وكان الإمام عليه السلام عين على الفضلي للشيخ عامر وأصحابه من صحبه من العسكر عقوبة على الفضلي، فأرضاهم الفقيه أمير الدين عن الفضلي، وحسبها عليه من معتاده من بلاد عدن، وكان قد وقع من الفضلي مثل ذلك إلى الأمير حسين بن عبد القادر صاحب خنفر اعتدى عليه، ونهب شيئاً من بلاده فأرسل الإمام عليه السلام قبل الشيخ عامر الشيخ الرئيس سفيان القارني، وبعض أولاد الأمير عبد القادر ونفذ إليه سفيان، وتحكم فيه حتى أنه حرج مما فعل، وبعد أن رجع الشيخ عامر المذكور كثر توحش الفضلي حتى أن الإمام، كتب إليه في شيء من أحداثه، وأرسل رسولاً.

أخبرني الرسول المذكور وهو من بني صريم الظاهر أنه بقى عنده أشهر لم يرض بالجواب عليه فعاد بغير جواب. ولما كان هذا المخرج المنصور، واستقر السيدان الكريمان محمد بن أمير المؤمنين ومحمد بن أحمد بن أمير المؤمنين، ومن معهما في معمور البيضاء كما تقدم، وصل الهيثمي المذكور إليهما بأمان وأحسنا إليه، وعظما قدره وقالا له: من شرطنا عليك وصولك إلى الإمام عليه السلام، فإن ترضى بذلك فهو الذي شرطناه لك وعليك، وإلا فالوصول إلى الصنو الصفي – حفظه الله تعالى – فلما عرف منهما ذلك وأنهما غير غادرين له اختار الوصول إلى مولانا الصفي – أيده الله – فجهزاه في صحبة الشيخ علي بن يحيى الحسيني من مشايخ هنوم، وعشرة أنفار من كبار العسكر ليكونوا معه في الطريق لسد جناحه وتحمل مؤنه وقد كانوا أحسنوا فيه الظن لما [261/ب]رأوا من محبته في المسير إلى مولانا أحمد، وكرهوا أن يحملوه على الصعب في أول استفتاح جهات حضرموت فسار معهم إلى موضع يسمى الشرف من حدود بلاده، وقد أضافهم وقال: إنه يريد يمضي بيته لبعض حوائجه، ويعود إليهم أو كما قال، فلم يعد وأخلفهم، وعاد إلى غدره المعهود وما تعوده من نقض العهود ومخالفة المعبود، فلما أيسوا منه بعد الإقامة في موضعهم كتبوا إلى ولدي الإمام عليه السلام إلى البيضاء، فعاد جوابهما بانتظاره، وإن شق بهم المقام وكتبا إليه فبعد عن العود وعاوداه مرة أخرى، وهو كذلك، فكتبوا إلى الإمام فأرسل إليه من يضمن له بحسن الخرج والعفو فازداد تعدياً حتى أنه قطع الجواب عن الرسل فأمر الإمام بالكف عنه، وإغفال ذكره، لئلا يحدث ما يشغل عن

المقصد الأهم، والمخرج المقدم.
وأما إبنا الإمام اللذان في البيضاء، فلما عرفا عدم وفائه خافا أن يحدث شيئاً في الطرقات، فأخرجوا محطة إلى دثينة نحواً من ثلاثمائة، ثم أخرى إلى موضع يسمى دروه، وثالثة إلى موضع يسمى الشرف لحفظ الطرقات، فكانوا هنالك، وهو في ظلاله القديم مستوحشاً، ويغزوا من استأمن من أصحابه، ويتناول من الطرقات ما قدر عليه من الفساد. ولما فتح الله سبحانه وتعالى بالاستيلاء على بلاد صاحب حضرموت تقدم أولاد الإمام عليه السلام من البيضاء إلى أعلى نقيل دثينة وذلك غرة شهر رمضان الكريم فكانوا في موضع مرتفع يطل على الشفى وهي بلاد واسعة كثيرة الجبال والشجر، وهي أكثر من مسير يومين، فأمروا العسكر على من قرب منهم أن ينتهبوا ما وجدوا من أنعامهم ومساكنهم، وذلك بعد صلاة العصر فاستفاضوا على مواضع من مساكنهم فكانوا فيها إلى الصبح، وهي ثاني شهر رمضان فأرسل أولاد الإمام في أثرهم عسكر لإمدادهم فأخذوا غنايم من الأنعام كثرة ومن الأمتعة وأجلوهم عن أكثر بلادهم. وكان قد تفرق من العسكر كثير في مواضع لم يشعر بهم الغزاة ففقد منهم نحو عشرة أنفار، لم يعرف أين ذهبوا لكثرة الأشجار والأوهاط، وقد أمر أولاد الإمام، أهل المرافع بضربها طول الليل ليهتدي الضال من العسكر إلى موضعهم، فكان في ذلك سلامة لكثير من العسكر. ثم عادت المحطة إلى البيضاء بما معهم من الأسلاب والأنعام ووجهوا السيد (الريِّس) المعظم شرف الدين بن مطهر أيده الله بمحطة معظمها من أهل الحيمة زهاء من ثمانمائة نفر من غير من كان في دثينة ولحق بعدهم قوم فكانوا جميعاً ألف
وخمسمائة رجل.

غزاة الهيثمي الأخرى
ولما كان[262/أ] إلى نصف شهر رمضان، وقد أجلى أكثر أهل بلاد الهيثمي، وتفرقوا وكان عدو الله قد لحق بالفضلي، وصار في أسفل بلاده بموضع يسمى [ ] والعيون عليه توجهت عليه جنود الحق فساروا من دثينة بعد صلاة العصر بقية نهارهم وليلهم إلى بعد صلاة الظهر من اليوم الثاني، فوجدوهم آمنين ترد عليهم الضيافات من الفضلي وهم عليها. وقد ضربوا بيوت الشعر، فأغار عليهم أول الخيل نحو عشرة فرسان، وعشرة أنفار، فقتل من أهل الخيل فارس، ووقع في الآخرين صواب، وقد طعنوا فيهم طعناً منكراً، وكان أول من باشر قتالهم وقتل منهم السيد محمد بن علي بن عشيش الحسيني الحوثي، فتكاثروا على العشرة الفرسان فأطلت الرايات المنصورة، فلما رأوها فروا مدبرين، واستولى العسكر المنصور على مواضعهم، واستاقوا من الأنعام ما لا يحصرخ العدد، وكذلك من الآلات والسلاح والأثاث والبيوت الشعر كذلك، ثم استاقوا نسائهم وصغارهم من جملتهم امرأة الهيثمي واخوته وبناته وقتل منهم كثيرون، منهم عم الشيخ الهيثمي المسمى باطهيف، واجتز منهم رؤوس وأسرى وكان السيد شرف الدين- أيده الله – رأى كثرة اشتغال العسكر بما كانوا قد طمعوه من الآلات والأمتعة والأنعام، فصاح في كبار الناس، وترك مافي يده من ذلك، وأمرهم كذلك وحرقه بالنار. ثم جعل على الأنعام والنساء والصبيان قوماً منحصرين يسوقوهم وجمع العسكر وعباهم حذراً أن يتبعهم القوم، فكانوا على ذلك حتى وصلوا دثينة. فلما وصلوا بهم دثينة، لحق أبناء الإمام عليه السلام عواطف الرحمة ولطايف الشفقة فأمروا بالقبض على حريم الهيثمي، وأن

يكونوا في معمور حصن دثينة على صفة الرهائن وأمروا بإطلاق من بقي.
وقد تقدم أن والي حصن دثينة رجل من عيال أسد يسمى الشيخ محمد بن صالح بن عبد الله، وكان أبوه عليها والياً من سنان باشا لا رحمه الله تعالى فاستمروا ولاة على هذا الحصن المذكور، ولهم عوايد من سلاطين المشرق لأمور تمت لهم بها الاستقامة، فلما أن فتحت هذه الأطراف في أيام مولانا عليه السلام صاروا إلى رأيه وأقرهم على ما يعتادونه وزادهم عليه، وقد تقدم شيء من ذلك.
نعم! وكان رهينة الهيثمي وإخوته في حصن ديثنة هذا المذكور، وهو مشرد مطرود وقد عرف الفضلي، وهو حيدرة بن فضل بن أحمد بن حيدرة المذكور آنفاً وكان قد مات لا رحمه الله، وكان ولده حيدرة هذا مكانه.
ولما عرف الفضلي المذكور جنود الحق دخلت بلاده، وأخذوا الهيثمي ومن ذكرناه خاف على نفسه[262/ب] وكاتب ولدي الإمام وعرض وصوله ومثوله، فكان من الجواب عليه أن لا بد من وصول الهيثمي ومن دخل معه في الفساد، وكان منهم الشيخ الخبيث المسمى محمد بن حيدرة قرعة الذي تقدم ذكر إحسان مولانا الإمام إليه وانتصاره له مع غيره.

ولما عاد الجواب وصل الشيخ الهيثمي المسمى صالح إلى السيد شرف الدين، ومن كان عنده من الرؤساء فكتب السيد شرف الدين إلى أولاد الإمام (عليه السلام) يطلب لهم الأمان على نفوسهم، ويستقيم المذكور مكان أخيه، فأجابوه أن لا أمان له إلا بوصول أخيه إلينا، ثم إلى الإمام، وكذلك الفضلي طلب الأمان على نفسه فشرطوا عليه ذلك، فوصل المذكوران إلى البيضاء المحروسة بشرط وصولهما إلى الإمام ويتحكمان لحكمه المقضي وأمره النافذ المرضي. وكان وصولهما مع وصول أهل الشحر فلم يكن الإمام عليه السلام يلتفت إليهم بعطف، ولا خصهم بعرف، لما تكرر من نكثهم وأن الإحسان غير مؤثر فيهم حتى كان من أمرهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن أخبار الهيثمي أنه لما عاد الإمام من شهارة إلى صنعاء المحروسة بالله وصله في ليالي عيد عرفة عام اثنتين وسبعين وألف [1661م] حريم الهيثمي مع بعض أولاده، ومعهم بعض أنعامهم، وكانوا في سوائل جبل نقم، مما يقرب إلى القصر، يشكون هجر الناس لهم، وانقطاعهم وما لقوا من شؤم الهيثمي المذكور، فأمر الإمام إليهم بالضيافة الكافية وأجرى عليهم النفقات كذلك، وأن يكونوا في تلك الشعاب وبيوتهم الشعر.
ولما قدم الإمام عليه السلام إلى محروس الدامغ لحقوا به فكانوا بالقرب من الحصين وأجراهم كذلك على ما كانوا عليه في صنعاء، ووعدهم بإطلاق أبيهم بشرط سكونه في محروس الدامغ وطلب في ذلك الضمناء.

ولما كان في شهر رجب من السنة المذكورة عادوا بلادهم عن أمر الإمام عليه السلام باستدعائهم لذلك، ثم إن الهيثمي المذكور أعمل الحيلة والمكر للهرب من كوكبان المحروسة بالله، وذلك في أول شهر رمضان بأن ترك الرسَّم في العشاء والاشتغال بالإفطار، وقد أعمل في مبرد ساق به الحديد الذي في رجله حتى قطعه وقد أعد جماعة من خدمه يحملونه، وآخرين من خارج الحصن وربما كان ذلك بدسيسة، من بعض أهل الحصن، وشاع ذلك، ففرق الأمير عبد القادر، حماه الله خفاف الرجال إلى كل طريق يتوهمها حتى يقال أنه لم يبق موضع لم يكن فيه أحد من الطلب وكتب إلى الإمام، وإلى مولانا الصفي أحمد بن الحسن حفظه الله فأمر بمثل ذلك، فوجدوه في كهف جبل من الأهجر، انتهى.
وقد ذكرنا تقدم مولانا الصفي، - أيده الله – إلى معمور البيضاء وقد تلقاه السادة[263/أ] الكرام بما يجب من الإجلال والإعظام والتقادم من الخيل النجيبة وكان العيد هنالك كما تقدم.
ولما تمت أعمال العيد واستكمل، - أيده الله – من أراده للمسير معه، تقدم إلى الزهراء، ثم ما بعدها من المنازل إلى رداع، وكان قد تقدم إليها جماعة من فرسان مولانا العزي، - أيده الله – وقد ترجلوا لذهاب خيلهم، ولما حل بهم من الضنى والنصب مما لحق غيرهم، ولكن موت خيلهم كان أكثر من غيرها، لأنها سافرت من المعاليف في اليمن فذهب منها فوق سبعين فرساً كما بلغ، فأعطاهم مولانا محمد وأركب من قدر وأحسن إليهم كثيراً، وقال لابد من رجوعكم إلى الصنو الصفي - أيده الله – ويكون عودكم إن شاء الله تحت ركابه، وفي جملة أصحابه، فعادوا وكانوا معه.

ولما قربوا من رداع أمر مولانا العزي، - أيده الله – بالمضارب أن تضرب، وبالخيام أن تنصب، وبالأسواق أن تقام، والضيافات الواسعة أن تهيء وتقرب وقد أعد من بجانب المحلية، مولانا الصفي أيده الله، ولأولاده الكرام حماهم الله وهم ثلاثة أنفار، مولانا محمد بن أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين ومولانا الحسن بن أحمد بن الحسن بن أمير المؤمنين، وعلي بن أحمد بن أمير المؤمنين وكان قد تلف كثير من خيل مولانا الصفي أيده الله، وأصاب الكلل ما بقى من تلك الخيل، ولقد صار هو وأولاده النجباء الكرام في بقية من الخيل عجفة وأحوال من المتاعب قشفة. وهو مع ذلك وضاح الجبين، قليل المشارك في الصبر فإنه أيده الله خلط نفسه بالصغير من أصحابه وكان كأحدهم وحكاية تفصيل ما أثنى عليه هذا الجيش الوسيع، ومن ألم به من أهل المحل الرفيع من الأسوة حتى لقد كان يحمل إلى حجاب جواربه حصه من الدوم ولحوم الإبل، وإذا وجد عندهم أفضل مما عند أصحابه احتمله من بينهم، قال بعض أهل البيع والشراء، إنه قال له يوماً: هل بقى عندك شيء؟ قال: بقية من أضعف الدقيق ما أراها تصلح لكم يا سيدي، فقال: إذا هي أرطب من الحجارة فهاتها أو كما قال: وأقام مع صنوه العزي، أيده الله، ليالي قليلة وكذلك سادتنا الكرام مولانا محمد بن أمير المؤمنين، ومولانا محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين ومن صحبهم ممن تقدم ذكرهم من العيون، وكانوا في مخيم واحد. ثم ساروا وقد اجتمعت المقانب وترادفت الكتايب، حتى أن أولهم في ذمار المحروسة، وآخرهم في رداع المعمورة، وقد قسم السادة أيدهم الله أنفسهم في الطريق لحفظ الرعايا

من معرة الجيش وقد قدموا إليهم أن ليس عليهم إلا إنزال الجنود الذين يتقدمون أو يتأخرون عن الخيام وعهدوا إلى العسكر بذلك وقد صاروا آيسين إلى الجوع والكد فلا يكادون يطمعون[263/ب] في نايل أحد فما اشبه مبيتهم في بعض القرى، بقول القائل:
ما عندنا لطارق إذا غزى ... سوى الحديث والمناخ في الذرى
وقد أرسل الإمام عليه السلام من تلقاهم بما قدر عليه من بيت المال لعلمه بضعف البلاد، وأقاموا في محروس مدينة ذمار يومين.

[قدوم الإمام المتوكل على الله إلى صنعاء]
ذكر تقدم مولانا الإمام إلى محروسة صنعاء، ولما كان السادة في محروس رداع وقد عرف الإمام عليه السلام، ما لحق بالعسكر، من التعب، وإن أكثر الخزائن قد تعطلت، وأن حصن ضوران لا يسعهم إلا بمشقة عليهم وعليه، وربما وعجز كثير عن الوصول إليه، ورأى أن صنعاء المحروسة بالله أحمل وأوسع للنزول لما فيها من العنب، وساير المبيعات، وأن سادتنا الكرام أيدهم الله يكونون بالقرب من بيوتهم الشريفة، ومواضعهم المنيعة، فيحملون كثيراً من أصحابهم ويطمئنون في مواضعهم فسار إلى صنعاء المحروسة بالله يوم السبت في شهر ذي الحجة الحرام سابع عشر منه، ولا عرف أحد مسيره.

102 / 116
ع
En
A+
A-