[دخول أحمد بن القاسم عمران]
ولما وصل عمران قبل غروب الشمس ليلة الأربعاء جمع فرق الناس للمساء فيه، وبقى ينظر ماذا يفعل وقد بلغه أن في مدينة ثلاء رتبة وخيلاً، وفي بني ميمون وعيال سُريح عسكراً، ولم يكن معه من الخيل ما يحفظ أطرافه، فضلاً عن غير ذلك فأرسل إلى ثلاء من يأتيه بخبر الرتبة التي فيه فعاد الخبر بقلتها، وقد خاف أن يحاصر [و] هو في[40/أ] عمران كما تقدم ذكره أن يخرج إلى جهة عيال يزيد فعزم على قصد هذه الرتبة التي في مدينة ثلاء وهو قاطع بأخذها وأن تكون مظاهراً للحصن وللمغارب، فارتحل في الربع الأخير من ليلة الأربعاء، وتسحر في بني الجرادي من حازة البون، وطلع العقبة المعروفة بحجر العيد، فلما عاين ثلاء أمر بالغارة وقد ترك في عمران من العسكر رتبة، وانخذل كثير من الأهنوم وغيرهم، وعادوا جهة شهارة، ولم يمسوا إلاَّ في السودة، وبقى معه نحو من أربعمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون، وكان على الرتبة في ثلاء السيد (الريِّس) -أطال الله بقاه- المجاهد عزالدين محمد بن عامر بن علي بن عم الإمام، فلزموا البيوت التي يقدرون عليها وتركوا الكثير، وحفظوا أنفسهم، وكان الرمي عليهم من الحصن فإنهم على موالاة مولانا أحمد.

ولما وصل ثلاء وهو في أول عسكره ودخل المدينة تفرق أولئك الباقون في البلد، وبقي مع المشايخ من العلماء يدور في الشوارع، لا يتمكن من اخراج السيد محمد بن علي وأصحابه، وقد وصل مولانا محمد بن الحسين والأمير الكبير حسام الدين الناصر بن عبد الرب، بغارة خيلاً ورجلاً، واستقام الحرب من بعد طلوع الشمس إلى غروبها حرباً كان من بيت إلى آخر[وكان مولانا أحمد[قد] خاف] أن يُغلب على باب الحصن، فتقدم إليه، فكان فيه حتى غربت الشمس وخرج من خرج ممن كان قد كاتب ووالى، وبقي من بقي، وخرجوا إلى مولانا محمد بن الحسين والأمير الناصر بن عبد الرب، وبقي مولانا أحمد في الحصن يوم الخميس ويوم الجمعة، ولم يبق معه أحد ممن يعوَّل عليه للحرب إلاَّ الرتبة، وقد ضعف في أعينهم واحتقروه فجرى الخطاب على نزول القاضي شمس الإسلام أحمد بن سعد الدين -أطال الله بقاه- فنزل وطلع ونزل أيضاً على أن مولانا أحمد ينزل ويجتمع بمولانا أمير المؤمنين-حفظه الله تعالى- ويكون بينهما مناظرة، ووجه في ما دخل فيه، وأن المراتب ترتفع من حصار عمران، ومراتب صنعاء يبقى حالها حتى يحصل الإتفاق، وخرج يوم الأحد قبل الزوال بعد أن حصل من الرتبة عليه اضطراب وسوء معاملة، وتلقاه الناس بالتعظيم، وتقدم الإمام الناصر وأصحابه أمامه للخدمة، ومولانا محمد بن الحسين -أطال الله بقاه- خلفه في تلك الساعة إلى الحصن وقرر رتبة الحصن، واستخلف عليهم من أمنه من أصحابه، ثم لحق بوالده وهو لا يكاد يقابله اجلالاً وحياء، وكان المساء في حاز من بلاد همدان، وكان قد وصل إلى مولانا أحمد -أطال الله بقاه- بعد

استقراره في بير العزب، مشايخ همدان[40/ب] وعيال سريح للموالاة، فأرسل معهم النقيب المجاهد سرور بن عبدالله، ومن كان معه في حرب خدار من الخيل والرجل إلى بني ميمون كما تقدم، ولما وقع الحرب على ثلاء وصل مغيراً آخر نهار الحرب.
ولما كان يوم العيد وجهه مولانا محمد بن الحسين والأمير الناصر بمن معه لفتح عمران، وكان فيه الشيخ (الريِّس) ناصر بن عبدالملك بن عمران، في رتبة وكثيرين ممن تأخروا عن مولانا أحمد، منهم، السيد الأعلى (الريِّس) المهدي بن الهادي المعروف بالنوعة، فإنه طلع من اليمن مُريداً لبلاد صعدة داعياً إلى مولانا محمد بن الحسين، قبل التسليم لمولانا الإمام -عليه السلام- وكان قد بلغ مولانا أحمد فلزم عليه الطرقات، فلما لم يجد موضعاً للمضي إلى الشام، وصل إلى شهارة المحروسة بالله، وأظهر أنه يريد الشام لاعتزال الجميع حتى يجتمع الناس على الرضى، فجاراه مولانا أحمد واحترز على حفظه، ثم أخرجه من شهارة، ولما صار في عمران بقي فيه عن رأي مولانا أحمد لغدر ذكره فأجابه، وأمر الشيخ ناصر بن عبدالملك بحفظه، وكان معه دراهم وساعة تخصه يريدها لما تقدم من إعطاء من ينبغي أولتكون له، وغالبها من ماله، وأرسلها إلى بعض القرى من البون مع بعض ثقاته ليكون هناك حتى يحتال بالخروج من عمران، فإن الشيخ ناصر بن عبدالملك يشدد في حفظه كما أمره مولانا أحمد.

ولما وصل النقيب سرور فيمن معه من المجاهدين ولا يجدون شيئاً للنفقة، فأخبره بعضهم بمكانها فقبضها، وأعطى العسكر أرزاقهم منها، والسيد المذكور في عمران في جملة المتحاربين، حتى كان من أمره ما سيأتي إن شاء الله، ولما وصل السيد المهدي إلى الإمام -عليه السلام- أخبره بما وقع فأرجعها له، يعني قضاه إياها.

[وصول أحمد بن القاسم إلى ضوران]
ولنرجع إلى وصول مولانا أحمد إلى ضوران وقد حاول وهو في حاز من بلاد همدان رفع الحصار عن عمران، وفيه كثير من خزائنه مع طعامات كثيرة، فلم يتم له ما أراد لاختلاف مقاصد الحرب، فأشار عليه من أشار بترك ذلك حتى يتصل بصنوه أمير المؤمنين-أيده الله- فساروا جميعاً إلى الضِلَع من همدان في خامس شهر شوال وأراد أن يبقى حوالي صنعا، ويرتفع الحصار عنها، وإن الإمام -عليه السلام- يلقاه إلى ذلك الموضع فلم يتم ذلك.
ولما سار من ضلع تلقاه مولانا أحمد بن الحسن -أطال الله بقاه- في كثير خيل ورجل، وكانوا مع من وصل من ثلاء فوق خمسة آلاف منها نحو أربعمائة فارس من غير من في عمران[وغلبها] وأمسى[41/أ] الجميع في حدة وغيرها.
وأمَّا مولانا أحمد بن الحسن فإنه عاد إلى محطه الأول بعد أن استطاب نفس عمه أحمد، ورأينا عليه بعد الاتفاق أثر النفس من الكرب العظيم الذي خالطه، فإني كما علم الله خفت عليه الهلاك من عظم ما وقع [معه] من التقلبات والغدر من كل واحد، ثم ارتحلوا من حدة إلى وعلان من بلاد الروس، ثم إلى معبر وقد أمر الإمام -عليه السلام- بضيافته هنالك؛ فأمسى الجميع في معبر، وذلك يوم الخميس لعله سابع أو ثامن شوال، وتلقاه الإمام -عليه السلام- إلى طرف الحصين، وكثير من الناس، وسُر المسلمون بما أغمده الله من سيف الفتنة، ونايرة الفرقة، وما كفاهم به من المحنة وبما ساقه من الألطاف، مما أمن به الكافة من الخلاف وعظيم الأخواف، والإمام مع ذلك يبذل ما يقدم من الإنصاف، والتحكيم للشرع الشريف والبراءة ممن خالفه.

[مؤاساة المؤلف للأمير أحمد]
ولما كانت ليلة الجمعة بعد مضي وهن من الليل قال لي مولانا أحمد: أترى هذا الحال؟ فقلت: نعم، يا سيدي، وهذا الذي كنت فيه لا يخلو أن يكون لدينا وحاشاكم من ذلك، وهذا سلطانكم لم يخرج من بينكم، وإن كان للدين فقد عذرك الله سبحانه وتعالى لعدم الناصر وقل المعين وحصول هذه الأهوال فقد أعذرت، فقال: نعم لقد عزمت على التسليم والمبايعة.

[مبايعة أحمد بن قاسم للإمام المتوكل على الله]
ولما كان صباح الجمعة تاسع شهر شوال سنة أربع وخمسين وألف[1664م] وكنت قد أخبرت بعض الخواص بذلك، وأن يعرف الإمام بما عزم عليه صنوه من التسليم، فعمد للإجتماع مجلس عام لجميع أهل العلم، وأهل الفضل فمجلس الإمام -عليه السلام- إلى جنب أخيه -أيده الله- وصدره في المجلس وعليه السكينة والوقار والخشوع غاية من التواضع، وعليه عمامة صغيرة قدر أربعة أذرع وفرو صغير من أكسية حيس وقميص واحد، وتكلم بما لا أضبطه إلا بالمعنى، وهو أنه حمد الله تعالى بمحامده كلها، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأطال فيهما، ثم تكلم في الإمامة ولزومها، وقيام التعبد بها، وعلى التزام الحجة بأحكامها وشرايطها المجمع على اعتبارها، ثم ذكر صنوه وقال: هذا شيخنا وكبيرنا ولا يزال بين الأخوة شيء، وكذا ساير القرابة، وهذا أخي والحمد لله لم يكن بيني وبينه شيء من ذلك بخلاف إخوتي، فقد ربما يكون شيء، وقد قام بهذا الأمر وأنا أعلم قصوره عنه بما يطول، وأنتم يا إخوان تعلمون ذلك وأنا أعرض عليكم صحة ما أقوله إن شئتم، وإلاَّ فقد جرت الأمور إلى ما ترون، وأنا الآن أعطي من نفسي ما بذلته بالأمس فمن كان في شك مما دعوت إليه، فهو معذور عن البيعة[41/ب] ممهل في النظر، فإن يجد مخرجاً عن هذه الإمامة فلست عليه بوكيل، والخطاب إليه والحق لله سبحانه وتعالى، وأكثر من الكلام مما هذا معناه، وتكلم مولانا أحمد -أطال الله بقاه- وقال ما معناه: إني لم أسارع في هذا الأمر منافسة في الرياسة، وإنما قصدت حفظ الموجود، والقيام بالمعهود، وتأكدت

الحجة والعقود، برأي من عرفتهم من هذه العيون، وتعويلهم عليَّ في القيام، والآن فقد عرفت عدم إجابتي، وقد أبليت إلى الله معذرتي، وأنا راضي ببيعة أخي، ولا أشرط عليه إلا حفظ أهل البيعة الأولى، وأن لا يسلط عليهم أهل الأهواء، ثم قال متمثلاً بما قاله الأمير شمس الدين أحمد بن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- في بيعة الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام-:
رضنياك للدنيا وللدين فارتفع ... على النجم مسموعاً لك النهي والأمر
فقال الإمام -عليه السلام-: وعليَّ من ذلك ما استطعت، ثم بايعه مولانا أحمد وتلاه مولانا صارم الدين إبراهيم بن أحمد بن عامر، ثم القاضي شمس الإسلام أحمد بن سعيد الدين، وقال: لم يكن بيننا وبين الحق عداوة، وإنما أردنا نفع الإسلام وجمع كلمة الأنام، وقد حصل والحمد لله كثيراً، ثم تلاه السيد العلامة محمد بن الحسن بن شرف الدين الحمزي الكحلاني، ثم القاضي العلامة جمال الدين علي بن سعيد الهبل الخولاني، ثم من حضر ممن لم يبايع قبل ذلك، وسر المسلمون بهذا الإتفاق بعد الشقاق، وسارت الكتب بعد ذلك شرقاً وغرباً وبعداً وقرباً، وكان ذلك في يوم الجمعة تاسع شهر شوال عام أربع وخمسين وألف [1644م].

[رؤيا للعلامة الهبل]
ومن عجيب ما سمعته في هذا الإتفاق ما أخبرني به الفقيه الفاضل العالم الزاهد (شمس الدين) أحمد بن صالح الهبل -أسعده الله- في شهارة المحروسة بالله في العشر الأواخر من رمضان، أنه رأى في المنام كأنه في حضرة مولانا أحمد-أطال الله بقاه- وصله بعض أهل الخطوط التي يسودها الكتُّاب لأهلها بالجلالة كما يفعل الأئمة -عليهم السلام- وطلب من مولانا أحمد العلامة عليها، فاعتذر ورده عليه، وقال: لا يمكن العلامة عليها.
قال الفقيه المذكور: فقلت لمولانا أحمد: لم لا تُعلم على هذه الأوراق وأنت أمير المؤمنين؟ فقال: أخّروها إلى عاشر شوال فإن تتم الإمامة في ذلك اليوم علَّمت عليها وإلاَّ فلا أو كما قال، فكان في اليوم العاشر هذا المجلس الذي سلّم فيه لأخيه أمير المؤمنين-سلام الله عليه-.
وأخبرني القاضي الأعلم جمال الدين علي بن محمد العنسي الآنسي، عن الفقيه الفاضل أحمد بن سعيد المسوري وهو ممن يختص بمولانا -عليه السلام- أنه قال له في تلك الأيام[42/أ]: أترى شهارة وصنعاء مقبلة عليك ومتفقة على عداوتك وأنت ساكن في موضعك؟ قال: فقال له الإمام: ما يكون شهر إلاَّ والصنو أحمد ومن معه عندنا وفي جماعتنا أو كما قال.

ومن مثل ذلك ما أخبرني به الحاج الصالح محمد بن قاسم المسرحي النّجار، وقد احتجته لبعض عمل في البيت من شهارة فجرى ذكر هذا الإختلاف، فقال: هوكالقاطع -وهو مع ذلك من حذاق العوام وله مع ذلك ديانة حسنة-: الإمامة في إسماعيل من عند الله سبحانه وتعالى على سبيل الجزم، فقلت له: إن كنت تريد استكمال الشرائط فلا نزاع، وإن كنت تريد غير ذلك مما الناس عليه فأخبرني الخبر، فقال: إنه أخبره الثقة أنه رأى رؤيا في حياة الإمام المؤيد بالله -صلوات الله عليه- كأن قنديلاً مضيئاً ما بين السماء والأرض في شبه الحبل، فالأرض به ضياء نافع شديد فطفي ذلك القنديل فأظلمت الآفاق، فطلع من موضع القنديل الأول قنديل أصغر منه، ثم طلع من جانب آخر من جهة العدن قنديل صغير بعيد عن الأول كذلك، ثم لا زال هذا الذي من بعيد يعظم ويكبر حتى كان أكبر ضياءً من الأول، والصغير الذي كان ظهر في موضعه الأول يصغر قليلاً قليلاً حتى ذهب شعاعه ثم طفي، فكان تفسير ذلك ما وقع، والحمد لله رب العالمين.
ومن مثل ذلك ما أخبرني حي الشيخ علي بن ناصر بن محمد الأعور الحكمي الأهنومي أنه رأى في المنام في أيام الإمام المؤيد بالله، كأنه غشي دار الإمام في أقر نور مرتفع وإذا خيّال على سرير الإمام -عليه السلام- يحمله إلى جهة القبلة وفهم الرأئي أنه يرتفع إلى السماع فصاح مع غيره ممن حضر بالعويل والبكاء على الإمام، فالتفت الإمام -عليه السلام- وهو على السرير ورمى بعمامته، وقال: إسماعيل إمامكم أو قال: كافيكم ضعوا عليه هذه العمامة.

25 / 116
ع
En
A+
A-