[قدوم قوم الدعاجنة]
ومن ذلك أنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- قوم يسمون الدعاجنة من بلاد بني حزام، وأهل طريق مراحل الحجاز يشكون من شيخ لهم يسمى: مرعي بن بشار، من البلاد التي لا يقدر عليها في العادة ملك الحجاز، ولا ملوك اليمن وإنه غزاهم واستعان عليهم ببعض قبائل الحجاز، وقتل منهم نحواً من أربعين رجلاً، واستاق من أموالهم خمسمائة من الإبل ومثلها أو أكثر من البقر، وعشرة آلاف من الغنم، فبعث معهم الإمام -عليه السلام- الشيخ الرئيس الكامل عامر بن صلاح الصائدي ، وهذا الشيخ من أهل الصبر على إصلاح مثل هذا الداء، فسار من محروس الدامغ أكثر من عشرين يوماً وعالجهم حتى أرجعوا ما كانوا أخذوه ووصل بهم إلى أبي عريش وحكموا للشريعة، وأرجعوا لكل واحد من المذكورين حقه من دم ومال، واستخلص منهم فوق ألفي حرف مصري[10/أ] كعقوبة ولم يكونوا قبلها متحكمين لأحد ولا يطمع في إيواء من وصلهم إلى بلادهم منهم، فضلاً أن ينقاد للشريعة المطهرة أعزها الله تعالى ونحو ذلك كثير.

ومن ذلك ما رواه الشيخ سعيد بن علي القحطني وغيره ممن حضر حصار العسكر من أصحاب الإمام -عليه السلام- في أحور بعد الغدر، الذي كان من آل ذيب وآل كازم أن العسكر المذكورين انحصروا في بعض بيوت أحور ولم يجدوا من البارود والرصاص شيئاً إلا ما في عددهم، وقد تكاثرت عليهم جموع القبائل فكانوا كاليائسين من أنفسهم، فإذا بهم وجدوا في البيت الذي هم فيه جراباً مملوءاً باروداً ورصاصاً، والرصاص مصبوب كأنه لكل بندق بقدرها كأنها صبت عليها ولم يكن لأهل أحور علاج في البنادق فهذا من الكرامات الخارقة وسيأتي إن شاء الله.
ومن ذلك حصول الجراد مع قدوم عسكر الإمام -عليه السلام- لحرب صاحب حضرموت وجموعه المذكورين في السيرة، فإنه ظهر الجراد إلى وجوه أهل حضرموت أمام العسكر الإمامي فانهزموا ولم يكن الجراد يظهر قبل تلك الساعة ولا رأوها بعدها.
ققال بعض العسكر وكان الجراد كله أبيض على لون واحد.

ومن ذلك ما أخبرني به كثيرون من خاصته من أهل شهارة، إنه لما رجع -عليه السلام- من السُودة إلى شهارة لافتقاد أعمالهم وتقرير أحوال أهلها، وكان الماء إذ ذاك منقطعاً وإنما كان يأتي به الشقاة من خارج شهارة، وإنه دخل بيته الشريف الذي بالقرب من مشهد الإمام ذي الشرفين -عليه السلام- وأخبره أهل البيت المذكور أنهم لا يقدرون على تحصيل الماء مع ما عرف من أحوال غيرهم من البيوت، فأغلق على نفسه في حجرة من أعلى داره مفتوحة إلى السماء وأخذ في الدعاء إلى الله والتضرع باكياً، فأرسل الله سبحانه وتعالى مطراً غزيراً فكان عليه من أوله إلى آخره، وقد سأله أهله أن يُكنن معهم فما عاد إلا وقد إلتفت عليه ثيابه، والماء يسيل من لحيته الطاهرة، وكانت آية باهرة، فارتوى الناس ودخل برك المساجد ما كفى والحمد لله رب العالمين.
وقال القاضي المذكور -أيده الله-: ولم يعزم الإمام إلى شهارة إلاَّ بعد أن بلغ إلى أهلها من الشدة فعزم إليها قاطعاً من الله بحل العقدة.

ومن ذلك ما كان في شهر رمضان في ليلة العيد[10/ب] فإنه كان في ليلة العيد قد أهّب -عليه السلام- أشياء كثيرة لجمع الناس في السمرة كما جرت العادة، وأتم كل واحد افطاره عند العتمة، ولم يكن ثَمّ مطر، فلم يشعر الناس إلا بمطر، فقال بعض القائلين: أظن والله اعلم أن الإمام سأل الله أن يمد بهذا المطر ليكون عذراً عن السمر إلى الناس يقبل على الطاعة، فلما أصبح العيد حكى الإمام -حفظه الله- ذلك عن نفسه، وإنه قال: لما أتممت الإفطار دار في خلدي أن هذه ليلة متاجرة لله وأورد الصلاة، فأنا أسال الله أن يمن بمطر يكون عذراً، فما كان إلا هنيئة وقد جاد[ت] السحاب بما فيها.
ومن ذلك ما تيقنته من جماعة حضروا عنده بوادي الفروات من أعمال سنحان وسمعته منه -عليه السلام- أيضاً اتفق خبرهم أنه -عليه السلام- بات في دار عمرو وعند طلوعه صنعاء، وكان منفرداً عن الأجناد طلباً للرفق بالرعية، وفرقهم في جهات تقوم بهم، فلما بعد هوني من الليل خرج إلى الصحراء ومعه أربعة أنفار من خدمه الثقات، منهم الحاج محمد الجرباني وغيره، وكان معهم شمعة، فقال الإمام -عليه السلام-: أطفؤها لئلا يكون عَلماً في الصحراء فأطفأؤها، وبعد في المذهب حتى قضى ما أراد، ورجع إلى جماعته، وقال: ليت لنا ماءً نستنجي به. قالوا: نحن لا نعرف هذه الجهة، فبينما هم كذلك إذ أقبل رجل بماء، قضى من ذلك ما أراد من الإستنجاء، ثم عادوا فلما أخذوا في الطريق آتين أنارت الشمعة، وعادت كما كانت مضيئة والحمد لله رب العالمين.

ومن كراماته -عليه السلام- بإجابة الدعوة، ما أخبرني به الوالد الحسين -أسعده الله- أن رجلاً كان يتردد في الباب الشرقي الإمامي في معمور الحصن يسمى علي الجوفي أكثر على الإمام -عليه السلام- قرع باب المسجد الصغير الذي تعود الإمام الصلاة فيه، وراتب القرآن بمعمور الحصين وهو ما أسسه مولانا الحسن-رحمه الله- فكان من الجوفي المذكور الأذية للإمام بالأصوات والبذاء، فقال الإمام -عليه السلام- ادفعوا عنا هذا الله يصيبه ويشغله كما شغلنا، فلما سار خُطاً يسيرة ووجد أهل البارود يحملونه يريدون أن يرموا بالطلاعات لبعض الأسباب، فأراد هذا أن يحمل شيئاً على المعهود من جفنه فعلقت النار بالذي عليهم من غير فعل فاعل، فحرق المذكور دون غيره وبقي يتقلب في جراحاته حتى هلك بعد ثلاث أو أربع [أيام] .
ومن ذلك قضية (عبد) الجمَّال وكان يلي جِمال مولانا -عليه السلام- وذلك أن الإمام -عليه السلام- رأها غير موافقة[11/أ]، وكان قد طلب شيئاً منها لبعض الغزاة إلى جهات المشرق، فعتب على الجمَّال المذكور، فقال الجمَّال للإمام -عليه السلام- في محضر الناس: إنك لا تستر مني ولا من الجمال، وضعف أمره -عليه السلام- وتأفف بخدمته، فقال الإمام -عليه السلام- احبسوه أصابه الله تعالى، فما وصل الحبس إلا ومات في تلك الليلة أو التي بعدها.

ومن ذلك أن بعض النساء لبعض أهل خدمته أدعت عليه نقصاً في معتادها، وكلمته بالتعدي في القول، وهو إذ ذاك في قصر صنعاء بعد صلاة الفجر مشغول بأوراده ، فقال لبعض أهل بيته: شغلتنا هذه شغلها الله بنفسها، فاصرفوها عني أو كما قال، فما أمست تلك الليلة وقد خرجت عليها عقرب لسعها في مواضع من بدنها وهي تصيح (أنا جار الله وجار الإمام)، وتقول استحلوا لي منه فشفيت بعد ثلاثين يوماً أو نحوها.
ومن ذلك ما اشتهر في أيام الجراد المذكورة في هذا المختصر، إنه كان من نذر من الزراع على الإمام -عليه السلام- دفع الله تعالى عنه الضراء أو بعضها وكثرت لذلك النذور، وأن رجلاً من عتمة يسمى صالح بن عمر بن عامر من بلاد الثلاثاء نذر على الإمام -عليه السلام- بزبدي من الطعام فأخذت الجراد الزرع الذي تحت ماله والذي فوقه وحفظ الله زرعه، وصار علماً بين ذلك وغير ذلك مما يطول.
ومن ذلك أن رجلاً آخر من أهل المغرب الصغير يسمى يوسف بن محمد الربيعي لما رأى الجراد وصلت نذر على الإمام بشيء من ثمرته وعاد إلى بيته ومنع أن يحمي زرعه، فأخذ الجراد ما فوقه وتحته وبقى ماله سالماً دون غيره.

[كتابه في التحذير من المعاملة في الربا]
وأمَّا رسائله ومكاتباته -عليه السلام- فمنها هذا الكتاب في التحذير من المعاملة في الربا.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، كتابنا هذا إلى من بلغه من المسلمين كثرهم الله وأعزهم، وعلى من بلغه أن يُبلَّغه إلى من لم يبلغه إن شاء الله. سلام الله عليكم وإنا نحمد الله إليكم ونصلي ونسلم على محمد وعلى آل محمد، وإني آمركم بتقوى الله في جميع أمركم، وفي سركم وعلانيتكم، فاتقوا الله وأطيعون {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وأُرغبكم فيما رغب الله من طاعته التي ثوابها الجنة ونعيمها، وأحذركم ما حذر الله من معصيته التي جزاؤها النار وجحيمها، ثم اعلموا أن من أعظم ما أوعد الله عليه النار، وأوجب على من لم ينته عنه غضب الجبار، الربا الذي حرمه الله[11/ب] وشدَّد في تحريمه أعظم تشديد، وأنزل في التخويف منه أعظم الوعيد والتهديد، فقال عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فصور الله عز وجل في

هذه الآية الكريمة عاقبة آكل الربا عند قيامه إلى الحشر بأقبح الصور التي لا يرضاها أحد لنفسه، وهي صورة الذي يتخبطه الشيطان من المس، ونقم على أهله مساواتهم بين البيع وبين الربا، فأخبر الله عز وجل أنه تبارك وتعالى أحل البيع وحرم الربا، وليس ما حرم الله تعالى وأوعد عليه النار كما أحله ووعد فيه البركة، ثم أخبر عز وجل أن من جاءه موعظة من ربه فانتهى عن الربا غفر له ما كان سبق منه مع وعيده بأن مرده وأمره إليه، وأن من عاد من أهل النار خالداً فيها مخلداً، ثم شنع عز وجل الربا بأن الله يمحقه وما محقه الله فأي خير فيه وأي بركة عنده، ثم سمى صاحب الربا الذي لا ينتهي عنه بأقبح الأسماء ووصفه بأشأم الصفات بقوله{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } ثم قال عز وجل بعد هذه الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .

فأخبر أن الذين يؤتيهم الأجر، ويؤمنهم من الخوف والحزن هم من اتصف بصفات المؤمنين الذين حرموا ما حرَّم الله من الربا، وأحلّوا ما أحل الله من البيع، وعملوا الصالحات التي أمر الله بعملها وصلّوا وزكوا، كما قال عز وجل فيهم في آية أخرى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} ، لا للذين أحلَّو ما حرَّم الله وارتكبوا الربا وقد وعظهم الله تعالى، ثم أكد تحريم الربا بقوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فأعاد تبارك وتعالى ذكر الأمر بترك الربا، وآذن من لم يفعل بما هو أعظم الأمور وأشدها، وما لا تقوم له الجبال الرواسخ والشم الشوامخ، ولا السماوات ولا الأرض من حرب الله[12/أ] ورسوله. فيقال لصاحب الربا: خذ أهبتك وسلاحك للحرب، فأي قوة له على ذلك، وأي تهديد أعظم من ذلك، وأي أمرٍ أفجع وأفظع على العبد الضعيف من محاربة الله ورسوله، وكيف لا ينتهي عما نهاه الله عنه وهو يعلم ضعفه وعجزه، وقدرة الله عز وجل عليه، ويغتر بشيء حقير يناله من الدنيا الفانية يستبدل به هذا

الوعيد الشديد، وعداوة الله القوي المبيد، فاتقوا الله عباد الله، وإياكم والدخول في شيء من شُبه الربا، فإن الربا شِعبٌ كثيرة كلها مهلكة مردية موبقة مشقية، ومن ذلك ما نعيذكم بالله منه مما اتخذه بعض المرابين والظلمة من عباده طريقاً إلى الربا، من أعطى الحبَّ للمحتاجين وقت الحاجة على صورة القياضة والبيع والتأجيل توصلاً إلى أن يقبضوا منهم عند الرخص أضعافه التي قال الله عز وجل فيها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
ومن ذلك بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل التأجيل من بُرّ وغيره، وأعظم من ذلك من يبيع بدين قد أغلاه، ثم ينقد لمن اشتراه منه دون ما باعه منه ويشتريه منه، وهو من مسألة العينة التي عظم النهي عنها ووقع كثير من الناس فيها.
ومن ذلك صرف نحو القروش بالبقش مصريها وعدديها، وصرف المصري أيضاً بالعددي لتفاوت وزنها وعدم تيقَّن المساواة فيها، وقد شرط نبيكم صلى الله عليه وآله في حلها التساوي فقال: ((الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد)) فحرم صلى الله عليه وآله البيع والشراء فيها إلاَّ أن تكون متساوية وحاضرة، وقال في آخر الخبر: ((فمن زاد أو ازداد فقد أربى)).

14 / 116
ع
En
A+
A-