ورابعها: إن البر والخير إنما هو في الإنفاق، لا في الأخذ ولو من وجوه الحلِّ وطيّب الأرزاق، وأكل ما حرم عليه تاركاً للإنفاق الذي دعا الله إليه المقل والمكثر، والموسع والمقتر، وذم التساخر ممن أعطي اليسير وسخر منه، وأوعده العذاب الكثير، وقد ضم إلى ذلك أن أخذ من غير وجه الحل الواضح بل من الحرام المخزي الفاضح، واستلذ به المأكل والمشرب والمناكح، وكأنهم لم[19/أ] يعلموا ما مضى عليه السلف الصالح، من صبرهم على ما يحل وإن جاعوا، وعضهم النواجذ على دين الله ولو أنهم هلكوا حتى مضى على آل محمد الأيام والليالي، ولم توقد في بيوتهم النار، ورقعوا ثيابهم مرة بعد أخرى، ولم يخشوا من العار .
[إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه .... فكل رداء يرتديه جميل]

وأطعموا طعامهم لوجه الله، وصبروا على قشف العيش ابتغاء مرضات الله، أفلا تخشون أن تكونوا كالذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى الله إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} . فليتذكر المؤمنون بما ابتلاهم الله من بعض الثمرات ولا يغفلوا عن ذلك فلأمرٍ ما قص الله علينا في كتابه الكريم أخبار الماضيين، وأخبر أن سنته فيهم هي سنته في الباقين، فقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

فإن ظنوا أن اعطاء الإمام يحل من ذلك ما حرمه الله عليهم فقد أعظموا الذنب وأفرطوا في الجهل، فإنه قد شرع الله للإمام أن يتألف من الزكاة، ولم يخص أحداً دون أحد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها ناراً )) .
وقد كان المنافقون يلمزون رسول الله ً في الصدقات، فإن أعطاهم منها رضوا وإن لم تحل لهم؛ لأنهم إنما رضوا لما أعطوا لا لما أوجب الله تعالى عليهم من الطاعة لله ولرسوله، وقال فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
فبين الله في هذه الآية مصارف الصدقات بياناً شافياً على لسان رسول الله ً إنه قدم إعطاء المؤلفة على كثير من ذوي الإستحقاق، وإن الذين لم يعطهم خيراً من الذين أعطاهم، فقال فيما رواه[19/ب] البخاري ومسلم وغيرهما حديث: ((إني لأُعطي قوماً أخاف ضلعهم وجزعهم وأُكِلُ قوماً إلى ما جعل الله تعالى في قلوبهم من الخير والغنا منهم عمر بن يغلب)) .

وقال: ((إني أعطي رجالاً أتألفهم ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برحال رسول الله، فولله لما يتقلبون به خير مما تتقلبون به إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض)) .
وقال: ((إني أعطي قوماً أتألفهم لأنهم حديث عهدٍ بجهالة )) .فأخبر بوجه التأليف، وأنه لا يحل لمن أعطاه على ذلك شيئاً مما أعطاه، فاتقوا الله ولا تغيروا نعمة الله، واتقوا الشبهات وتجنبوا المحرمات {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[رسالة من الإمام للشاه عباس الحسني]
ومن مكاتباته -عليه السلام- إلى السيد السلطان شاه عباس الحسني ضمنه شفاعة لرجل أتاه من بلاد السلطان المذكور يسمى صفي الدين قلي، واستعطافاً لقلب السلطان عليه:
بسم الله الرحمن، الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، المقام الذي أيد الله به العترة النبوية، والمحل الذي مجد الله به العصابة العلوية، والشرف السامي الرفيع الذي به ازداد شرف الملة المحمدية، والفخر العالي المنيع، الذي لا يزال يصعد به السعد إن شاء الله إلى كل رتبة علية، حيث استقر ركاب أخينا وابن عمنا كريم المناصب، شريف المراتب، طاهر المناسب، فخر الإمام، الوصي الأمين، الأنزع البطين، المختم باليمين، علي بن أبي طالب، السلطان الأعظم، والشاه الخطير الأكرم، عباس شاه الحسيني -أحسن الله إليه- وأتم نعماه عليه، وبلغه صالح الآمال فيما لديه، ولا برح ناصراً للدين الحنيف، حامياً لحمى أهل البيت النبوي الشريف، قامعاً بسيف سطوته إن شاء الله وجهاده لكل ذي زيغ وتحريف، يهدي إلى سوحه الكريمة، ومعاليه الفخيمة شرائف تحياته المباركة الزاكية وانعاماته المتداركة النامية، وكراماته التي هي إن شاء الله بخير الدارين[20/أ] متممة، وبكل مقصد صالح وافية.

وبعد: حمداً لله إليه على ما أنعم به وأولى، وسؤاله[أن يصلي] لنبيه المصطفى، ووليه علي المرتضى، وأمته فاطمة الزهراء، وصفوته الحسن والحسين، إمامي الهدى، وهؤلاء[هم الأئمة] الذين أورثهم الكتاب والحكمة، واختصهم بالكرامة والعصمة، ومنح الأئمة منهم الرأفة والرحمة، صلواته وبركاته وترحماته وتحياته وسلامه الذي يرفع لهم به الدرجات في دار السلام، ويؤتيهم به الوسائل في أرفع مقام وأعلى سنام، فإنه كما أن شيمة أهل البيت النبوي، والمنصب المصطفوي، والنسب الشريف الفاطمي العلوي، ما خصهم الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ حدود الله والدعاء إلى سبيل الله، والجهاد لمن حاد الله ورسوله ولذلك صدقهم ما وعدهم من اظهار دينهم الذي هو دينه، وعلو كلمتهم التي هي كلمته، فلم تزل رايات الحق بهم في أقاصي البلاد وأدانيها سابقة، وسيوفهم الماضية في كل زمان ومكان بين الحق والباطل فارقة ، كما بلغكم جدد الله سعيكم من ظهور دعوة الله وله الحمد، ودعوة أهل بيت رسوله ً في هذه الديار، وبلغنا كذلك ظهورها على أيديكم في تلك النواحي والأقطار، فإن من شيمتهم -صلوات الله وسلامه عليهم- ما هو من خلق جدهم-صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الكرام- وصفته التي وصف بها في التوراة والإنجيل والقرآن، وأدبه الله بها في قوله:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } . وقوله:{وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . ولا سيما بعدما من الله به من القدرة وتفضل به من التأييد والنصرة، وإن تعفوا أقرب للتقوى، وهو من شكر نعمة الله عز وجل على ما أولى وبلغ من الرجوى.
ولما وصل إلينا متحمل كتابنا صفي الدين ابن إمام قلي حقق لنا ما تفضل الله به علينا وعليكم وعلى المسلمين من استعادتكم لما كان خرج على الحوزة فيما مضى من بلاد قندهار وما تيسر لكم والفضل لله من الإذالة من العدو وأخذ الثأر، وطلب منا هذا الكتاب إلى شريف ذلك المقام ليكون إن شاء الله وسيلة له تراحمكم بالعفو عنه والصفح والتجاوز كما هو مقتضى خلائفكم الكرام، لعلمه بأن[20/ب] مثلنا ومثلكم وإن تناءت الديار، وحالت عن تكرار التواصل متباعدات الأقطار، فالقلوب إن شاء الله في أمر الله وأمر رسوله وأهل بيته بقلب واحد، والأيدي في التظافر إن شاء الله والتظاهر على حب الله عز وجل وحب رسوله وعترته الطاهرة كف وساعد، وكيف لا والنسب الفاطمي يجمعنا، وذلك من فضل الله ومنته، والفخار العلوي شملنا، وذلك من أجل إحسان الله ونعمته، والبيت النبوي وكساءه يضمنا، فالحمد لله بكل محامده، ونسأله أن يجعلنا لربنا من الشاكرين، وأن يدخلنا في رحمته، فأسعفناه إلى ذلك، وطال ما تشوقنا إلى الأسباب، وسارعنا إلى مطلبه رغبة في التواصل الذي شرعه الله بين الأهلين والأرحام وكمل به التواد والتحاب، وقلنا كما يقال (جزى الله الأيام خيراً) إذ فتحت لنا هذا الباب، ورفعت الحجاب، راجين من فضل الله أن يجمع لنا بين أداء حقه في ما يجب للأخ المسلم على المسلم فضلاً عن ما يجمع لذي الرحم على

ذي الرحم، مما مدح الله به عباده المؤمنين من التواصي بالحق والصبر، والتواصي بالصبر والمرحمة، والتواصل على ما يحبه منا ويرضى به عنا من إقامة ما شرع من دينه على ما أمر به، وجمع الكلمة والإشتراك إن شاء الله في الدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فنكون إن شاء الله ممن شملته دعوة أبوينا إبراهيم وإسماعيل-صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما- فيما حكى عنهما في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} وبين تصديق أمل الوافدين إن شاء الله فينا وفيكم بما أنتم أهله من الإحسان والبر والتجاوز، والستر والأمانة إن شاء الله على نفسه وماله وأهله واندراجه إن شاء الله تحت فضلكم كما أتاكم الله من فضله، حامدين الله في انتهاء الخطاب، كما حمدناه في أول الكتاب، مصلين ومسلمين على نبييه ووصيه، وأهل بيته المطهرين الذين أنزل الله فيهم{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} . وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حرر بتاريخ شهر شوال من عام إحدى وستين [سبتمبر 1650م] وألف بمحروس شهارة -حرسها الله-.

[رسالة الإمام المتوكل على الله الشريف زيد بن محسن]
وله -عليه السلام- إلى الشريف الأكرم الأعظم زيد بن محسن بن حسين[21/أ] بن حسن بن أبي نمي .
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، غرر المجد النصيرة، ودرر الفخر المنيرة، وسحب الخير المطيرة، ورياض الكرم الوريفة الشرف الدهيقة ومجامع الفضل التي هي بكل مجد رفيع خليقه، وبكل ثناء ومحمد حقيقة، ما جمعته أخلاق الصنو السيد الشريف المعظم الخطير المكرم، حامي حمى حرم الله الأمين المُحْرَِّم: زيد بن محسن بن حسين بن حسن بن محمد بن بركات بن أبي نمي -بارك الله لنا وللمسلمين في أفعاله كما بارك في أسمائه-، وزاده مما أولاه من خير دينه ودنياه وسابغ نعمائه وأهدى إليه من شريف سلامه واكرامه وانعامه واعظامه ما بلغه إن شاء الله في طاعته ورضاه غاية مقصده ومرامه.

وبعد: فإنه وصل كتابكم الكريم الشريف الوسيم صحبة الأديب الأريب حسين بن علي -رعاه الله- جواباً على جوابنا عليكم في شأن ما يتعلق بالصنو السيد الأنجب مهنا بن قتادة، والشريف الأوحد محمد بن حسين -رعاهم الله- وحرصنا في أمرهما كما ذكرناه لكم من إنجاد الحال في أمر الله والتعاون على البر والتقوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الضعيف وابن السبيل عن عبث المفسدين، فإن ذلك لا يتم إلاَّ بالإجتماع وحسن النية في الجميع من الجميع، وإن كرهته النفس فقد قال عز وجل: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } وقد وصينا الجميع بذلك وأخذنا عليهما ولا نترك إن شاء الله جهداً في اصلاح الحالين، كتفقد الوالد أمر ولده إن شاء الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم عرفنا ما اشتمل عليه كتابكم الكريم من تلك النصائح، وتحقيق الأحوال والأراء الميمونة المباركة إن شاء الله، واستمداد ما عندنا من ذلك بعد استخارة الله عز وجل والإعتصام بقوته وحوله إنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأنتم حفظكم الله لم تدعوا في ذلك إلاَّ خيراً، ولا دللتم إلاَّ على رشد، ومثل ذلك فرضنا وفرضكم، ومطلبنا ومطلبكم، والذي نقول إن شاء الله على التقرب إلى الله عز وجل به، ودعا عباده إليه والإستعانة به تبارك وتعالى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

18 / 116
ع
En
A+
A-