أخبرني النقيب الناصح المجاهد صالح بن سعيد بن عواض المذعوري ، وهو من أهل صدق الحديث مع الديانة الحسنة إنه خالطه في تلك الأيام، وأنه على قوم ممن بايعه ممن تقرب من هجرة فللة آداباً، فقال له السيد المذكور: يكون نصف ذلك إلى صعدة لوالي الإمام -عليه السلام- ونصف لنا، ولا يعرفون أن ذلك إلينا بل يقبضوه ويعطونه على صفة لا يعرفها أحد، يجعلها لهؤلاء الذين معنا وغير ذلك من ضعف الحال وعدم القدرة والنهضة.
وكان قد اجتمع له سواد من الناس وقصد رازح وبلاده وصار إلى رأيه السادة آل المؤيد إلا القليل، وكان في رازح والٍ من جهة الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- وكان الإمام -عليه السلام- قرره على ولايته هو والفقيه الأفضل عماد الدين يحيى بن سيلان المصّرف العياني فدافعهم بمن أجابه ثم غلبوا عن الجبل، فانحاز إلى حصن عَمَّار ، ووقع فساد وخراب منازل وحرب قُتل فيها أنفار، وغلب السيد إبراهيم على أكثر البلاد[52/أ] إلاَّ بلاد خولان، فإنه كان فيها من قبل الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- السيد المجاهد العلم شمس الدين أحمد بن الهادي بن هارون بن الحسن الهادوي -أطال الله بقاه- ولأهل الشام إليه ميل يعرفون فضله الشهير، فمنع أكثر بلاد خولان وأجابوه ووقع اختلاف بين القبايل كما تقدم، فَقَلّ بلاد لم تقع فيها الحرب والفتنة، وعظمت المنكرات، وخشي على صعدة الإنتهاب حتى لقد وقع القتل والفساد فيها، واستجار من ضَعُفَ من تُجارها بالقبايل، ولما وصل مولانا الصفي -أطال الله بقاه- هابه الناس وأجلّوه، فارتفع السيد إبراهيم من رازح وقل الفساد.
أخبرني النقيب المجاهد صالح بن سعيد المذعوري أنه كان رسولاً لمولانا أحمد [ابن الحسن] إلى السيد إبراهيم وعلى بلاد رازح، وكان بصحبته جماعة من العسكر، فوافى السيد إبراهيم عند مُنْصرفه من رازح، قال: فلما لقيته مال معي من الطريق وسألني عن مولانا أحمد ومن معه، وقال لي: هذا الوالد أحمد سلم الأمر وبايع، وهو أقدر مني وأنا واضع يدي في يده، ومسلم للإمام -عليه السلام- فهو أولى مني وأنفع للإسلام أو كما قال.
ولما وصل إلى هجرة فللة ونحن معه، كاتبه من صعدة من يريد الاستظهار ببقائه على المعارضة لأغراض، وأمدوه بمال، قال: وإذا قد سمعت منه فللة غير القول الأول، والكتب بينه وبين الإمام -عليه السلام- لا تزال، وقد وصل إلى الإمام -عليه السلام- بعض السادة آل المؤيد والإمام -عليه السلام- يلين (له) ويبسط الإنصاف ويعرفه أنه لا يريد إلا الحق والإئتلاف، فكن مكانك على ما أنت عليه ولا تعداه، حتى يحصل الإجتماع وننظر نحن وأنت الصواب المطابق للسنة والكتاب، فإن كان الحق في يدك فلست أولى بإتباعه مني، وإن كان عندي فليس على متبع الحق غضاضة أو كما قال.
أخبرني بعض الخواص أن الإمام -عليه السلام- جعل للسيد إبراهيم ولاية فيما بينه وبين الله سبحانه، إن علم الله سبحانه بطلان إمامته وأخذ منه مثل ذلك، ولم أقف على حقيقة وإنما ذلك من طريق واحدة، والكتب لم تزل وهي كثيرة منها هذا الكتاب وهو أجمعها................ .
[52/ب] ولما وصل مولانا أحمد كما تقدم وهو على دعواه كان يحضر معه في صعدة في جماعته وكان يكثرون إلى خمسمائة وأكثر وأقل، فإذا كان يوم الجمعة يخرج يصلي خارج صعدة [ ] الخلاف والفساد والإمام -عليه السلام- يكثر التواصي بابقائه على حاله حتى حصل المراجعة والبصيرة، فانضم إلى ذلك كا تقدم من [ ] القبايل وعدم التعويل على الدولة الإمامية، وقل المدخول، وحصل الاشتغال بهذ الإختلاف عن جميع الحقوق التي بها قوام العسكر وأهل الحقوق، فكتب مولانا أحمد إلى الإمام أن هذا الصلح كان فيه فساد الأمر، ولم يقف السيد إبراهيم على الحد الذي أوقفتموه عليه؛ فكتب الإمام إلى السيد المذكور ما هذا نسخته] .......................... .
[53/أ]................. .
[53/ب] ودارت المكاتبة على أن السيد المذكور يلقى الإمام إلى صنعاء، وتقدم الإمام -عليه السلام- في أواخر شهر رجب عام خمسة وخمسين وألف [أغسطس 1645م] إلى مَعْبَر وأقام فيه ليال، ثم سار مُغذاً إلى صنعاء المحروسة بالله، وأخبرني بعض الخدم لمولانا الإمام -عليه السلام- وهو من الترك الذين لا يعرفون هذه المقاصد الشرعية ولا السبب الداعي إلى هذه الحركة المتوكلية، إنه نام تلك الليلة في معبر إلى جانب شفير البير المعروف ببير الهداء في معبر، فأيقظه صوت يتكلم من البير المذكورة: قم فالحق بالإمام، ولا تجده [إلاَّ] في صنعاء، فاستيقظ ووجد الناس يتلاحقون، فلم يدركه إلا في صنعاء، وفي لفظ الهاتف المذكور باسم الإمام وتسميته (الإمامة) والخبر بقصده صنعاء (ولا يعرف) التركي أن المقصد فوايد لا تحصى، وإيماء إلى حقيقة هذه المشكاة لا تطفى. انتهى.
وكان قد عظم الفساد في بلاد صعدة فأرسل الإمام[54/أ] مولانا محمد بن الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله -عليه السلام- في نحو ألف من العسكر وعدة من الخيل، وأمره أن يشدّ عضد عمه الصفي -أيده الله- وأن يستعجل السيد إبراهيم للقاء المضروب، وبضبط البلاد من الفساد الذي بين القبايل.
ولما وصل إلى صعدة انقبض السيد إبراهيم في فللة وانحاز إلى البلاد التي كانت موالية، فراسله مولانا محمد بن الحسين وبعث إليه بكتب الإمام -عليه السلام- وأخبره أن الإمام -عليه السلام- أمره لأحد أمرين:
إما الوصول للمناظرة على الوعد، كما جاءت به السفراء أو الخلاف ووجب جهادك أو كما قال، فأجاب السيد: إني عازم على لقاء الإمام، ثم قدَّم وأخر وأهل الغرض يصرفونه عن ذلك حتى ضرب موعداً ووصل إلى صعدة على حاله الأول بجمع من أصحابه، فأنزله مولانا أحمد أحسن منزل، وقال: تجهز على اسم الله إلى الإمام -عليه السلام- فتلكأ وأهل الأغراض يطولون لئلا يخلو الشام من التعارض، وقد كثر العسكر في صعدة فيحتاجون إلىطلب الحقوق المهملة، ويقيمون التناصف في الفتن ويعاقبون أهلها، فأظهر السيد إبراهيم أن أموره لما تنتظم، وأنه يعود إلى فللة ويأتي فيما بعد صفة فقلت: حتى يتمكن مما قد تصور له من البقاء على المعارضة، وقد حضروا في القصر وفي دار المطهر أيضاً، وكان خالياً لمولانا محمد بن الحسين وأصحابه، فأظهر مولانا أحمد الجدّ، وقال: قد فسدت البلاد بهذه المواعيد، والآن قد صار الفساد في المدينة وفي الجُند فلا افتراق من هذا المجلس إلا بالعزم إلى الإمام -عليه السلام- طوعاً أو كرهاً كما قال.
فتكلم بعض السادة من آل المؤيد وقال: عبت وغدرت يا كذا، وهَمَّ بمولانا أحمد بالسلاح كما أخبرني من شهد ذلك فقام الحاضرون من أصحاب مولانا أحمد وقبضوا على السيد المذكور، فجرد بعضهم سلاحاً أيضاً فقبضوا بعد ذلك على الجميع من السادة آل المؤيد، وصاح مولانا أحمد بابن أخيه مولانا محمد بن الحسن، وقال: اذهب إلى الإمام لم تستح مني في يوم ثلاء أو كما قال، فتوجه مولانا محمد بن الحسن إلى الإمام -عليه السلام-.
وأمَّا السادة فجعلهم مولانا أحمد في الحديد ولما وصل به مولانا محمد بن الحسن العَمَشِّية وقد جعل معه ثقاته لحفظه انسل بعد صلاة العشاء الآخرة إلى الهرب، فأدركه الموكلون به، وأعادوه على حالة غير[54/ب]موافقة، ثم قدم إلى الإمام -عليه السلام- إلى صنعاء.
[وصول إبراهيم المؤيدي إلى الإمام]
ولما وصل إلى الإمام -عليه السلام- شكى أنهم حملوه كرهاً، وشكى أيضاً ما وقع في الطريق.
قال الإمام -عليه السلام-: هذا الولد محمد نقيدك منه ونأخذ لك منه حكم الله سبحانه وتعالى، وأما الحمل إلينا كرهاً فها أنت في سعة نعيدك إلى محلك الأول سالماً غانماً، وهذا الرسول مني لاطلاق أصحابك الذين في صعدة وبذل له الإنصاف، وتايع له الإجلال والإتحاف من جميع أبوابه، وبسط له الإحسان من وجوه أسبابه.
وأمَّا مولانا محمد فعفى عنه في الحال وبقى يرتأي العود إلى محله الأول أو التسليم، وكان لا يحضر صلاة الجمعة، بل إذا قامت مال بمن معه من أصحابه إلى بعض مساجد صنعاء فيصلي ظهراً والإمام -عليه السلام- مع ذلك يتابع له الإحسان ويبسط له الجناح والأمان.
[مبايعة إبراهيم المؤيدي للإمام]
ولما كان إلى يوم في رمضان أتى إلى الإمام -عليه السلام- وعرّفه أنه يريد الدخول في ما دخل فيه الجمهور، وأنه متابع مبايع، وأن ذلك يكون بمحضر من العلماء والفقهاء والرؤساء ليشهدوا عليه، فأرسل الإمام بجميعهم فاجتمعوا في الديوان الكبير في قصر صنعاء، منهم السيد الحبر الفهامة المجاهد أحمد بن علي الشامي ، والقاضي العلامة الفاضل إبراهيم بن يحيى السحولي الحاكم في صنعاء، والقاضي العلامة صفي الدين، وبركة المسلمين أحمد بن سعد الدين، والسيد العلامة شرف الدين الحسن بن أحمد بن الجلال اليحيوي، والقاضي العلامة صارم الدين إبراهيم بن الحسن العيزري الحاكم، والقاضي العلامة شمس الإسلام أحمد بن سعيد بن صلاح الهبل . وغيرهم ممن يطول ذكر مشاهيرهم مثل: الفقيه علي الشارح الذماري المدرس في العلم الشريف، والسيد الجليل شرف الدين بن الحسين التهامي، [وكان] عالماً عاملاً إلى أكثر من مائة وسواهم من أعيان الناس وكبارهم وقد جلس الإمام -عليه السلام- على كرسي والسيد إبراهيم إلى جانبه، فلما حصلوا قام السيد المذكور فخطب خطبة بليغة وذكر قيامه ودعوته وأنه لا يريد بها إلا الله سبحانه وتعالى، وأنه الآن قد عرف فضل الإمام -عليه السلام- واستحقاقه المقام دونه، ثم قال له: وأنا أشهدكم بالبيعة والدخول فيها في ما دخل فيه الناس وكان من ألفاظه............ . ثم تقدم وبايع، وأظهر التوبة مما وقع بسببه وسُر[55/أ] المسلمون بذلك، ثم فتح قراءة على الإمام -عليه السلام- وحضر الجمعة وتكلم القاضي العلامة صارم الدين وبركة المسلمين إبراهيم
بن يحيى السحولي -قدس الله روحه في الجنة- وذكر بيعته وتسليمه في الخطبة الثانية ، فقال فيها: الحمد لله الذي حبب إلينا الإنصاف، وجنبنا طرق المتاهة والإعتساف، وجعلنا للحق تابعين، ولأئمة العترة الطاهرة -صلوات الله عليهم- مشايعين، إذ خصهم الله بالتطهير، وفرض مودتهم وجعلهم سفن النجاة، وباب حطة الذي من دخله أدرك ما رجا، لا يدرك رائحة الإيمان إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يبوء بالخسران المبين إلا من أنكرهم وأنكروه، وأرشدنا وله المنة لمعرفة حقوقهم، والإهتداء بأنوارهم وسلوك طريقهم، فنحن بلطف الله وتوفيقه أمة يهدون بالحق بعون الله متعاضدة متناصرة، وقلوبنا بهداية الله فيه مجتمعة متظافرة، لا نألوا جهداً في جمع شمل الإسلام وصيانته عن الإختلاف أمراس التعاضد والتناصر فيه والإئتلاف حفظاً لحماية حوزة الإسلام، وصيانة لجنابه المنيع زاده الله حماية وصيانة عن أن يُهضم أو يضام وتيمماً لسعي أئمة الهدى الذين درجوا، وانتهاجاً لسبيلهم القويم الذي سلكوه ونهجوه، وكان من أفضل[من سلك هذا المسلك العظيم، ومشى على هذا الصراط المستقيم السيد العلم العلامة البحر المدره الفهامة، برهان الدين علم السادة الماجدين إبراهيم بن محمد بن أمير المؤمنين، فإنه -أسعده الله في الدارين- عرف الحق فاعترف، وشرح الله صدره فما شك ولا انحرف، وعلم أن مولانا هذا إمام المسلمين المتوكل على الله رب العالمين، أحق العترة الطاهرة بهذا المنصب الشريف، وأولاهم بالنهوض بأعباء هذا التكليف، خليق باقتعاد تخت الإمامة حقيق بما أهله الله له من خلافة النبوة، المرتبة العظمى في الزعامة،
قائماً بواجب حقوقها لأشراطها سالكاً مسلك آبائه الكرام مستقيماً على صراطها، فبذل هذا السيد الكريم لهذا الإمام العظيم عهد البيعة الميمونة مختاراً لإمامته، طائعاً متقلداً عهد ولايته ونصيحته ونصرته، مطيعاً سامعاً عاقداً عزمه على نصرة هذا الإمام المتوكل على الله بالقلب واليد واللسان، وجهاد أعداء الله بين يديه عن أمره بالسيف والسنان، مطرحاً لما كان يحمله من الأعباء عادا لذلك من ذخاير العقبى، وتأديته ما أوجبه الله من حق أئمة الهدى أولي القربى، وهاهو -أسعده الله- حاضر للجمعة[55/ب] والجماعة، يسمع هذا الخطاب، متقلداً هذا العهد الذي طوقه الله الرقاب، وأكد أمره في السنة والكتاب، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، وشرح الله صدره وأصلح شأنه وزاده في درجات الفضل مكانة إنه على كل شيء قدير جدير. انتهى.
وأقام السيد المذكور في نهاية الإعظام، وغاية الإكرام في حضرة الإمام
-عليه السلام- ثم استأذن في العود إلى بلاده لافتقاد خاصته فجهزه الإمام -عليه السلام- بما يكثر تعداده وأركبه من نجايب الخيل وقد أرسل من يطلق أصحابه المحبوسين في صعدة، وفارق الإمام -عليه السلام- شاكراً مشكوراً، راضياً مرضياً. ولما وصل إلى عيان وزار القاسم -عليه السلام- أخذ ذات اليمين حتى طلع طشة برط ، وكان القاضي الأعلم أحمد بن علي بن قاسم العنسي قد بايعه ودعا إليه في جهات برط بمن أطاعه، وأضافوه وكتب من هنالك رسايل إلىكل جهة أنه باق على دعوته، وإنما كان منه من التسليم تقية وخوفاً: