مما أخبرني من اطلع على مسيره أنه استصحب في جيبه قبضات من الكعك واستوى على فرسه قبل صلاة الفجر إلى المنشية، وإنه وجد بعض الوافدين عليه في طريق المنشية، فسأله ذلك الوافد هل الإمام في الحصن أم في الحصين؟ فأجابه الإمام: إنك تسير معنا، وأخبرنا بمرادك من الإمام، فما كاد يسير معه إلا بمدارة له، ثم سار معه وهو يحدثه بحاجته من الإمام، فلما صلى الفجر وقد أسفر التفت إلى ذلك الرجل بوجهه الأنور، فكان معه وقضى له حاجاته كلها، ولم يزل حتى وصل قرية خدار، وهناك رجل يفعل القهوة، لأهل السبيل للبيع، وكان قد لحق بالإمام عليه السلام بعض فرسانه ومن خواص خدمه، وقد بادر ذلك المقهوي بجفنة مملؤة عصيدة وسمناً فنزل الإمام وأكل هو ومن حضر معه، قال الراوي، ورأى الإمام عليه السلام سلاطين حضرموت تدق بهم خيلهم ركضاً، وهم السلطان بدر بن عبد الله وأولاده في أفراس من خيلهم فقام على ظهر فرسه وتناول حربته، ووقف لهم حتى سلموا عليه فنزلوا وأكلوا وأطلق الأعنة، وهم حينئذ معه حتى صلى المغرب والعشاء خارج صنعاء، وكل هذه المبادرة بحثيث السير للرفق بالرعية، فإنه لو بات في الطريق للحقهم بعض معرة، فأثرهم على نفسه كما تقدم في مسيره من ثلأ إلى صنعاء ومن صنعاء إلى ضوران. ولما دنا من صنعاء، كما أخبرني بعض الأصحاب مكاتبة أنه قصر عنه[264/أ] أكثر أصحابه للحوق به لفتور خيلهم، وأنه كان أول من دخل باب القصر، وكان بعده من الفرسان السيد الجليل يحيى بن إبراهيم الحمزي من أهل كوكبان، ثم السلطان وولده وبعض إخوته، وتلقاهم مولانا علي بن أمير المؤمنين، أيده الله- في بعض

درج القصر ونزل هنالك. وقد أمر مولانا علي أيده الله أن يغلق باب القصر وأن لا يدخل إلى الإمام عليه السلام، إلا من وصل من أصحابه، والمدينة حينئذ تموج بأهلها فرحاً لما شاع الخبر بوصوله عليه السلام، قال بعض من حضر العشاء أن مولانا علي، أيده الله حصل لهم عشاء كما يقال للضيف المفاجئ في الليل الداجي، وبات الإمام في منزله ذلك، وأنزل من معه منازل كذلك.
ولما أصبح الصباح خرج إلى الإيوان الكبير وقد وصله الناس كل على قواه، وباب القصر لا يدخله إلا الخاصة مع بعض العموم لكثرتهم، فكان ميدان القصر كالرجل الواحد، ثم أمر عليه السلام بأن يفتح الإيوان وأن يدخل العام مع الخاص، واستمر السلام عليه شطراً من النهار حتى لقد حصل معه من كثرة السلام ألم وهو مع ذلك يجيب السائل ويعرف النازل ويأمر بكبار الناس إلى مواضع معدة لهم حتى فرغ وامتدت الضيافات في القصر المأهول. ثم بيوت آل الإمام بيتاً بيتاً، ثم الأصحاب في صنعاء، ثم خرج إلى الجراف والروضة وفي كلها ينتقل من دار إلى أخرى، ثم خرج إلى الغراس وبات فيه، ولم يترك رحماً إلا زاره ولا مقطوعاً إلا وصله، ولا معروفاً يقدر عليه إلا فعله، ولقد بلغه أن امرأة من أرحام سيدنا القاضي العلامة عامر بن محمد الذماري رحمة الله عليه عند القاضي الفاضل علي بن جابر الهبل.

قال الراوي: فسار إلى بيته ليلاً فتلقاه القاضي المذكور، ودخل معه منزله ووصل تلك المرأة بصلة وقال هذا مكافأة لشيخي سيدنا عامر رحمه الله تعالى، ومن ذلك أنه دخل بيت ابن سنان لما كان حي صنوه مولانا الحسين رحمة الله عليه قد تزوج إحداهن فدخل إلى درج بيتهم، ووصلهم بصلة وأعطاهم، وعاد ومع هذا يتفقد المساكين، ويبر بهم ويطلع على كثير من أمورهم، ويكتب أسماء من ضعف منهم ويخصهم بحصة من الضيافات جميعاً.
نعم! وتقدم السادة الكرام بمن في صحبتهم من الجيش اللهام إلاَّ مولانا العزي، أيده الله، فإنه بقى في ذمار لخلو المشرق عن العسكر وقرب الثمرة في اليمن والمشرق. وكان قد تقدم من العسكر أفراد إلى صنعاء لضيق الطريق، فأمروا أيدهم الله، من تقدم إلى باب صنعاء بالرجوع وأن من دخل المدينة[264/ب] عاد وإلا فلا شيء له من العطاء فرجعوا جميعاً، وقد قسموا المحاط في الطريق لأجل التخفيف، (وأن يكون الاجتماع إلى ريمة سنحان ) وما قرب منها من القرى، فاجتمعوا هنالك بما لا يحصره القلم (وقد أخرج مولانا) أحمد بن الحسن، أيده الله، آلات السلطان صاحب حضرموت الفاخرة التي لا يعرفها أهل صنعاء، وأمر أن تكون بحيث يراها الناس منفردة، وسلاطين المشرق معه، ومن وصل معه من حضرموت كذلك والأسرى ممن قطع الطريق، وأخذه الحق بسيفه على التحقيق في الحبال والحديد، وأن الزبارط كانت الإبل تجرها، وكانوا إذا احتاجوا أن يرموا بها للتعشيرة والإبل تجرها، كان لها لولب تجري عليه للإنحراف إلى حيث لا تضر الجمال بدخانها ولا نارها، فكانوا كذلك. وقد أمر الإمام عليه السلام، من كان عنده

من أولاده كعلي بن أمير المؤمنين، ومولانا يحيى بن الحسين بن أمير المؤمنين، ومولانا إسماعيل بن محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، ومولانا القاسم بن أحمد بن أمير المؤمنين وغيرهم من العيون، ومن كان في صنعاء من الجنود يتلقوهم، فتلقوهم إلى نواحي سيان وأمسوا في ريمة.
فأما مولانا أحمد بن الحسن، ومولانا محمد بن أمير المؤمنين، أيدهما الله تعالى، فتقدما إلى الإمام عليه السلام في الليل في نحو خمسة عشر فارساً، قال بعضهم أنه حصل مع الإمام عبرة، وأنه بكى فرحاً وأخذ يقبلهما مرة بعد أخرى.
فأما مولانا الصفي، أيده الله تعالى، فقام للنوم إلى بيته في المدينة فبات فيه وأما مولانا محمد بن أمير المؤمنين، أيده الله، فحدثه والده حتى نام في موضعه فتركه عليه السلام، وزاد عليه من ثيابه وقد رق له كثيراً، وكان سنه يومئذ دون عشرين سنة، وقد قبضه التعب والسهر.

ولما أسفر الصبح طلع مولانا الصفي أيده الله واجتمع عند مولانا الإمام العيون من العلماء وأهل الفضل، وقدم أول العسكر المنصور، وكان أولهم في صنعاء وآخرهم في ريمة بن حميد، وقد أعد لهم الغداء فمن سلم أكل وترك الأكثرون الأكل لما هنالك من الزحام، وقد اجتمع سلاطين المشرق مع سلاطين حضرموت للنظر في رايات الحق وأمرائهم. ولما فرغوا من السلام كانت الضيافات بحالها والعدد لكل أحد ما هو له بحاله، وقد تكلف الإمام عليه السلام وكتب إلى كل من يقدر على المدد والقرض والاستقراض، وكان يحضر العدد بنفسه الكريمة من الصبح[265/أ] إلى العشاء قال بعض كبار الجند: ما رأيت ولا سمعت من ذلك العدد وأنه (عليه السلام) جعل بين يديه ذهباً أحمر، وقروشاً كاملة وأنصافاً بحيث أنه لا يراها إلا من قرب منه فإذا رأى من كبار الجند، وأهل العناء والتعب والحاجة رمى له بشيء من القروش والذهب الأحمر ابتداءً من غير حقه المعلوم، وكل من أخذ رزقه فلا يحتاج فسحاً إلى بيته إنما هو أمير نفسه فتخففت المدينة واطمأنت وكانت الأسعار فيها قبل وصول الإمام مرتفعة بلغ القدح البر حرفين ونصف ونحواً من عشرين درهماً، والذرة نحواً من سبعين كبيراً تأتي أربعة عشر درهماً فعادت الأسعار إلى نقص الربع، وأقل وأكثر والحمد لله رب العالمين.
ومما قيل في هذه الغزوة من الأشعار…………….. [265/ب]……… .

[تنظيم أمور صنعاء]
[266/أ] ذكر مقام الإمام في صنعاء، فإنه أقام بقية شهر الحجة ومحرم وصفر وربيع الأول وربيع الثاني، وجمادى الأولى، وفي مقامه تفقد قانون المدينة، وغير أموراً أنكرها ودقق في معرفة المنكرات حتى لا يكاد يخفي عليه شيء، فأقام الحدود والتعزيرات وهدم منازل، واستقصى في الواجبات، وأن بعض أهل صنعاء فقد أبنة سداسية أو سباعية، فوصل إلى الإمام، وشكى له فأمر بتقسيم المدينة وجعل على كل قسم ثقة من أهلها، وأمرهم بإذكاء العيون، والتجسس – بالجاء المهملة- فوجدت تلك البنيَّة في بعض بساتين الجوامع، وهي بحالها ميتة عليها كسوتها فعرف الإمام أن ذلك من فعل العجم، وأنهم يريدون إخفائها ثم بيعها على أنها مملوكة. ولما عرفوا أنه ستظهر وتخبر بصفاتهم أن لم تعرف أسمائهم، فأهلكوها بذلك والله أعلم، وقد تحنن مولانا الإمام عليه السلام على الضعفاء من أهل صنعاء وخصهم بالصلات والصدقات، وكان قد عاودهم مع هذه الشديدة بطعامات واسعة حملها إليهم من الجهات المساعدة، ووكل تقسيمها إلى العيون من فضلاء المدينة، وزادهم مع القرب كساء ودارهم مع القوت أيضاً والشدة بحالها، وارتفاع الأسعار وهو ينشد الحال:
تزيدنا شدة الأيام طيب ثناء ... كأننا المسك بين الفهر والحجر

[وصول وفد من الهند إلى الإمام]
ذكر وصول السيد المعظم الصالح المكرم، محمد بن إبراهيم بن أمير نعمان من الهند من عند ملكها السلطان محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان، كان هذا السيد تعلق بولد السلطان المسمى محمد المذكور، وكان هذا السلطان أنجب إخوته وأقربهم إلى العدل، ولما مات والده السلطان[266/ب] شاه جهان نازعه أخوته، وأخذوا أكثر المملكة، وخرج هذا السيد محمد لعله في عام ستة وستين وألف [1655م] إلى مكة المشرفة، وعاد إلى الإمام عليه السلام في سنة ثمان وستين وألف [1657م] وأقام عنده أياماً، وعرف الإمام أنه من أهل العلم ومن أهل المكانة فقربه إليه وأكثر الإحسان عليه ونزله أعلى منزل.

[رسالة من الإمام المتوكل على الله إسماعيل إلى سلطان الهند]
أخبرني السيد عبد العزيز بن محمد الهادي المدني، أنه سار مع هذا الشريف من المدينة المشرفة إلى مكة المحروسة، قال: فلم أر مثل هذا السيد في حسن السمت وجماع الصلاح وملازمة الأوراد الصالحة، وحدث عنه بكثير مما يدل على علو الهمة ومكارم الأخلاق، ثم أنه استأذن الإمام عليه السلام في العود إلى ديار الهند وقد أعطاه الإمام هدايا وإحساناً كثيراً، وكتب معه بما هذا نسخته.

بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} وبعد، فإن كتابنا هذا المتبدأ باسم الله وحمده، المثنى بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله شهادة عبده وابن عبده، المثلث بالصلاة والسلام على محمد وآل محمد كما نزل بذلك الوحي من عنده، إلى السلطان الذي شهدت له ألسنة الخلق التي هي أقلام الحق، بما يشهد إن شاء الله بصدق الطوية، وخلوص القصد في القول والعمل والاعتقاد والنية، اللابس من التقوى أبهى الملابس، الراغب فيما يقرب إلى الله عز وجل وفي ذلك فليتنافس المتنفافس، محمد أورنك زيب بن السلطان شاه جهان، أنمى الله له المحامد، وأعذب له في طاعته وما يقرب إليه الموارد، وأهدى إليه من تحياته أشرفها ومن بركاته أزلفها، ومن سلامه أعلاه سناءً، وأبهاه ضياءً، حين بلغنا عنه كرام الصفات، كما أخرج الترمذي وقال حسن غريب، والبيهقي في الشعب والحاكم، وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه من قوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) كما رواه بن عباس رضي الله عنهما: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) [267/أ]ولا سيما حين اتصل بنا السيد النجيب الكريم الحسيب، واسطة عقد السيادة، ودرة تاج الشرف والمجادة، محمد إبراهيم بن أمير نعمان

الحسيني، أسعده الله ورعاه، وأحسن إليه وتولاه، فإنه نشر عليكم من الثناء الحسن مطارف، وأثر عنكم من كل خصلة شريفة عوارف معارف فكتبنا إلى السلطان الكريم كتابنا هذا الحمد لله له على ما أولاه، ونستزيده له مما أعطاه، ونعلمه بما عقد له ذلك عندنا مما يجب للمسلم على المسلم وللمؤمن على المؤمن من المواخاة والولاية التي عقدها الله بين عباده المؤمنين من أهل السماء والأرض فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} كلمة جعلها الله عز وجل جامعة، ووسيلة هدى إليها بفضله ورحمته نافعة، يتواصلون بها ويتحابون عليها، ويجتمعون إليها إما بأبدانهم، وعبادتهم مع الإمكان، أو برسلهم ومكاتبتهم أن بعد المكان، إذ جعل عز وجل القلم أحد اللسانين وتميز بأنه أحد البيانين، فقال عز وجل: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يصدق إن شاء الله بيننا وبينه عباده

103 / 116
ع
En
A+
A-