الثاني: ما صار الناس فيه من السِّعة بعد أن كانوا بخلاف فإن دعايم الإسلام انتصبت بالأمر من عيال أولاد المنصور -عليه السلام- وما ذلك إلا لسعة خاطره الكريم، لتوفير ما في أيديهم بعدم المشاحة فكانوا ملوكاً للإسلام يتمكنون من الإحسان والإنعام، ولإعداد ما يجب إعداده لحوادث الأيام، ومن ذلك ما يراه -عليه السلام- من ظهور السعة والتصرفات الواسعة على كثير من عماله وخواصه، وخصوصاً أولاده من الكفايات وما يظهر معهم من الآلات والعمارات والضياع والمستغلات، كما ذكر نحو ذلك السيد الإمام حجة الإسلام الهادي بن إبراهيم المعروف بابن الوزير-رضوان الله عليه- في كتابه المسمى (كاشفة الغمة) واصفاً لسخاء الإمام الناصر لدين الله صلاح الدين -عليه السلام- بقوله: فكم من دور من فضله عمرت، وضياع مُلكت، ومضايق توسعت، أو كمال قال: وما ذلك إلا لكرم طبعه وسعة صدره، وإن الحد المذموم، والغل المشؤم، وسوء الظن الذي لا يغل معه الصديق لا يعرض له وكأنه محفوظ عنه يحفظه الله سبحانه وتعالى، وهذا إنَّ جعلناها من السخاء فأخلق بها من مثله، وإن جعلناها من الصبر وحسن التدبير وتحمل الأمر العظيم كما ذكرناه في صاحب حضرموت فأحق أن تلصق[7/ب] بشريف خلاله وزكي أحواله.

[صبره وشفقته]
وأمَّا صبره على تحمل الأعباء، والكدح الشديد لما يبلغ من الأنباء، ويحفظ عليه من المعالم الدينية والدنيوية شرقاً وغرباً وبعداً وقرباً، فمما لا يمكن حصره، ولا يدرك قعره، لا سيما مع الشدائد التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى وانثيال أهل الحاجات إليه مع طمعهم في نايله الذي لا يحد ولا يحصى له عد. فمما يمكن أن يدعي له المدعي عدم المشاركة من آبائه -عليهم السلام- والله أعلم.
وأمَّا شفقته على الأمة عموماً وعلى الضعفاء خصوصاً فيشهد بذلك ما تراه في أثناء سيرته النافعة من جمل ذلك.

وأمَّا الإحاطة بها فما أبعدها لا سيما على مثل جامع هذه التوقيعات من ذلك غالب أوقات طعامه لا تكون إلا ومعه مسكين أو ملهوف يأكل معه ويختص به، وإني قلت له مرة وهو في محروس الحصين -عمّره الله- وقد رأيت رجلاً ترك الإمام -عليه السلام- إلى أن سلم من صلاة الجمعة فترامى إلى أمامه داخل المحراب، وحال بين الإمام والانصباب على الدعاء المعهود، فرده برفق حتى أعاده إلى موضعه الأول، فقلت له -عليه السلام- في غير ذلك المقام: لو تركت الخدم يمنعونه كما منعوا غيره، فقال: مقسماً بالله إني قد قضيت حاجته في سواد هذه الليلة، وذلك إني سمعته يتظلم وقد مضى من الليل شطر وقد رقد كل واحد فيما أعلم وقلت لنفسي: بقي لي من القدرة ما أنظر في قضاء حاجة هذا الملهوف، ولا وجدت من يستدعيه فقمت وفتحت له الباب وأسرجت له الشمعة، وأوصلته مرقدي مكان خاصاً والله قسماً ما قد دعوتك إليه يعنيني! قال: ثم غسلت له يده وطلبت له الطعام وسألته حاجته، وقضيت ما إليَّ منها، وأحلت بينه وبين خصامه إلى الشرع الشريف أعزه الله، والمناظرة عند القاضي فعاودني بما رأيت وكذا غيره مما لا أحيط به.

[دعوة الإمام المتوكل على الله]
وأمَّا دعوته فقد تقدم أنه لما بلغه وفاة الإمام المؤيد -عليه السلام- وعوّل عليه من عول بالقيام فبشر بدعوة جامعة، وحجة قاطعة، صفتها: إنه كان يوافق كل طائفة من المسلمين على وجوب الإمام بالجملة، ثم استحقاقها ووجه لزومه بالقيام لها، ثم يعظ ويذكر ما لم يسمع بمثله من غيره، حتى أنهم يتفرقون على تحقيق ذكر ما سمعوه، ويخبر كل واحد في بلده وما أروع أسماعهم، ثم يذكر فضايل الله عز وجل على ضرب من التفصيل بعد أن يقدم على ذلك حمداً لله الذي لا إله إلا هو بجماع المحامد كلها، ثم يصلي ويسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم كذلك، ثم يبايعهم كما بويع عليه الأئمة[8/أ] -عليه وعليهم السلام-........... .

[كرامات الإمام المتوكل على الله]
[8/ب] وأمَّا كراماته -عليه السلام- فلنذكر منها يسيراً، من ذلك أنه دعا وليس عنده مال ولا رجال فاستنزل بالله سبحانه معارضيه في أقل من شهر كما هو في السيرة، ومن ذلك البركة في الأموال فإنه -عليه السلام- وضع على الرعية كثيراً من المعاون المعتادة التي كان يستعين بها والده وأخوه-صلوات الله عليهما- وكثر الله في الرزق والخيرات وتمت البركات، ومن عرف الحال سابقاً وعرفه لاحقاً عرف أن ذلك من خوارق العادات وأن النفقات في وقته -عليه السلام- تضاعفت فكان من ترضيه الخمسة الحروف والعشرة يطلب في أيامه الخمسين الحرف والمائة ويحصل له.
ومنها ما أخبرني به ثقات أصحابه -عليهم السلام- وسمعت منه -عليه السلام- شيئاً من ذلك أن النفقات على جميع أصناف المرتزقة تقل وتعدم، فإذا شغلته حاجاتهم جاءه أضعاف ذلك المحتاج إليه، من حيث لا يحتسب، ولو نذكر الحكاية في تفصيل ذلك لطال.
ومن ذلك عمارة البلاد ومساجدها ومناهلها تضاعفت في أيامه مع الشدائد المذكورة في السيرة، ولا نرى منه -عليه السلام- ولا من ولاته[إلا] كل الإلتفات إلى ذلك، وإنما ذلك بركة، واقتدى به وبأفعاله المخالفون في المذهب.
ومن ذلك ما رواه القاضي العلامة المكين الحسن بن أحمد الحيمي في خبر مسيره إلى ملك الحبشة.

ومن الكرامات الخارقة منها عظم هيبة أصحابه -عليهم السلام- وكانوا نحو ثلاثين نفراً، وكانوا يمرون على العظماء من الكفار ومن في جوارهم من المسلمين ولهم الهيبة في أرض لا لملك الحبشة عليهم سلطان، وكذلك في قرار مملكته ومحل سلطانه، كان هؤلاء النفر لهم حامية وعليهم الهيبة والجلالة، والعادة الجارية أن ملك الحبشة تغفل عن رسل ملوك الإسلام من الروم والهند وغيرهم، وربما لا يجدون السبيل إلا العودة كما جاؤا.
وأمَّا رسله -عليه السلام- فعظموهم التعظيم الذي لا وراه وإن بعض النساء في ذلك المحل من مكان السلطان أسلمت ولاذت بأصحاب القاضي خوفاً من أن يردوها إلى النصرانية، وقد سمع صاحب القاضي كثرة الكلام فخرج والسيف مغمد في يده فهرب الذين أرادوا إرجاع المرأة فرقاً وخوفاً.
قال القاضي -أيده الله-: ولا يقال بأن ذلك خوف من ملكهم فهو نصراني، ولا يرضى الإسلام لنفسه كيف لغيره، وأيضاً فإنهم فرقوا من السيف لما رأوه فلو كان خوفهم من السلطان لمنعهم ذلك من إرادة الهجوم على مكان المسلمين. انتهى.

ومن مثل ذلك كثير مما حكاه القاضي شرف الدين -أيده الله- كما في سيرته، من أعظمها أن القاضي -أيده الله- ومن معه من المسلمين لم يقطعوا بين بلاد المسلمين التي فيها الأتراك وبين بلاد المشركين التي يليها صاحب الحبشة فاجتمع عليهم قوم أعتام حرباً للمسلمين والمشركين فكادوا يأخذونهم وحاصروهم في هضبة من غير ماء، فأمدهم الله تعالى بغارة من المسلمين لم يكن لهم علم بقربهم منهم، وإنه خلف أولئك القوم غدرة الكفار خصوم لهم[أي الكفار] نهبوا أهاليهم وأموالهم باعوهم في بلاد المسلمين وهم ينظرون.
ومن ذلك تحكم أهل الحرمين الشريفين لأوامره والإعتزاء إليه وقبول قوله من غير شوكة تنالهم، ولا كفاية من المال تصلهم، فإنما أرزاقهم من مصر والشام والعراق وغيرهم كما ذلك معلوم.

ومن ذلك الكرامة العظمى وهي قضية السلطان جعفر بن عبدالله بن عمر الكثيري ، فإنه وصل إلى الإمام -عليه السلام- وبايعه وأحسن إليه وأعطاه ما لا يقدر قدره، وذهب إلى حضرموت، ثم غدر بعمه السلطان بدر بن عمر وهو والٍ للإمام -عليه السلام- على ظفار وما والاها من البلاد المنسوبة إلى حضرموت كما سيأتي، وقتل ولده وأخذ ظفار، ونجا عمه إلى الإمام -عليه السلام- من طريق البحر الأحمر وبلاد المهرب فكان معه تلك المخارج التي لم يسبق إلى مثلها في أرض اليمن، والأهوال التي لحقت المسلمين في الزمن، وعاد جند الإمام من حضرموت -وهو أي جعفر المذكور- في ظفار على عتوه وغفلة، وعادت تلك المحاط المنصورة التي يقال أولها في تريم وأقاصي حضرموت، وآخرها في حصن ضوران من غير أن يقضوا حاجة من الظفر بالمذكور، واستقروا في صنعاء المحروسة بالله من محرم إلى شهر شعبان من العام المذكور آنفاً، ولم يشعر الإمام -عليه السلام- ثم وصل إلى الإمام -عليه السلام- ولم يكن بينه وبينه إلا مسافة الطريق.
وأخبرني بعض الخواص مكاتبة أن الإمام -عليه السلام- قال: وقد شكى عليه مولانا الصفي أحمد بن الحسين -أيده الله- عظم ما لقى من التعب في هذا المخرج وأنه لم يحصل له المقصود من الظفر بجعفر هذا المذكور، فقال الإمام -عليه السلام- وقد وقع في نفسه الرقة لمولانا أحمد للمسلمين: وأنا أطلبه من الله سبحانه وتعالى، وأساله أن يُمكن منه بحوله وقوته، وأخذ في الدعاء على ذلك فكان ما ذكرناه من وصوله بغير شعوره.

[قضية الفضلي وغدره]
ومن ذلك قضية الفضلي أنه غدر ونكث وأثار الفتنة التي[9/أ] خرج لأجلها مولانا الصفي-أيده الله تعالى- في شعبان سنة إحدى وسبعين [وألف] وأنه طلب الأمان من مولانا أحمد وضمانة بعض سلاطين المشرق، وفعلوا له ذلك مرة أو مرتين ثم نكث وأخذ في الهرب إلى مغاور وبلاد لا تليها دولة حق ولا غيرها، فتجرد لطلبه ولدا مولانا الصفي أحمد بن الحسن -أيدهما الله- فيمن خف فأدركوه في بعضها من غير عهد ولا عقد، ووصلا به إلى والدهما أحمد بن الحسن -حفظه الله- وقد تجرد من ألفافه وثيابه ليخفي حاله فأمكن الله منه، ووصل إلى الإمام -عليه السلام- كما وجدوه على حالته عارياً منفرداً.
قال القاضي أحمد بن صالح -أيده الله-: وفي أثناء هذه الغزوة كرامة عظيمة.
قال مولانا صفي الإسلام -حفظه الله-: توجهنا إلى محل قريب من جبل أهل فضل، وكان هنالك في المخيم الذي أردنا فيه الإقامة بقرب الجبل بيران فيهما ما لايعرف قدره،، فكنا تقدمنا متوكلين على الله، ومستندين إلى ما بلغنا أنهما بيران، فلما وصلنا وضربت الخيم ولم أكن [قد] استقريت في محلي، وإذا قائل يقول: فرغ الماء ولم يبق شيء، قال: فأخذني ما قدم وما حدث، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وتفكرت كيف يكون العمل إن عدنا إلى المخيم فهو بعيد، وما عندنا من الماء ما يبلغنا إليه، وإن تقدمنا فالأمر عظيم لذلك رجعت إلى الله تعالى، فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى انصبت السماء بما فيها، وأقام الجند هنالك على خير مقام وهذه مشهورة متواترة.

قال المولى: سبحانه وتعالى هو مولانا نعم المولى ونعم النصير. انتهى.

13 / 116
ع
En
A+
A-