والمتأخر عنه مولانا عزالدين محمد -أطال الله بقاه- فإن دعوته مشروطة كما تقدم، فلما نظر وأجال الفكر، وقدّم وأخّر عرف الحق الأبلج، ولم يجد عند الله سبحانه وتعالى عن المبايعة المخرج، وهذا هو الذي صرح به أهل المذهب بلا عوج، إن للناظر نظرة في اجابة الإمام ولو طال لتبين له المنهج. كما روي عن أمير المؤمنين زيد بن علي -صلوات الله عليه- أنه قال: (البصيرة البصيرة ثم الجهاد)، فلما لزمته الحجة واستبانت المحجة قام وشمر وأوى ونفر، وشن الغارات بالفجاج الأكبر، وكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحينئذٍ قام الإجماع بدليلها وكفى به هادياً، وعلى صحتها منادياً.
وأمَّا ما سيأتي من أيام خدار وثلا وما يتعلق بهما من ذي الأذى فإن ذلك لم يكن لتناهب وتغالب وإنما ساقها حكمة إلهية، وآية سماوية، يعلم ذلك من شهدها أو صدَّق شاهدها، رحمة من الله لعباده- ونعمة منه على بلاده، وسنرى في سياقها آية ذلك إعلاناً، وليس الخبر كالعيان ، فصح بهذه الجملة ما قلناه من الإجماع بدليلها على إمامته -عليه السلام- التي يمكن التدليل عليها من الكتاب والسنة والإجماع، بما يستدل على إمامة أمير المؤمنين زيد بن علي-صلوات الله عليه- ومن بعده الأئمة كما هو مذكور في مواضعه من كتب أئمتنا -عليهم السلام-وشيعتهم-رضي الله عنهم- ونورد إلى ذلك ترجيحات، ولما تقدم مؤكدات، وهي ما يُحتج بها على السيد صارم الدين كما سنرى إن شاء الله تعالى في الرد عليه وهي كثيرة، ونذكر منها ما أمكن إن شاء الله تعالى.
[علمه وفطنته]
الأولى: ما زاده الله من سعة العلم، ولا سيما الفقه الذي المدار عليه والمرجوع إليه، فإن كل فقيه من أهل العصر قطع فيه تحقيقه وكفى دليلاً على صدقهم ما يراه المتأمل والسائل، إن الجواب في مذهبه وحكاية غيره كأنما هو في راحة يده اليمين، أو في طبق من صين وقد صرح بذلك الإمام الهادي -صلوات الله عليه- وغيره أنه من المرجحات.
الثانية: جودة الفهم والذكاء والفطنة، فلم أر أجلى الأمور المشاهدة مثله، وكذا سمعت كثيرين يذكرون ذلك، أمَّا في العلم وما يتعلق به فظاهر، وأما في فصل الخصومات[3/ب]، أو المواعظ النافعات، أو الكلام الذي يتعلق بالبيان والتعليمات، فكأنه لا يعرف شيئاً منه قبل الكلام فيه، فإذا التفت إلى باب منه فكأنما أطل على حقيقته وشاهد كُنّه دخيلته وكأنما يغرف ذلك من بحر، ولا يتكرر شيء من درر كلامه كما يجري لكثير من غيره، ولقد عرفته قبل الدخول في الإمامة، وهو لا يعرف كثيراً من أحوال الناس لما كان عليه من الخلو بالعلم، والشغف به، وكان لا يخالط غير أهله، ولا يأنس إلى سواه في نهاره وليله.
ولما حضرت معه بعض المجالس في يوم المظالم في الشهر الثالث والرابع من دعوته فكأنما شاهدت غير من عرفت، وأُقسم بالله إني تأملته فإذا هو خلاف ما عهدته من جميع أحواله، وأنه فصل خمس خصومات في خمسة مقايل في كل مقيل دعوى وبينة لقوم آخرين مع غير ذلك مما عرض في ذلك المجلس من وافد وسايل ومسلِّم وهذه الزيادة هي أعظم ترجيح، وقد ذكرها علمائنا، حتى قال بعضهم لم يشترط السلف مع الورع غيرها.
الثالثة: الرفق بالرعية والتواضع لضعفاء الأمة المحمدية، والتحنّن عليهم، وإيثارهم غالباً على كثير من أغراضه وأغراض خاصته ما شاهد الحال يغني عن السؤال، والوصف يقبح بالمحسوس بالبصر.
ورابعها: وهو ما سيأتي في الحجَّة على ترجيح إمامته على السيد إبراهيم وهي وجود الناصر، فإنه لم يحصل لأحدٍ من الأئمة -عليهم السلام- ما حصل له-عليه السلام- مع هذا الإختلاف من إقبال القلوب إليه من كل قريب وبعيد، مع أن غالب الأئمة -عليهم السلام- إذا قام الإمام كثر عليه الإختلاف وقل الائتلاف، لغنى أهل الدنيا عنه بما في أيديهم، ولتفرَّغ كثير ممن يدعي العلم للتعليل بالقوادح عليهم كما ترى في كثير من أحوال الماضين، وهي كثيرة وهو - عليه السلام- لم يلق أحد دعوته بغير القبول، وتكاثرت نذوره فكانت أكثر من نذور أبيه وأخيه مع كثرتها- سلام الله عليهم أجمعين- وفي كل عام بل شهر بل يوم زيادة والحمدلله رب العالمين.
ويكفي دليلاً لهذه الجملة أنه دعا ولم يكن عنده إلا دون المائة الرجل فتفرقوا رسْلاً.
وأمَّا رتبة الحصن المحروس بالله، فإنهم اشتغلوا به كما سيأتي إن شاء الله تعالى، مما أخبرني من شهد ذلك أنه كان يسود خطوط الدعوة على ضرب من الاختصار، وكان كل من حضر مجلسه يسود لنفسه ويأتي إلى الإمام فيعلّم عليها فما كان ثاني شهر أو ثالثه إلاَّ وقد جمع الله تعالى له اليمن من مكة إلى عدن، وقد صارت عساكره وخيله لا تكاد تنحصر، فهل المراد بكلام أهل المذهب لم يتقدمه مجاب عبارة (الأزهار) أو انهض منه[4/أ] كعبارة (الأثمار) أو أكمل كعبارة (الفتح الغفار) غير هذا مع غير ذلك من الترجيحات، مما أقصر الفهم عن إدراكه وكَلّ الوهم لضعف التصرف في جوامع ملاكه، وأعلم أن الله سبحانه وتعالى ألقى في قلوب المسلمين لمولانا أمير المؤمنين الميل الشديد والحب الأكيد، والأمل الصالح، والفضل الراجح، غير أنهم ربما يرون في أيام دعوته الميمونة أنه -عليه السلام- لا يقوى على هذا التكليف العظيم، والفرض والواجب العميم، لما عليه الناس من الاختلاف، وذلك أنه -عليه السلام- في أيام أخيه مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله لا يعرف أحوال الناس لانشغاله في الطلب والإكباب عليه سمراً وسحراً، وآصائلاً وبكراً، فلما صار الأمر إليه، ودارت حوائج الإسلام عليه زاده الله في هذا الشأن، ما ظهر لأهل الإيمان وفاق به الأقران، وإن الله سبحانه وتعالى ألقى عليه الهيبة والجلالة، والقدرة في كل حالة على القيام بهذا الفرض العظيم والتكليف الجسيم، بما لا يقال له فيه قرين، ولا ما يقرب منه في أمر الدنيا والدين، فإنه -عليه السلام- يلي أكثر الأعمال بنفسه الشريفة، ويباشرها بيده
الكريمة حتى في نفقات الوافدين من الأمراء والسلاطين، والفقراء والمساكين، على ضرب من التفضيل. مما أخبرني الثقة ممن شهد ذلك أنه -عليه السلام- ظن في مخازن بيت المال تقصيراً فقصد المَخْزَن وأمر بالصرف في الناس حتى أتى على آخرهم، ومن ذلك أن أغلب خزاين بيت المال وصرفها بيده وأن ما يوجه اسماً لمُعيَّن إلى خازن مُعيّن، ولم يكن في يديه غير ما أعطاه -عليه السلام- وعيَّنه.
ومما سمعت من حي القاضي الخبير في القضاء، الألمعي في الاستنباط والإمضاء، عبدالهادي بن أحمد الثلائي المعروف الحسوسة-رحمه الله-، وقد سمع من بعض الأصحاب الخوض في التفضيل كما يحصل في المجالس من القال والقيل، إن قال: اعلموا يا أصحاب أن الأمور إلى الله سبحانه، والخيرة بيده، فلا يستعظم الكبير، ولا يُستحقر الحقير، فإن الأمر لله العلي الكبير، أو لا ترون أن الإمام الشهيد أحمد بن الحسين -عليه السلام- اتفق أهل زمانه أنه أكثرهم علماً، وأرجحهم حلماً، غير أن في سيرته ما يخالف الصواب، فهو لأجله غير فاضل [ولما علم الله سبحانه منه خلاف ما قالوا نشر فضله في الآفاق] ومع ذلك يزداد إلى يوم التلاق حتى أنهم الآن لا يلحقون به أحداً ممن سبقه من الأئمة -عليهم السلام- ولا ممن لحقه، وكذا حي الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى -عليه السلام-، اتفق أهل زمانه على فضله وأنه السابق في محامده ونبله، غير أنه قاصر في فقهه، وإن كان عربياً مفسراً ومحدثاً، ونحو ذلك فنشر الله فقهه في الأرض، ورجع إليه أهل عصره ومن بعدهم[4/ب]في السنة والفرض، أو كما قال -رحمه الله-. وهذا الآتي من ذاك، فإن
علماء عصر مولانا -عليه السلام-شهدوا له بكل فضيلة، وأنه المعصوم من كل رذيلة، إلا النهوض في العزيمة في المضاء والزجر، فأظهر الله سبحانه وتعالى ما أغمضوه ، ونشر في الآفاق ما أنكروه، حتى فتح الله تعالى عليه الأرض ذات الطول والعرض، بما لم ينله أحد من الأئمة -عليهم السلام- فكم مخافة به أمنت، وكم مفازة خالية سُكنت، وكم ضُلامة به رجعت، وكم شريعة به رُفِعت، وكم بدع به قُطعت، والحمدلله على ما أعطى، والشكر والمنّ على ما أولى، وذات يده وهو في كلها واضح الجبين، قليل على الصبر عليه القرين، ومن ذلك قيامه -عليه السلام- في عصابة يسيرة وقد حشدت عليه العساكر من صنعاء وشهارة وغيرهما، وأيضاً مع تفرق أصحابه وقلتهم فخرج من الحصن المحروس في أنفار للقاء تلك العساكر المتكاثرة، وغير ذلك مما يشهد له بالثبات.
[نسب الإمام المتوكل على الله إسماعيل]
فصل: في ذكر نسبه الشريف، ومولده، ونشأته، وحليته، وخصايصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وسجاياه، وصبره، ونفقته على الأمة، ودعوته، وكرامته، ونبذ من رسائله في الإرشاد والدعا إلى الرشاد، التي أشار الله سبحانه إليها وحث عليها بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } ويسير مما امتدحه أهل الإجادة من العلماء والشعراء وعيون من عاصره من العلماء، ومن ولي منهم القضاء وتعداد عُمّاله -عليه السلام- من العلماء الكملاء وعيون الكبراء.
أمَّا نسبه الشريف فهو أظهر من الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها، ونذكره تبركاً لا إظهاراً، ونرقمه لنبدأن إخباراً! فهو أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم: إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب بالأشل بن الإمام الداعي يوسف الأكبر بن الإمام يحيى المنصور بالله بن الإمام أحمد بن الناصر لدين الله بن الإمام يحيى الهادي إلى الحق بن الحسين الحافظ بن الإمام القاسم ترجمان الدين نجم آل الرسول إبراهيم الغمر طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم المشبه برسول الله بن الإمام الحسن الرضى المثنى بن الإمام الحسن السبط أمير المؤمنين بن علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأمه -عليها السلام- الشريفة الفاضلة الطاهرة، أم المساكين تقية، بنت شمس الدين بن الحسن الجحافي من أشراف حبور، وذرية الإمام القاسم بن علي العياني -عليه السلام-.
[مولده]
وامَّا مولده الشريف فإنه ولد في منتصف شعبان من عام تسع عشرة وألف في محروس شهارة -حرسها الله بالتقوى-.
وروي أن والده الإمام -عليه السلام- لما وصلته البشرى بمولده الشريف سُر كثيراً، وتناول المصحف الشريف وفتحه متبركاً به وليسأل الله سبحانه التوفيق إلى اسمه، فكان أول ما فتحه من المصحف الكريم[5/أ] قول الله عز وجل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} فسماه بذلك واستبشر به كثيراً، ثم ولد بعده شقيقه الفاضل إسحاق بن أمير المؤمنين -عادت بركاتهما-، وهو المقبور في صرح مشهد أبيه، مات صغيراً وله من العمر[...] ، وكان الإمام -عليه السلام- كثيراً ما يحمله [في صغره يعني مولانا -عليه السلام- ولقد رأيت حي والده-صلوات الله عليه- يأمر بحمله] بين يديه وهو يجهز السرايا والبعوث مع غيره من أبنائه، غير أنه كان أخصهم وأصغرهم سناً، فكان يضعه في حجره إذا دعا مع إرساله السرايا والغارات ويأمرهم بالتأمين على دعائه، ولذلك تراه يحفظ كثيراً من أفعال والده -عليه السلام- وأقواله وهو في تلك السن، وإنما ذلك لفرط ذكائه.
[نشأته]
وأمَّا نشاته الطاهرة، فإنه معروف بالطهارة ومخايل الفضل عليه ظاهرة.
مما أخبرني به -صلوات الله عليه- أنه كان مع والده -عليهما السلام- طعاماً فوجد في المرق عظماً (من بقرٍ فيه) شبه المغرفة فشرب بها مرقاً كما يفعله الصبيان وهو في ما دون أربع سنين فانتهره الإمام -عليه السلام- وأخذ العظم ورمى به كراهة للتشبه بأهله.
قال -عليه السلام-: فبكيت، وقلت: فلم أما فلان، وذكر بعضهم وقد رأيته يشرب كذلك؟ قال: ففعل الإمام -عليه السلام- بمن ذكرته ما منعه من ذلك فأنا إلى الآن والحمد لله والله ما أعلم أني أهويت بها إلى فمي أو كما قال.