وكتب في يوم الإثنين غرة شهر رمضان عام سبعين وألف [مايو 1659م].
ومنها قضية الجراد فإنه لما تقابل الصفان للحرب خرج جراداً لم يروه قبل ذلك اليوم في بلاد حضرموت، وكان من جانب جنود الحق فيقع في وجوه القوم حتى أعماهم، فولوا مدبرين، وشهد بهذه الآية العجيبة الطائفتان جميعاً وتحدث بها جميع من شهد ذلك ولم تظهر[258/ب] لهم تلك الجراد بعدها.
ومنها أن كل ما جهزوه في البحر والبر ألقاه البحر في الساحل وصار إلى الإمام، كما تقدم مع مبالغتهم في الاحتراز… .
[تسيير أمور حضرموت والشحر] .
وأما مولانا الصفي، أيده الله، وبقاؤه في سيئون فإنه تنزل لأهل البلاد الحضرمية وسلاطينها وفقهائها وأحسن إليهم كثيراً، وكان ذلك في شهر الله الكريم وقبض منهم الفطرة وردها في فقراءهم، وأهل المسكنة وأعطاهم (جماً وأحسن إلى خاصتهم وعامتهم) وغير المنكرات وأرسل إلى المدائن المتقدم ذكرها بمثل ما فعل قريباً منه، ونكل بمن قد فحش عصيانه كأهل الملاهي والبيوت المعهودة الفساد، ونصب القضاة للخصومات ثم جهزوا الفقيه المجاهد بدر الدين محمد بن علي جميل السيراني، أطال الله بقاه، في عسكر نحو ستمائة أكثر سلاحهم البنادق وأرسل معه ولد السلطان بدر بن عمر المسمى علياً وقد جعل ولاية الشحر بنظر والده بدر بن عمر، والمسافة بين الشحر ومدينة سيئون ثلاثة عشراً يوماً.
وأمر الفقيه محمد المذكور أن يقرر حال هذا السلطان (في الشحر) ويصغر من ناوأه وإن يكون هنالك حتى يبدوه بما يراه إن شاء الله تعالى وكان غالب أهل الشحر الميل إلى السلطان طالب بن عبد الله، كما غالب أهل حضرموت ميلهم مع أخيه بدر بن عبد الله، وهو سلطانهم الأكبر المتقدم ذكره فتشمر[259/أ] أهل بلاد الشحر وقوم منهم يسمون الحموم وهم شوكة تلك الأطراف وهموا بالتظاهر للحرب، وهذا الفقيه محمد بن علي بن جميل من أهل الحزم والجزم ومعرفة المكايد. وكان قد جمع الجمال والأثقال وفرق أهل البنادق في جنباتها في هذه المراحل كلها حتى دخل المدينة المذكورة على أحسن تعبية، وكان واليها من قبل السلطان طالب رجل يسمى الأمير علي من مماليك السلطان وإليه الحصن والمدينة والبحر فتلقاهم وأظهر الطاعة، ونزل الفقيه محمد بن علي بن جميل في خواص من العسكر فكان في الحصن احتياطاً، وولد السلطان في محلهم المعتاد من المدينة. وكان قد خرج من عسكر الفقيه محمد رجل من وادعة الظاهر إلى موضع يسمى تبالة قريب مرحلة من الشحر ليشتري شيئاً فقتله الحموم، وخرج صاحباه يطلبانه فقتلا أيضاً، وخرج غيرهم فلقوا القتلى فدفنوهم، وعادوا والقبائل على نفورهم لم يختلط بهم أحد مع المبالغة منهم في تخويف الطرقات. وكان قد غلب الفساد على تلك البلاد كما تقدم، فكانت الخمور تباع في الأسواق ظاهرة، وعليها للسلطان قانون فكسرها الفقيه بدر الدين محمد وشرد أهلها فانقطعت، وهذا السلطان علي، ووالده قد صارت أحوالهم شديدة ولهم محبة في الإمام عليه السلام أكيدة، فجرى على ذلك المجرى في الشدة على أهل
الفساد والقبائل على نفورهم، وقتل رجل آخر من العسكر في موضع آخر كان خرج يلتمس شيئاً من المبيعات وهذا ساحل الشحر من البنادر الكبار. أخبرني من دخله مع الفقيه محمد بن علي أنه رأى في ساحله من الزوارق التي للصيد فوق خمسمائة، وأن فيها أمماً من الناس وأن فيها من البانيان، أقماهم الله، وهم البراهمة نحو من ثلاثمائة تاجر، وكان استقرار الفقيه محمد بن علي ومن معه في هذا المحل شهراً وسبعة أيام.
ولما بلغ مولانا الصفي – أيده الله – صلاح حال ولد السلطان وتمكنه من الشحر أمر الفقيه بدر الدين محمد بن علي بالوصول بالعسكر المنصور، وقد صلح حال السلطان علي وجرى مع أهل بلاده على عوائدهم الموافقة للشريعة النبوية وعلى ما جرت به الرسوم الإمامية. وقد قرر الفقيه بدر الدين الأعمال وتفقدها على نحو ما تقدم من مولانا الصفي – أيده الله – وجعل عند السلطان من أصحابه من رغب بالبقاء في تلك البلاد لإعانة السلطان وسار من طريق الساحل[259/ب] إلى حصن الغراب وبير علي مواضع هنالك. ثم ساروا حتى انتهوا إلى ميفعة المتقدم ذكرها، وكانت الجمال التي حملت أثقال المحطة نحو من ثلاثمائة جمعها لهم السلطان علي، بعد أن اشتراها من أهلها واكترى أيضاً مع ذلك وكانت المسافة من الشحر إلى ميفعة ثمانية عشر يوماً، ومن ميفعة اتصلوا بمولانا أحمد –أيده الله-.
وأما خروج مولانا الصفي – أيده الله – من البلاد الحضرمية وما والها فإنه بعد ما كان من صلاح البلاد، وتصغير أهل الفساد تعسرت عليه الإقامة في تلك البلاد لوجوه منها: أن العسكر قد تكاثروا وأن محصولاتها لا تقوم بهم، وأيضاً قد عهد إليه الإمام، أن يترك لسلاطنهم عوايدهم وأن يقبل منهم الامتثال وظاهر الطاعة والاعتزاء إلى هذه الدولة المحمدية والعصابة العلوية.
ومنها أن خيله وجماله وأمواله كادت أن تنفذ، والانتظار لما سيأتي من عند الإمام يطول وعرف أن الإمام لا يتمكن من كفايته لما عنده عليه السلام من المهمات خاصة وفي أرض اليمن كذلك من الشدة المتقدم ذكرها وأيضاً اتصل به الخبر أن صاحب ظفار استدعى قوماً من أهل نعمان ومذهبهم مذهب الخوارج، فيكرهون أهل البيت عليهم السلام ويكرهون أهل الشحر أيضاً لمعاصيهم فغلبوا جعفر هذا المذكور على ظفار.
أخبرني مولانا عز الإسلام والمسلمين محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين،- أيده الله – تعالى مكاتبة أن صاحب النعمان أرسل إلى هذا الرجل رجلاً من أصحابه يسمى عامر بن أحمد في نحو أربعمائة نفر فظهر لصاحب ظفار مائتان واستتر منهم مائتان في جانب آخر، وكانوا من طريقين فالظاهر من البحر أو البر. فلما قابل الواصلين إليه، ونزل لهم وأراد التفرغ لضيافتهم إذ وصل النصف الآخر فصعدوا الحصن وأظهروا أنهم مأمورون بذلك، هذا لفظ كتاب سيدي عز الإسلام أو معناه.
ولما غلبوا على الحصن المذكور، كانوا هنالك كما سيأتي، حتى كان من أمرهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأخبرني رجل آخر عن رجل مستقر في صنعاء المحروسة بالله، أن جعفر هذا لما بسط يده في العدوان وانتهب أموال من تقدم ذكرهم، كتب سلطان الهند أو سلطان فارس السهومني إلى صاحب النعمان إنك تخرج على هذا الذي كان منه ما كان، وإلا كنت لنا حرباً، قال: فعظم عليهم الخروج إلى ظفار، لما كان في حدود جهة اليمن وعظم عليه أيضاً[260/أ] مخالفة من ورائه من الملوك فوصله كتاب جعفر هذا المذكور وهو على هذه الحال، فكان ما تقدم والله أعلم.
نعم! ولما استقر النعمان في ظفار غلبوا جعفر على أمره، وكتبوا إلى مولانا الصفي أيده الله بما معناه: إن الله سبحانه وتعالى مكن من هذا الضال المضلول، وقد أخرجناه من هذا البندر والتصرف لكم فيه وفينا وأظهروا الطاعة الإمامية وأنهم إنما خرجوا على هذا المذكور، لما أفرط في الفساد فقبل منه مولانا ظاهر الطاعة وأجابهم بتصويب ما فعلوا وأن المراد تطهير الأرض من مثل ذلك الفاسق أو كما قال.
وكان هذا تدبيراً نافعاً، فإنه لو أراد الخروج عليهم لم يتمكن منه لبعد المسافة التي بين حضرموت وظفار فإنها نحو ثمانية عشر يوماً للبريد فيكون للأثقال أكثر من شهر، وهي مفاوز قليلة الماء وأيضاً تحتاج إعادة ابتداء المخرج ومؤنه التي جمعها من صنعاء واليمن وقد صار في بلاد لا يجد ما يقوم به كما تقدم، فرضى منهم بظاهر الطاعة وقرر السلطان بدر بن عمر على ما كان إليه وما كان إلى ولد أخيه السلطان بدر بن عبد الله من بلاد حضرموت والشحر وما والاها من ولاية السلاطين آل كثير واستخلف السلاطين آل كثير أيضاً للسلطان بدر بن عمر، وقد تقدم إن كبارهم قد صاروا عند مولانا الإمام، ثم بعد ذلك قبض على من عرف فساده واعتدائه في الطرقات، واحتملهم معه مكبلين في الحديد وكذلك الشيخ الواحدي والعولقي وغيرهما ممن يخاف فساده من أهل تلك الجهات إلا السلطان العمودي فإنه أبقاه وشكر له وارتحل من سيئون إلى موضع يسمى الغرقة ثم إلى شبام، ثم إلى حذية، ثم إلى هينن، ومنها فرق العسكر فجعل الفقيه علي بن صلاح الجملولي في عسكر ضخم يسلكون من طريق جبل السوط والنعمان ليخف عليه مؤنة العسكر وليقبضوا على من عرف فساده من أولئك ولأجل الماء والزاد. ثم الأمير أحمد بن الحسن بن عبد الرب وجهه وجمع إليه محطة أخرى، فكانوا بالقرب من الفقيه علي المذكور وأمرهم أن يسلكوا طريقاً كما تقدم، وقد جعل لهم أدلاء، ثم سار بمن بقى معه من طريق شبوه حتى عاد إلى بلاد العولقي، وهو مع ذلك يتبع أهل الفساد في الطرقات، ويقبض على من قدر منهم وحاول أخذ[260/ب] أعواض ما ذهب في أحور وتغريمهم ديات من
قتل العسكر، فضاق به الحال ولم يسعه المجال، واستوفى ذلك منهم، وزيادة عليه فيما سيأتي إن شاء الله في المخرج إلى بلاد الفضلي وما والاها، ولحقه مشقة عظمى في هذه الطريق، وشدة من قل الماء فإن في هذه الطريق غالبها في كل مرحلة بير واحدة، وقد ربما لا يكون إلا في المرحلتين بير فاشتد على الناس معه الضمأ وكادوا أن يهلكوا في مواضع كثيرة.
أخبرني من شهد ذلك أنه كان- أيده الله – يقدم إلى البير فيقيم عليها حتى ينزحها آخرهم ويأخذ كأحدهم، إنما يفعل ذلك خوفاً من أن يهلك العسكر بعضهم بعضاً، وقال بعضهم أنهم تفرقوا من موضع قال: فكنا في مفازة فإذا نحن بمولانا الصفي – أيده الله – على مثل حالنا، قال: فإذا هو يبتسم ويضحك وقال: إن هذا الضمأ بعثر نظامنا فكنا كقوم انكسرت بهم سفينة، فتفرقوا على الألواح فعليكم بالصبر وفرج الله قريب أو كما قال.
وأخبرني من شهد الإزدحام على أحد الآبار، أنه مات بغل من التعب والضمأ وكان بعض أهل الدلا قد قصرت حبالهم فسلخوا جلد ذلك البغل فأخذ كل منهم ما وقعت يده عليه، ووصلوا بها حبالهم، فكانوا كذلك حتى اتصلوا بالبلاد التي تحتمل الأجناد، وتقدموا إلى البيضاء ليلة عيد الإفطار في شهر ذي الحجة سنة سبعين وألف [أغسطس 1659م].
[قضية الهيمثي والفضلي]
قضية السلطان الهيثمي والفضلي ومن صار إلى رأيهم فإنهم كانوا وصلوا مع مولانا الصفي – أيده الله – في المخرج الآخر على يافع بعد نكثهم الأول، وكان ممن وصل هذا الهيثمي إلى مولانا الإمام، فأعطاه في جملة سلاطين المشرق واستخلفه.
وأما الفضلي فكان [قد] تأخر عن الوصول لموعد أخلفه به وبلاده بعيدة عن الطريق إنما هي في ساحل البحر وفي جبال وعرة، فأعمى عنه ومع ذلك كتبه إلى مولانا الإمام، ومولانا الصفي مستمرة. ولما عاد الهيثمي تحكك في بلاد دثينة، وانتهب سوقها، وقتل بسببه أربعة أنفار، وطلبه الفقيه بدر الدين محمد بن علي الوصول إليه إلى البيضاء فتلكأ واعتذر، ثم استكبر فجاراه الفقيه محمد وقد كتب إلى الإمام فأرسل إليه الإمام أحد نقباء العسكر وطلبه الوصول إليه فعاد الرسول بلا شيء غير أنه أظهر الانقياد وترك الفساد.
وأما الفضلي فإنه كان كذلك، ثم بدا له بأن نهب قوماً خصوماً له وشيخهم يسمى [محمد حيدره] قرعة من[261/أ] حدود يافع، وقتل منهم نيفاً وعشرون رجلاً هذا[محمد بن حيدرة] قرعة فشكى إلى الإمام، فأرسل الشيخ المجاهد عامر بن صلاح الصايدي إلى هذا السلطان أحمد بن حيدرة الفضلي يأمره بالوصول إليه لإنصاف [محمد بن حيدرة] قرعة المذكور وأصحابه فانتهى الشيخ عامر إلى عدن وكاتبه يخبره بوصوله إليه، فكان من جوابه إليه: لا أصل إليك ولا تصل إلي وتكون في عدن، وكثرت المكاتبة بما حاصلها التلون وعدم الانقياد، وقد تقدم أن في عدن الفقيه الأجل أمير الدين بن أحمد العلفي من أهل الكمال، ومعرفة محاورة كبراء الرجال والشيخ عامر كذلك من أهل الحنكة والتدبير، فجعلا من يتوسط بينهم وبين المذكور بما يغطي أموره ويظهر الطاعة والموالاة وكتبوا إلى الإمام أنه يرسل محمد بن حيدرة قرعه وأصحابه ويصلحون بينهم كما يفعل بين القبائل، ورأى الإمام في ذلك صلاحاً لتغطية أموره حتى تصح منه الطاعة الصحيحة أو المخالفة الصريحة كما سيأتي.