[أوصاف الإمام المتوكل على الله]
وأمَّا حليته -عليه السلام- فإنه معتدل القامة، أسمر اللون، مقرون الحاجب، عظيم اللحية، أشعر الذراعين، مسيح البطن، قوي الحركة، كثير التبسم، رفيق بالأصحاب، رحيم بالضعفاء، حسن الخلق والسمت، إذا قعد في العلماء كان لسانهم الناطقة، وكلمتهم المارقة، داخل في أهل الدنيا لمعرفته لأحوالهم، خارج عنهم وعنها لاعتزالها ولاعتزالهم:
تجاوز حد المدح حتى كأنه .... بأحسن ما يثنى عليه يُعاب
وأمَّا خصائصه فكأنه في جميع أحواله وأوقاته كالعبد الذليل بين يدي مالكه الجليل، عليه السكينة والوقار، لا يفتر لسانه عن ذكر الله، حتى إنه إذا تحدث مع خاص أو عام يحرك شفتيه بعد ذلك بذكر الله سبحانه، وغير ذلك مما يطول تعداده، ويعسر ايراده، ومن ذلك ما جعله الله سبحانه عليه من الوقار والمهابة، ويجري في مقامه الكريم اللَّغط والخصام والضنك والزحام، مع أجناس العوام لما هو عليه من الغي في الكلام، فقد يتكلم بعضهم بما يظهر منه الخطأ في الكلام، في حق الله جل وعلى[5/ب] وحق الإمام، فيتأذى من ذلك من بحضرته من العلماء الأعلام، وربما يظهر منهم الاستنكار، وقد يضحك بعضهم لذلك وهو -عليه السلام- على أتم صفة الوقار، وأعلى منزلة في النظر والاستبصار، وتعداد ذلك يطول، ولا يقدر الحاكي لجلاله وشريف خلاله غاية المقول.
[علمه]
وأمَّا علمه -عليه السلام- فالمشهور من غير نزاع، وأن ذكره ملأ الرقاع والبقاع، فصار كما قال بعض أصحاب والده -عليه السلام- وقد ذكر علم أخيه مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله -عليه السلام-:
وعن علمه فاسأل إذا كنت جاهلاً .... تنبئك عنه كتبه والرسائل
[مؤلفات الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
ومن مصنفاته النافعة ما ظهر واشتهر، منها ما قاله القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال -أسعده الله- فاكتفينا بما ذكره -أيده الله تعالى- فقال: منها (العقيدة الصحيحة في علم الاعتقاد من غرر الكتب كل ما تضمنه مقتبس من كتاب الله تعالى ونحا ذلك النحو ليكون الخلاف بين المنازع له وبين ربه، فإنه ما حكى منه عقيدة في الغالب إلا بلفظ الذكر الحكيم، وشرحها بشرح مفيد من أعجب الكتب، وابتكر فيه أدلة في بعض المواضع مما ألهمه الله قاطعة للخصم، قرأت عليه مراراً في مواقف حافلة يحضرها الخصوم، ويتكلمون بما عرض وشرحها جماعة، منهم الفقيه الفاضل صالح بن داود الآنسي وبعض أهل الاحساء، وبعض المصريين، وهو الشيخ حجازي، وبعض قضاة الفقهاء الشفعوية ، واشتهرت في الأقطار في أسرع وقت.
ومن مصنفاته (المسايل المرتضاة إلى جميع القضاة) فيه ما يعتمدونه في الأحكام، وفيها آداب أيضاً لهم.
وله حاشية لم تكمل على منهاج الإمام المهدي -عليه السلام- في علم الأصول، وله من الرسائل ما يضيق بذكره الكاغد مع أنه في غاية الإتقان، من ذلك رسائله في الطلاق الثلاث متكررة مكرسة نقل فيها من وافق أهل البيت من فقهاء المذاهب الأربعة، وأبسطها الموجهة إلى القاضي عبدالقادر المحيرسي ، ومنها رسالة في المحايرة مبسوطة، ورسالة في ابطال الدور، ورسالة في الخلع إذا كان العوض من الغير، ورسائل على كلمات من الحديث، وقواعد معرفة في أصول الفقه، ورسائل مبسوطة فيما يؤخذ من الجبايات، وفي إهدار ما وقع من أيام البغاة مكرسة أيضاً.
[شجاعته]
وأمَّا شجاعته شهد بها جماعة من مخالطيه، وأخبرني أيضاً من سمعها من حي الحاج المجاهد سيف الإسلام أحمد بن عواض الأسدي[6/أ]-رحمه الله- وقد حج معه في اثنين وأربعين[وألف] فعرفها لمرجيها في السفر الميمون كغارته الهائلة إلى المشرق لاستدراك ولد أخيه مولانا الصفي-أيده الله- فإنه اقتحم مخاوف ومواضع لم يتصل بها من أهله غيره، مع قلة عسكره وذات يده . وهو في كلها واضح الجبين، قليل على الصبر عليه القرين.
ومن ذلك قيامه -عليه السلام- في عصابة يسيرة وقد حشدت عليه العساكر من صنعاء وشهارة وغيرهما، وأيضاً مع تفرق أصحابه وقلتهم؛ فخرج من الحصن المحروس في أنفار للقاء تلك العساكر المتكاثرة، وغير ذلك مما يشهد له بالثبات.
[ورعه]
وأمَّا ورعه الشحيح ، وتقشفه الصريح فمما لا يفتقر إلى بيان، ولا يختلف فيه اثنان، فإنه مشهور بترك كثير من المباحات والمعتادات بقدرةٍ يوجبها المقدور، وعزيمة لا يتعلق بها غبار الأماني والغرور، وأبوابها غفيرة وأعدادها كثيرٍ.
قال القاضي المذكور ما لفظه: ومن عجائب عزماته ما أخبر به عن نفسه الكريمة، قال: لما أشتد الأمر بيننا وبين الصنو أحمد أيام الدعوة وتوجهت جماهير العساكر إلى صنعاء ثم إلى خدار ونحوه، تأملت فقوي عزمي على أن أترك خليفة في الحصن المبارك، وأترك العساكر المتصادمة كما هي، وأتوجه من طريق الحيْمه ونحوها حتى لا يشعر الصنو أحمد إلا وأنا في جبال الأهنوم ويكون العراك هناك، فإني أعلم أن قلوبهم عندي فخرجت بما أحتاجه إلى ساحات ضوران فاتفقت بالسيد الجليل هاشم بن حازم ، ولم يكن دخل في السفينة فتريثت عنده حتى صلح أمره وبايع ثم تجدد من الأنظار ما هو أرجح، أو كما قال القاضي المذكور [أيده الله] : ومن ورعه -عليه السلام- أني كنت عنده في شناضبة من أعمال جهران فأخذ الجند في الرمي بالبنادق وشاركهم -عليه السلام-، فأعطاه بعض الجند بندقاً من أحسن البنادق، فمنع أن يرمي بها فسألته، فقال: هذه البندق أرسلها القاضي الحسن بن علي الأكوع وأظن بعضها من آداب وبعضها من زكاة.
ومن ذلك أن السيد الحسن بن المنتصر الهادوي عامله على بلاد الحرجة أشترى له جارية بستين قرشاً منها خمسون دفعها من نذر قبضه للإمام، وعشرة اقترضها من الزكاة، فلما وصلت إلى الإمام -عليه السلام- ودخلت إلى بيته، أخبره بذلك فعتب الإمام كثيراً، وقال لي: هذا السيد ما أحسن في تصرفه، ولقد والله تحرجت عن النظر إليها، فهل عندك مصرف للزكاة؟ قلت: نعم. فقال: أطلبه الآن يخرجها من بيتي، فطلبت بعض الفقهاء، فخرجت إلى بيت الفقيه المذكور ووهب له من ثمنها خمسون[6/ب] قرشاً من النذر كما ذكرنا، وسيظهر كثير من ذلك في أثناء السيرة والله الهادي.
[تدبيره]
وأمَّا تدبيره النافع فلا أعظم وأجلى المعلومات المشاهدة من الإعتراض عليه من ذوي الحنكة والتدبير في تدبيره ولا جرى للمعترض لسان في تهجين أموره مع كثرة من يريد ذلك، وهذه النبذة كافية والله أعلم.
وأمَّا سخاؤه فأظهر من الملوان ، ومما لا يختلف فيه إنس ولا جان، ومن عرف سير الأئمة -عليهم السلام- وجده سابقاً لكثير منهم -صلوات الله عليهم- فما أحقه بما قيل في جده أمير المؤمنين -عليه السلام-:
أمواله للسائلين غنيمة .... وله بأخذهم لها استغنام
وبما قيل في مثله من الأئمة -صلوات الله عليهم-:
سألت عنه فقالوا ليس سلمه .... إلا بأمرين مشهورين فأعترف
سخاء كف وإن لم يبق باقية .... وبذل روح ولو أدى إلى التلف
وقد ذكر طرفاً مما يدل على ما رواه من ذلك أن صاحب البصرة حصل بينه وبين ابن أخ له يسمى فتحي باشا من ملوك العجم اختلاف فوصل إلى الإمام -عليه السلام- في عام إحدى وستين أو اثنتين وستين [وألف] [1650م] ويريد العود إلى ديار الروم لمنازعة أخيه فأعطاه -عليه السلام- مالا يضبطه الواصفون بعدد، من ذلك أن حي السيد العلامة محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين-رحمه الله- أرسل من المخاء إلى الإمام -عليه السلام- بنفايس من جميع الأجناس التي لا يقدر الحاكي تقديرها ولا قيمتها، فأرسلها الإمام -عليه السلام- نحو (ألفها وخواتمها) إلى الباشا في ساعة واحدة، فقال حي السيد -رحمه الله-: إنا جمعناها في كذا سنين، وخرجت لهذا في وقت واحد.
وقال القاضي المذكور -أيده الله-: ومن عجيب ما رأيت من عطاياه أنه وفد إليه الشريف عمار بن الشريف بركات الحسين المكي فأعطاه ما يشق ذكره في هذا المقام فأخبرني من لفظه -حفظه الله- أن فيها ثلاثين خلعة لا يعرف لها اسم إلا أنَّها من تحف الملوك، وأعطاه نقداً ثلاثة ألف قرش، ومن الخيل عدد كبير من جملتها حصان من مراكيبه -عليه السلام-.
[كرمه]
ومن كرمه ما أخبرني سيدي إبراهيم بن محمد المؤيدي بصنعاء، قال: وصلت إليه، وقلت له: قد وفد معي من الضعفاء والأشراف من رأيت، وأنا أستحي من إتعابكم في السؤال لهم مع عزمي لا أذكر شيئاً مما يحصل، فقال له الإمام -حفظه الله-: يا صنو إبراهيم هذا مال ليس لي ولا لك إنما هو للمسلمين، فإذا عرفت إستحقاق أحد فيدك مثل يدي قد فوضتك، قال: فأعطيته الرقاع فكان جملة ما علم فيه ثمانية آلاف حرف. انتهى.
وأمَّا الوفود من جميع الجهات عموماً وملوك المشرق خصوصاً فما لا يحيط به الوصف، ولا يتمكن جامعه من الرصف [7/أ] أخبرني الوالد السيد الحسين-أسعده الله- أنه سمع من السلطان بدر بن عبدالله صاحب حضرموت الآتي ذكره وقد حدث بعض الفتن أنه حسب ما صار إليه في ليلة العيد من الإمام -عليه السلام-[من له] ولمن يتعلق به فكانت قيمته كخراج حضرموت في عام واحد، ومن ذلك أنه قل ما يعود بشيء من ثيابه في كل يوم وإنما يهبها إما ابتداءً، وإمَّا لذوي السؤال الملح والوجه الكلح وإني سألته عن صحة صلاة من يفعل ذلك فإنه ربما يأخذ كسوته من لا يعتاد لبس مثلها ولا حالة له. وقلت: إنما ذلك من شدة الحياء وما أخذ بمثله فذلك المحرم، فقال: مقسماً بالله لا يجد في نفسه من ذلك شيئاً أو كما قال. وكم عسى أن أذكر مما شاهده العيان من الإنس والجان ولكن أزيد على ذلك اليسير أمرين:
أحدهما: تحمله من المشاق وإخراجه من الأموال مما لا يحصى ولا يقال له جامع فيطاق،[منها] ما أخرجه من الأموال والخيل والجمال، وما يلحق بذلك مما لا يحصيه إلا الله ذو الجلال في فتح حضرموت وما والاها، وإنه لما ملكها بعد ذلك وهبها للسلطان بدر بن عمر الذي لجأ إليه. وكان من أسباب ما كان وقع عليه مما هو مذكور كما سيأتي إن شاء الله تعالى فإنما مثل هذه الواقعة إلا ما يروى عن يوسف الصديق-صلوات الله عليه- في إرجاع ملك مصر لملكها بعد حين، ورده على أهلها أثمان ما أكلوه في السبع السنين.