مركبين وصار إلى ساحل عدن، وأرسل الأمير عبدالقادر فأمده بما يقوم به وأخرجه إلى موضع سمَّاه، وعرض عليه الوصول إلى مولانا الحسن -رحمه الله- ، فقال: بل أقدَّم الحج، خرج بحراً في عام ست وأربعين وألف[1636م] وفي خلاله كان وفاة مولانا الحسن، ثم حصل الإشتغال بعده بما وقع، ثم مات الأمير عبد القادر، وكانت أثقال هذا السلطان وأمواله مع ثقاته بنظر الأمير عبدالقادر، ثم مات الملك المنسبي بعد عوده من الحج في القنفذة في عام خمسين أو تسع وأربعين وألف[39-1640م]، ومات الأمير عبد القادر كما تقدم، وخلفه ولده الحسين بن عبدالقادر ، وكان والده قد أقصاه و[أ] بعده عنه لما فيه من البطالة.
ولما صار الأمر إليه هدم قواعد الإسلام وأظهر المنكرات، وجعل للبغاء جوانب وللخمور كذلك، وأما اللعب بالمعازف والبطالة الجامعة لكل رذيلة فعامّهم وخاصهم[58/أ] على ذلك وقد أخذ أموال المنبسي، وقتل من قتل من ثقاته، وحبس من بقي منهم في مواضع من بلاد خنفر لا يُرفع لهم منها خبر، ولا يُعلم لهم أثر، وبلغ الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- فراسله في ذلك، ثم اشتغل عنه بمهمات مما سبق في سيرته عليه السلام حتى توفى -رحمه الله- ولما استتب لمولانا -عليه السلام- أمره رأى أن عليه إنقاذ من ذكر، فأعذر إلى هذا الأمير، وكتب إليه كتاباً وأرسل به الفقيه جمال الدين علي بن المعافا الذماري، وكان من أهل اللسان وممن لا تخفاه لوايح الإنسان، وأمره أن يسأل عمن بقي من أصحاب المنبسي.
ولما وصل الفقيه المذكور أبين وقد عرف كثيراً من الأحوال عاد بجواب غير وافٍ بالقول فضلاً عن الفعل وكانت نسخة الكتاب إلى الأمير المذكور........... [58/ب]......... [59/أ]....... وقد تقدم ذكر وصول مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- إلى الإمام -عليه السلام- ولا خبر عن سبب وصوله إلا لنظم حال أولاد السيد هاشم -رحمه الله- ثم تجهز من عند الإمام -عليه السلام- ولما وصل إلى حضرة صنوه العزي -أطال الله بقاه- إلى محروس مدينة إب، وقد جمع العسكر والأموال، فكان عسكره ألفين فيها من الخيل ما يدنو من أربعمائة، وأرسل الإمام -عليه السلام- محطة أخرى نحو الألف مع الفقيه المجاهد محمد بن علي بن جميل السيراني، وسمعته -عليه السلام- يقول: قد صار مع الولد أحمد -حفظه الله- الكفاية، وإنما نريد قطع إياس هذا الأمير الشَّر وأصحابه منا ولتعلموا أن ذلك عن أمرنا أو كما قال.
وكان خروج مولانا أحمد من إب في شهر صفر سنة خمس وخمسين وألف[إبريل1645م] وأمسى في النجد الأحمر ثم إلى الجند وكان طريقه من الدمنة من بلاد السلمي، وتقدم من الدمنة إلى الأعمور ، ومنها إلى موضع يسمى وادي الحجر ثم إلى حائط الليم، وكان الأمير حسين قد حشد وجمع مع خيله ورجاله قوماً من المشرق ومن يافع ، ثم قدم محطة إلى لحج وموضع منه يسمى الرعارع خيلاً ورجلاً.