فلما استقروا بها دخل أولئك الكنج على الإمام عليه السلام وسألوه ما هو لهم؟ فقال: هذه خواتم جعفر عليها، فهل لكم بينة، فقالوا لا نجد في هذا المحل من يشهد لنا، فإنا غرباء في هذه الديار، ولكن هذه جوالقها عليها، وختمها كذلك، ويسمعون منا صفاتها قبل أن نراها، فوصفوها، ثم فتحت فكانت كما قالوا فاحتاط الإمام بتحليفهم أنها باقية على ملكهم، وأطلقها عليهم، وكان فيها كثير من أحمال الصين المُكتَّب وغيره. ثم كان مع والي المخا كوالي الحديدة فقبضوا عليها على أنها لجعفر المذكور، فوصلت نحواً من عشرين جملاً ووصل بعض[256/أ] أهلها فأجابهم الإمام بنحو ما تقدم، وظهرت علاماتها فاستحلفهم وردها عليهم فباعوها في معمور الحصين وفي صنعاء وفي جميع الجهات الإمامية وأمر بحفظ حق من غاب عليهم وظهر من هذه القضية فائدة فقهية، وهي أن القول لمن الظاهر معه، ولما كان الظاهر من جعفر المذكور الظلم والتمرد، وكان الظاهر مع أهل هذه الأمتعة، ولما أنهم لم يجدوا الشهادة أتوا بما يدل على صحة ما ادعوه، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فانقلبت اليمين عليهم مع وجود تلك القراين، والله أعلم، حيث يجعل رسالاته.
نعم!:
تعرض محتاراً وما كان ذاكراً .... بعهد اللواء والشيء بالشيء يذكر
فإنه أذكرني حسن النظر، ولطف الاختبار من مولانا أمير المؤمنين، في طلبه من المذكورين أن يصفوا أمتعتهم وهي على خواتمها في جوالقها، وقد جاءت من طريق غير طريقهم فإنها وصلت من ساحل اليمن وادعاها قوم من الكنج بقضية.

[قصة الشريف الهندي]
أخبرني بها حي جدي السيد الأعلم محمد بن عبد الله بن محمد بن المنتصر رحمه الله جملة، وفصلها من كان أوعى لها مني من أولاده أنه وفد إلى الإمام الأعظم المتوكل على الله أمير المؤمنين، شرف الدين عليه السلام شريف من الهند، ذو علم وحال فقال: وأقام أياماً في صنعاء عند الإمام، وقرأ عليه شيئاً من الكتب، ولما وصلت أيام الحج استأذن الإمام، بأن يحج فجهزه الإمام وسار مع حاج اليمن، وكان قد عرف بعض أعوان الإمام، في الكتابة، فجعل عنده كيساً في كيس أيضاً مختوماً عليه بخاتمه مملوءً بما لا يعرفه الوديع، وقال: هذه أمانة في يدك، وتنتظرني بها عاماً كاملاً فإن أعد فحقي أمانة في يدك حتى تدفعه إلي، وإن لم أعد في آخر العام فلي وارث في الهند لا سبيل لك إلى معرفته، ولكني قد أمرتك أن تدفع ذلك إلى الإمام يصرفه فيما يراه من القرب أو كما قال، قال: ثم عاد هذا السيد المذكور قبل حلول الأجل، وعرفه الإمام، وساير أصحابه وأضافوه دون الوديع، فإنه أظهر الإعراض عنه وإنه لم يعرفه فتعرف إليه الشريف الهندي وأخبره أنه صاحبه فلم يعترف له، فشكاه إلى الإمام، فورَّى الإمام للشريف المذكور أنما من أصحابه من يجتري على جحد وديعة قليلة أو كثيرة، أو كما قال، ولكن تكتم أمرك وأنا أبدوك إن شاء الله تعالى بما يتجدد من النظر، ثم تغافل الإمام عنه أياماً، وطلب ذلك الوديع، ودفع إليه أوراقاً، وقال: أهل هذه الأوراق في انتظار جوابها فبادر بتحصيله في هذا المجلس وكان ذلك[256/ب] الوقت بعد صلاة العصر، وكان في يد ذلك الكاتب مسبحة أحسبه قال أنها مرجان،

فقبضها الإمام من يده كما يفعل الجليس مع جليسه، ثم أخرج أوراقاً أكثر من الأول وقال: وهذه الحاجة [يتم] إرسالها إلى أهلها فوراً، فقم ذلك المنزل لتفرغ لتمامها إن شاء الله تعالى.
ولما انتقل الكاتب إلى ذلك المحل التفت الإمام إلى خادم صغير لذلك واستدناه إليه وساره، وقال هذه مسبحة سيدك أمارة اذهب بها إلى امرأته وقل لها هذه أمارة ارسلي معي كيس الهندي مختوماً بحاله، وتصل به مستوراً تحت ثيابك أو كما قال، فما كان بأسرع من وصوله إلى الإمام بذلك، فقبضه وقبض الأوراق ووجهها لأهلها، وذهب ذلك الكاتب إلى أهله، فقال لنا الراوي أنه قال لأهله وقد استلقى في موضعه أني أنسيت المسبحة ولكنها في مجلس الإمام وأخاف عليها فإنها ثمينة أو كما قال، فقالت: امرأته يا سبحان الله هاهي عندي محفوظة وأعطته فقال: من أوصلها إليك فقالت: الخادم فلان لما وصل لكيس الهندي، فسأله من الذي أعطاك المسبحة؟ فقال الإمام فعرف الكاتب الحال.

نعم ! وأما الكيس فلما وصل إلى الإمام، طلب الهندي في اليوم الثاني أو الثالث فقال صف لي متاعك فوصف ظاهره بما كأنه مشاهده، فأخرجه إليه، وقال: صف لي ما داخله فوصف ذلك كذلك، حتى نقش الختم، ففتحه الإمام، وقال: هل ذهب شيء من مالك فقال: لا فإذا فيه ربط، منها خواتم أفصاصها الياقوت، وآخر من أجناس غيرها، ومسابح مرجان، ولؤلؤ وذهب أحمر كثير فحمد الله الإمام، وأخبره أن في أصحابي من يجهل حالك، وهذا تمكن منه وأوهمه الإمام أن صاحبه رافع ذلك إلى الإمام ليبقى حسن الظن في أصحاب الإمام، وهذه القضية لا يعلم بذكرها في سيرة الإمام، فكان كتبها هنا كصفة الاستدراك والله الهادي.
وكان وصول الأحمال من المخاء في سلخ شهر رمضان، ثم إن والي عدن قبض أحمالاً على مثل ذلك، ورفع خبرها إلى الإمام، فوصلت إليه في شهر شوال وكانت أربعة وخمسين حملاً، وأعطى الإمام كذلك من عرف أمتعته وحفظ حق الغائبين وهم واصلون لها لا محالة إن شاء الله تعالى.
نعم! وإرسال هذا المحروم إلى بندر جدة بهذه الأموال لتكون تجارة مع ثقاته ولتكون في بلاد الأتراك التي لا يصل إليها أمر الإمام عليه السلام، وأنه باق في ظفار لينتظر المخارج، التي توجهت إليه وإلى أخيه فإن تُغلب وتؤخذ بلادهم[257/أ] كما وقع لحق بها، وقد كاتب وكذلك أخوه إلى ملك الروم وصاحب مصر، كما بلغني وأن تعد عنهم الجنود الإمامية كانت له بضاعة بايرة، وصفقة خاسرة، يتمتع بها قليلاً ويعذب بها طويلاً والله المستعان.

فصل.. يذكر فيه شيئاً من كرامات الإمام في هذا المخرج المنصور بالله، منها أن غالب هذا العسكر المنصور بالله من بلاد صنعاء وظاهر همدان من بلاد كوكبان وثلأ وهي أعلى بلاد السراة وأصحها فكانوا في هذه المفاوز يأكلون مالا يعتادونه ولا يسيغونه في بلادهم، وينقطع عليهم فيأكلون لحم الجمال الضعيفة وغيرها من الحيوانات على حنيذ وغيره فلم يؤثر فيهم غير الصحة والعافية وكان أهل هذه المواضع المذكورة في مخرج تهامة، وحصار زبيد علقت بهم الأمراض ومات أكثرهم كما تقدم.

وفي كتاب القاضي الأعلم بدر الدين محمد بن علي المسوري، أبقاه الله، جملة من ذكر هذه الكرامة، أما تفصيلها فإنه يطول، وفيه شيء من أخبار سفرهم وأسماء المواضع وإن قد تقدم فلا يخلو من فائدة، وهذا من كتاب إلى سيدنا العلامة الحبر شيخ الإسلام، أحمد بن سعد الدين، أطال الله بقاه، قال: بعد حذف طرته، صدرت من مدينة سيؤون التي هي قاعدة أرض حضرموت ومقر ملكها، ونحن نحمد الله إليكم كثيراً، وذلك بعد تمام المقاصد بعد أحوال يطول شرحها، وتجشم أهوال نحن في آثار ترحها وقد تفضل الله سبحانه وله الحمد بالسلامة والخلاص من المشاق، بعد أن قاسينا شدايد عظيمة وسلكنا طرقاً وأودية وخيمة، وجبال شاهقة، وفيافي مقفرة وشعاب متعطلة وذلك أنا ارتحلنا من وادي ميفعة لما اقتضى الحال ترك طريق الساحل، وسلكنا طريقاً لم تسلكها قافلة، وإنما هي للبدوان إلى حيث منافعهم ومياههم، وجميعها منقطعة من الماء ولكن الله تفضل بالمطر قبل الارتحال وكان سيدي صفي الدين، حماه الله، يرسل الرسل للبحث عن الماء فلا يزالون يبحثون عن مياه لا يعرفها أهل البلاد أصلاً، فيرتحل إلى ذلك المحل فيقف فيه حتى يبحث عن حال المحل الآخر، فأما من جهة الماء فلم يحصل عظيم مشقة.

وأما من جهة الزاد فبلغ الناس إلى حال لا يمكن وصفها وعدم كل موجود، وحتى أنه بلغ قدح الدوم إلى حرفين، وشرينا قدح الحنطة من حساب اثني عشر حرفاً، وكنا نستعمله لسيساً هذا من يجد ما يأخذ به، وأما من لم يجد فإنما ييسر الله لهم بالجمال الحاسرة، فكانوا ينتظرون الجمل الذي يجدون فيه أدنى ركة[257/ب] فيسيرون قريباً منه فإذا عثر من عسرة الطريق تهافتوا عليه يقطعون أوصاله من دون نحر، وعم ذلك أكثر الناس وجرت أمور عجيبة، ودارج الله ألطافه واستمر الناس على ذلك الحال إلى أن انتهى الأمر إلى وصول الريدة هذا وادٍ في أعلى جبل السوط وهذا الجبل جبل عظيم الشكل، عظيم طويل عريض شاهق، إلا أن ارتفاعه خفي لسبب طوله وعرضه، فإن طوله قدر اثني عشر يوماً للبريد من الساحل إلى أوساط الجوف والرمال التي بين الجوف وبلاد الإحساء والبحرين وأطراف عمان فهو شرق من جهة القبلة والشرق عليها.

وأما عرضه فأقرب مكان الذي نسلكه إلى حضرموت مسير سبعة أيام وفيه مياه من المطر تجتمع في شعابه ومغاراته ينتفع بها المسافرون إذا وجدوا الدليل الخبير. وبعد وصول هذا الموضع حصل لبعض الناس، وهو من يجد الدراهم بعض شيء وأما المعدم فعدم عليه كل شيء ثم استمرينا المسير في السوط إلى وادي دوعان وكان العدول إليه عن وادي عمد برأي الشيخ عبد الله العمودي، وجاء أرفق وألطف وقد نزلنا إليه عقبة ما ينزلها الرجالة المخفون كيف الجمال الحاسرة المثقلة ولكن جرت ألطاف عجيبة ما يشك من رآها أنها بركة نية المولى أمير المؤمنين، حفظه الله، وما يبذل من الدعاء في كل حين. وكان الخطاط قرب الهجرين، وهما قلعتان منيعتان، وحصنان حصينان لكن الرجال ركاك، ولما قربنا منه علوة بندقين نهد إليه شداد من العسكر حملهم على ذلك ما قد صار في نفوسهم من الغيظ وما لاقوه من التعب والنصب، فلم يكن بأسرع من أن أخذوا أحد حصينة وقتلوا جماعة وجاءوا برؤوسهم، هذا كان بغير أمر سيدي صفي الدين، حماه الله، وإنما أمر جماعة لتلقى جماعة هاربين منه إلى محطة السلطان، وكانت منه على مرحلة قريب مدينة هينن.

وفي اليوم الثاني وهو يوم الجمعة سلخ شهر رجب أو تاسع وعشرين منه واجهت القلعة الأخرى، وحصل للناس انتفاع بشيء من الطعام مشترى، ثم أقمنا إلى يوم الأربعاء رابع شهر شعبان الكريم، وتوجه سيدي، حماه الله، بالجند المنصور بالله وكل منهم يريد القتال ومشتاق إليه أولاً للغيظ الحاصل بعد التعب والنصب، والآخر أنهم كانوا يتحدثون إلى أين المهرب، فكان يظهر منهم حالة عجيبة مؤنسة مضحكة فبقينا قريباً من المحطة إلى صبح الخميس خامس شهر شعبان، وتوجهنا للقاء فاصطف الفريقان، ولم يتحير أصحابنا أبداً بل مروا مروراًكماهم[258/أ] فرمى أصحاب السلطان رمياً ضعيفاً، وانهزموا بأجمعهم وكانوا جمعاً كثيفاً، وكان سيدي صفي الدين، حماه الله، يزجر القوم ويؤخرهم توهماً من المكيدة ولقد رتب الصفوف ترتيباً ما قد رأى الرائون مثله، وظهر منه من الثبات ما أشد الناس تعجباً منه صنوكم والحمد لله على ذلك.

ثم استمرت الهزيمة، وتوقفنا عند محل محطهم، ثم تبعناهم فما زال القتل فيهم والأسر إلى الليل، وكان قد جاء كتاب السلطان بطلب الأمان، ثم رأى طلائع القوم فخرج من هينن على وجهه هارباً إلى وادي الجعيمة، وصعد الجبل، ونحن بيتنا ليلتنا وتبعنا أثرهم عادلين عن هينن إلى أن انتصبنا إلى شبام وهي مدينة كبيرة لكن عليها أثر الضعف بسبب توالي أيدي الجايرين، وفيها جامع عظيم، وحولها نخيل واسع، وأنهار ومزارع أكثرها لآل كثير، فإنهم قد استولوا على البلاد مُلكاً ومِلكاً، وجاءت مكاتبة أخرى من السلطان بطلب الأمان فوضع له أماناً وانتقل سيدي حماه الله من شبام إلى سيئون وكل الطريق إليها بين النخيل والآبار والمزارع (كلها متصلة) ما إن ثم إلا ممر الطريق، وسيئون هذه مدينة عظيمة، وحول كل مدينة من القرى شيء كثير وعلى الجملة فوادي حضرموت هذا وادي عجيب وسيع رحيب عريض طويل كله عمارات ومزارع ونخيل متصل من شبام إلى المسفلة وهي حد المهرى، وهو مسير ثلاثة أيام للمكتب النهاض من الشروق إلى الغروب، وفي سيئون جامع ومساجد أخرى، وفيهن أوقاف ووظايف وكل أهلها بل أهل حضرموت فقراء ضعفاء، وما بقى فيهم إلا من له تمسك بأحد من آل كثير وقد أهلكتهم المعاملة بالربا، والاستمرار على فعل الحياء بحيث أن الشريعة إنما هي عندهم التفاف واسم على غير مسمى. وتم بعد ذلك وصول السلطان وظهر منه الندم وأنه محمول من آل كثير على ما فعل، وصدر الآن إلى الحضرة، وبعد شريف السلام، وهذه أمور قد مضت وانقضت ولكن أحببت أن أصف بعض الحال وشريف السلام ورحمة الله وبركاته.

100 / 116
ع
En
A+
A-