ولما رآهم[289/أ] الأفرنج أظهروا الضعف وفروا بين أيديهم إلى أن اتصلوا بالجبل المعارض المُسمَّى باب المندب وكمنوا في جانب منه، ونفذت عليهم غارة المسلمين ولا يظنونهم إلا بين أيديهم. ثم التفتوا وإذا الكفار من ورائهم وقد سلكوا قريباً من البر ليحولوا ما بين المسلمين والبر، قال بعض من حضر هذه الوقعة من المسلمين أنهم رموا على المسلمين نحواً من خمسين مدفعاً وسلم الله المسلمين شرها. ثم أن المسلمين رموا بمدفعهم فأخذ برشتهم جانباً فسارعوا- لعنهم الله- إلى سد ذلك المنفتح. ثم أعاد المسلمون الرمي بذلك المدفع، فقال بعضهم أن مدفع المشركين [قد أوقع حجرة ] في فم هذا المدفع فانفض وتكسر أسداساً، فهلك صاحب المدفع وغيره من المسلمين إلى نحو ثلاثين نفراً، وقال بعضهم أن حجر مدفع المسلمين لم يتصل بالبارود، في أسفل المدفع لكبر الحجر فانفض لذلك، والله أعلم، فهرب البحارون لضعف قلوبهم وبقى العسكر، وقليل من غيرهم، فاحتمل رجل من الأهنوم زبرطان صغيراً، ورمى به المشركين، فكسر شيئاً من الدقل، فولى المشركون حتى ظن من رآهم أنهم هربوا.
ولما بعد المشركون أصلحوا ما تغير عليهم، وأعادوا شحنة مدافعهم وحملوا على المسلمين بجميع مدافعهم، وفر من المسلمين من وجد سبيلاً إلى الهرب وصاروا في جانب البر، بعد أن هلك من هلك في البحر. ولما استولى النصارى على مركب المسلمين أخذوا منه ما قدروا عليه وأحرقوا ما بقى، فأما المركب الكبير وبرشة ومركبان لأهل الهند فأحرقوها وأربعة سنابق أحرقوها كذلك وعادوا إلى البحر. ولما بلغ خبرهم السيد زيد أغار من طريق البر فأدرك من بقى من المسلمين، وقد كادوا يهلكون جوعاً وعطشاً، فاستنقذهم وحملهم إلى المخا، ثم جمع من بقى معه من العسكر، وتقدم إلى جانب باب المندب، وأقام هنالك أكثر من عشرين يوماً مراكزاً لهم، وولوا إلى مالا يعرف أحد شأنهم ولا مكانهم، قال بعض أهل البيع والشراء إلى بندر المخاء أنه وجد وزير السلطانة المسمى حكيم في المخا، كان قد وصل من الهند بمركب السلطانة، وأنه وصل إلى باب المندب، وخاف من هؤلاء الكفار، فمال بالمركب إلى جانب البر، فانكسر فأدركه الكفار، وأخذوا منه ما قدروا عليه، من ذلك خمسة وستين ألف أحمر، ومن الشاش مائة وخمسون ربطة مفارش، وسبعون ألف قرش وخمسة عشر بهارا من [289/ب] العود الماوردي وسريران، أحدهما ذهب والآخر فضة. وحمل ما بقى من هذا المركب إلى المخا قدر خمسمائة حمل، قال المذكور: إن المراكب التي أحرقها الكفار وأهل المخا ينظرون مما تقدم ذكره مركبان والثالث كان للملكة حملوا ما فيه جميعه.
ولما أغار السيد إلى باب المندب بعد الواقعة، وقد شحن سفينة بآلات وزاد وملبوسات، فأغاروا عليها وأخذوها أيضاً، وقد كتب إلى مولانا الإمام وإلى مولانا محمد بن الحسن، وإلى مولانا أحمد بن الحسن، أيدهم الله، بطلب المدد وقد شاع أمر هذه الواقعة، وكثرت الأراجيف وكان الإمام حينئذ في عمران البون، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولما بلغ مولانا محمد بن الحسن – أيده الله- أول خبرهم سارع الغارة بنفسه إلى محروس تعز لحفظ الطرقات إلى المخا وإلى عدن، ولتسكن الهزاهز والفتن، فكان في ذلك نفع ظاهر واطمأنت قلوب أهل تلك الأطراف.
وأما مولانا أحمد بن الحسن – أيده الله- فوصله الخبر وهو في الغراس من أعمال ذي مرمر -لجمع ما يحتاجه لسفر الحج، وكان قد تجهز له في بعض أولاده ووجوه أصحابه وقد عد لهم العطاء والزاد والجمال للأثقال والمال الكبير فسارع الغارة إلى المخا وقال فيما قال: أردنا نحج نافلة والآن الجهاد فريضة.
فكتب إلى الإمام، وخرج من صنعاء المحروسة بعد العصر من ليلة الثلاثاء لعله ثاني أو ثالث شهر القعدة وأمسى في ريمة بن حميد، ومنها إلى زراجة، (وأخبرني الولد محمد أسعده الله عن الشيخ يحيى بن علي الخياري وهو من كبار الجند الإمامي وإليه ولاية بلاد زراجة، أنه لقى مولانا الصفي- أيده الله- وقد رأى من مولانا الصفي
–أيده الله- الكدح والتعب فقال له: يا مولانا حفظك الله هون عليك فقال: يا شيخ ليت أن صوبي يبلغ باب المندب لعله ينفع أحداً من المسلمين أو كما قال) . ثم إلى محروس ذمار، ثم إلى يريم ثم ما بعدها إلى الجند والعسكر تتلاحق به، وترك على العسكر خليفة وتقدم إلى محروس تعز للاتفاق بصنوه ملك الإسلام – حفظه الله- وفاوضه فيما ينبغي، وعرف أن المخا لا يطمع فيه العدو بأكثر مما كان، وأن عدن وطرقه إذا لم نسارع إلى ضبطها خشي عليها مما وقع في المخا. وتقدم من الجند إلى مدينة الدمنة ومحل السلمي، ثم كذلك ما بعده إلى أن حط في موضع من لحج يسمى الوهط، وعد للعسكر أرزاقهم واستجلب منافعهم وأرزاقهم، ثم استخلف عليهم ولده السيد النجيب عز الدين محمد بن أحمد بن الحسن – أيده الله- وتقدم إلى البندر المحروس عدن. وقد وصل إليه تجار الهند، فآنسهم وتنزل لهم منازل الإكرام وتابع إليهم الألطاف والتحف والإنعام وأقام هنالك نحو شهرين، وكان فيه العيد الأكبر، وكان من المراكب التي وصلت إليه مركبان، أحدهما يسمى سواكن جي، والثاني المركب[290/أ] المصاحبي وهما أكثر ما خرج إلى عدن، قال محمد كاشف من أصحاب مولانا أحمد – أيده الله- مكاتبة وقد ذكر المركبين بإسميهما أن كل مركب شحن بأربعمائة بندلة وألف وخمسمائة نفر.
قال: وكل بندلة لم يسعها باب الفرضة وإنما أخرجوها من باب الساحل، قال ودخل مولانا الصفي – أيده الله- إلى هذه المراكب، فاصطنع له أهل الهند ضيافة لم ير الرآون مثلها، قال فأكلنا وأكل سيدي – أيده الله- واستطبنا ذلك غاية (وفخمنا ذلك ما كان حكاية) فقال مولانا الصفي – أيده الله – مفاتحاً لكبرائهم من الصانع لهذه الأطعمة فقالوا البانيان، وهم البراهمة – أقماهم الله تعالى- قال فقام كل منا يتقيأ ما أكل.
ولما حصلت ليلة العيد جعل مولانا سمرة عظيمة حضرها كبار أصحابه وعظماء أهل الهند، وعموم من الطايفتين، وجعل فيها من الأطباق المختلفة الألوان من الأنواع التي لا تكاد تجتمع في ذلك المكان، والآوان، من كل فاكهة تجتمع بصنعاء اليمن وسواحل عدن.
ولما كان وقت العيد خرج – أيده الله- بالجمع الكثيف، وعيون أعيان المقام الشريف بالأبهة الإمامية، والشارات الإسلامية من نجايب الخيل المحلية وغير ذلك مما تعوده أهل الممالك اليمنية، فكانت لذلك عند أهل الهند شأن عظيم وذكر فخيم ثم عقب ذلك بالسماط الحافل الجامع لأنواع الفواكه والمآكل، وأمر بتقديم أهل الهند مع عظماء الناس، ثم – أيده الله – تفقد البندر السعيد، فوجد الفتن قد أخربته واختلاف الأيدي أهملته فأخذ - أيده الله- في عمارته، وجمع العمارين من بلاد يافع واليمن وصنعاء، فأول ما عمره من الدواير الداير المتصل بالساحل مما يلي البحر نحواً من نصف ميل، وعَمَّر دار السعادة الذي هو دار الإمارة، قليلة النظير في مثلها وعمر ستة دور غيرها. ثم نقض الجامع الكبير وأصلحه، وكذلك بعض المدارس أصلحها وعمرها، قال المذكور: وغيره، ومن نظر إلى أهل الهند وأموالهم وأحكامهم التطريزات والصباغات وتنويع كل شيء منها إلى مالا يكاد أن يكفيه العقول، وتقبله النقول، عجب من ذلك وقطع أن ليس لهم فيه مشارك، ومن نظر غفلتهم عن المنافع الدينية والآيات الإلهية، وما يجب من الشكر لموليها، وما يحق له من الصفات الدالة على خالقها ومعطيها، قطع عليهم بالغفلة والجنون وقال واصفاً لهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وقد ذكر ذلك مولانا الإمام المهدي في بعض كتبه أحسبه في الدامغ والله أعلم.
ولما استقرت الأمور، وصلح أمر الجمهور وكان قد[290/ب] شاع هذا الأمر في البعد والقرب، وذعر لأجله جوانب العرب، وقد حصل في العسكر بعض ألم لضعف تلك الأوهاط ووجمها لا سيما على ساكني صنعاء ونواحيها أرسل أهل الهند، وأعطى كبرائهم هدايا لكل ناخوذة حصاناً وكتب معهم إلى السلطان صاحب الهند، وأرسل معهم أحد أصحابه، وخمسة رؤوس من الخيل النجايب العربية وآلاتها العدد المحلية، ومثلها للوزراء. ثم أرسل أيضاً إلى صاحب برعجم وإلى ظفار وإلى الأمهري، وإلى صاحب حضرموت (في شأن أولئك الكفار وأن سبيلهم البحث عنهم والتعاون عليهم، وأخبارنا الله الله عنهم) وقرر لأهل تلك المماليك قواعد رضوها، ومطالب سموها، وأظهر عنا الإسلام، فلم يلتفت إلى جمع حطام
-أمتع الله بحياته ونشر في أرضه راياته-.
نعم! ولما تم ذلك توجه راجعاً، ولربه طايعاً فصار إلى مكان يسمى الشيخ عثمان وأقام فيه ثلاثاً، ثم ارتحل إلى الزيادي، وأقام فيه يومين، ثم إلى الجبيل، ثم إلى شعب الأجعود من بلاد حالمين، ثم إلى الطفوا، ثم إلى العريش من بلاد السلمي ثم إلى قعطبة، ثم مريس ثم إلى الساحلة ثم إلى جمجمة دمت وأقام فيها يومين، ثم إلى أسفل خبان ببيت البعداني، ثم إلى الشلالة ثم إلى محروس ذمار، ثم وجه الأمراض والأثقال إلى صنعاء، وقد احتاج جمالاً كثيرة لكثرة المرض، وقد حكوا من عطفه عليهم وتحننه إليهم ما يطول إيراده. ثم تجهز إلى الإمام في خواص من أصحابه فوصل خامس عشر شهر صفر.
قال القاضي شمس الإسلام، أحمد بن صالح بن أبي الرجال – أيده الله – فيما كتبه إلي أنه حصل مع الإمام من السرور، وظهور النعمة والحبور، مالا يدركه واصف، ولا يحيط به عارف، بوصول مولانا الصفي – أيده الله – وحسن ما فعل في هذا المخرج المنصور، وما أصلح الله به الأرض، فأقام ثلاثاً في كلها يطرف الإمام، في كل وقت بعجيبة ويحدثه بغريبة، ثم عاد إلى صنعاء المحروسة فأعطى أصحابه أرزاقهم، وأطلق الفسح لمن شاء منهم.
وأما مولانا محمد بن الحسن – أيده الله – والسبب الداعي لوصوله إلى اليمن الأسفل وذلك أنها معظم ولايته مع تهامة، ومداينها وبنادرها، وقد طالت إقامته في صنعاء وبعد عهده بها فخرج من صنعاء المحروسة في شهر جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وألف [ديسمبر 1661م] وأقام في ذمار ليالي، وتقدم إلى محروس مدينة إب ووصله العمال من جميع اليمن، وكبراء أهله مما ينبغي من الضيافات والخيل وما بعدها، وأخذ في تفقد البلاد والمظالم – وله في ذلك أخبار يجب أن تكون فيها الأسوة، وأن تكون لمن بعده قدوة فإنه – أيده الله- يتولى أكثر أعمال أهل بلاده، وأجناده بحواسه ويده، وله في تدقيق ذلك مالا يدركه[291/أ] الفهم ولا يحكيه الوهم، قال من وقف على أمره في اليمن أنه كان يراه في كل يوم يأمر بتوقيع أهل الخلعات من سائل ومستعد، ويستدنيهم إليه، ويقضي حوائجهم ويناظر بينهم، وقد يقضي ويفتي في هذا المجلس العام، ولا ينصرف إلا لضيق وقت الصلاة ويأمر بعشائهم، ويقضي كثيراً مع ذلك من حوائجهم، فإذا صلى المغرب بأصحابه التفت إلى قراءة القرآن من ورد، ومن القراءات السبع مع
أوراده المعتادة في جميع أصناف العلوم، فإذا فرغ من ذلك بعد صلاة العشاء، عاد إلى شيء من نظم الأعمال.
أخبرني بعض الفقهاء العدول أن سائلاً سأله عن واقعة بينه وبين خصمائه أن يقطعها بينهم، وكان قد مضى من وقت القضية أكثر من أربعة أشهر، وأراد السائل أن يعمي في بعض أطرافها، فقال – أيده الله- الأمر على خلاف ما تقول وصمم ذلك الرجل على دعواه، قال: فاستخرج من جيبه رقعة من يوم التخاصم على ما حكى بين المتشاجرين.
وأخبرني بعض الأولاد – أسعدهم الله – عن ولده السيد الفاضل العالم التقي إسماعيل بن محمد – أيده الله – أنه سأل والده – حفظه الله – مع بعض الخواص أيضاً أن يريح نفسه يوماً في بعض بساتينه في صنعاء ويسرهم باجتماعهم به على حالة موافقة، ويتنعم معهم بما تفضل الله به، قال: فلا زال يعدنا من يوم إلى آخر حتى أخفيناه السؤال، فأمر أن يفرش في بعض البساتين وخرج وخرجنا إلى ذلك البستان، ثم وقف قليلاً، وقال: أهل الحاجات وراء الباب اذهب يا فلان لبعض صغار العبيد أتيني بالأوراق التي في الخرق الفلانية، فلما أحضرها أقبل إليها كعادته يقضي لكل حاجة، وقام من ذلك المجلس، وقد استقصى ما وجد من حوائج ثم قام ولم يلتفت إلى غير ذلك، وعرض هذا العارض المتقدم ذكره، وهو في اليمن، فأصلح الله به كثيراً مما كان، والحمد لله رب العالمين.
[طلوع محمد بن الحسن إلى صنعاء]
ذكر طلوع مولانا محمد بن الحسن – أيده الله – من اليمن الأسفل، فإنه لما قام فيه عاماً ونصفاً على ما قدمناه من أخباره فيه، صعد من محروس إب إلى محروسة ذمار في شوال عام ثلاث وسبعين وألف [مايو 1662م] وأقام فيها إلى العشر الوسطى من القعدة الحرام. ثم تقدم إلى الإمام عليه السلام إلى محروس الدامغ في عدة من كبراء أصحابه في صحبته أولاده الكرام – أدام الله عزهم – وتلقاه الإمام، بما يحق له من الجلالة والإعظام، وبسط في أصحابه [291/ب]الإنعام العام، وقد وصل بالهدايا الفاخرة، والمؤنة النافعة الظاهرة، وحضر عيد الأضحى، وكان وقتاً مشهوداً وجمعاً مسعوداً، عم فيه طبقات المسلمين الإحسان من الإمام، ومن ولده عز الإسلام – أيد الله بهما قواعد الإسلام- ولما تقضت أيام العيد تقدم مولانا محمد – أيده الله – إلى صنعاء المحروسة آخر أيام التشريق، بعد أن وعده الإمام بالصعود إلى صنعاء لأخذ العهد بالمدينة المحروسة، ومن فيها من الخاصة والعامة، لا سيما مع أيام الخريف فإن وقته للجمع الكثير أيسر حملاً، والمؤن لأجل العنب فيه سهلاً، وأقام الإمام عليه السلام بقية شهر الحجة والنصف من المحرم سنة أربع وسبعين وألف [أغسطس 1663م] في الدامغ، ثم صعد إلى صنعاء في يوم الإثنين من الشهر المذكور. وكان قد وصل في شهر الحجة الحرام إلى الإمام كثير من أشراف مكة، وعيون بني الحسن وتلقاهم الإمام بالمعهود من كرمه وإحسانه. ثم وصل في أثناء ذلك الشريف الكبير المعظم الخطير حميد بن هاشم من خواص الشاه الكبير والسلطان الشهير، عباس شاه الحسيني،