ونود الإشارة إلى أن الرحلة قد تم تحقيقها -قام بنشرها الباحث المصري مراد كامل- لذا اكتفيت بتثبيتها دون الدخول في تحقيقها توخياً للأمانة العلمية، والحفاظ على متن المخطوطة دون اسقاط أي حدثٍ منها.
وستغني هذه الرسالة المكتبة اليمنية بالعديد من أسماء القرى والمدن وأسماء الأعلام.
وما قمنا به من عمل متواضع، مثلته هذه الدراسة التي بين أيدينا، نأمل أن يكون سنداً للباحثين في التاريخ اليمني الحديث، كما ونرجو أن تكون علامة مضيئة يهتدي بها كل قارئ يهتم بمعرفة تاريخ هذا البلد العظيم بلدنا اليمن.
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين رب يسر وأعن. الحمد الله القيوم على خلقه بلا مراس، الموجود فلا حد لوجوده ولا قياس، الذي لا يدرك بالحواس، ولا تحيط به الأكوان ولا تحله الأنفاس، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إلى الجنة والناس، الذي أنزل عليه الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، صلى الله عليه وعلى آله المطهرين من الأرجاس، وأشهد أن علي بن أبي طالب خليفته بالدليل الذي لا شك معه ولا إلباس، وأن الإمامة في ولده بالإجماع الذي عليه كافة الناس، وأنهم قرناء الكتاب والشهداء على الناس.
وبعد: فإنه حداني محبة العترة النبوية كما أمرني رب البرية، وجاءت به الآثار المصطفوية أن كتبت جملاً من وسيع سيرة مولانا وإمامنا ومجدد عصرنا، والمشبه بموسى الكليم فينا، بإهلاك الله سبحانه على يديه عدونا، ونفيه الذل عن أعناقنا، الإمام الأعظم، وحجة الله على أهل عصره من الأمم، المنصور بالله أمير المؤمنين القاسم بن محمد بن رسول الله -صلوات الله وسلامه على روحه الطاهرة في الدنيا والآخرة- ولما كان بركته فينا وخليفته علينا بالحجج الباهرة والأدلة الظاهرة ولده الإمام الكامل، والخليفة العادل، المؤيد بالله أمير المؤمنين محمد بن أمير المؤمنين-صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين-. فألفت لذلك كذلك جملاً من سيرته، وزبداً من فوائد دعوته، ونبذاً من غرائب ما أعطاه الله من بعض الوصف لصفته. فلما قبضه الله إليه واختار له ما لديه مقبولاً عمله، مشكوراً سعيه، محموداً فعله، بعد أن أظهر حجته وأعلى كلمته، ونشر دعوته، فأظلمت على أهل الإسلام معالمهم فماجوا ، وتعتع أهل الأمان فهاجوا ، وأشفقوا من الخلاف المفرق وطاشوا وعاجوا، وكان مولانا السيد الأفضل، والعلم العلامة الأطول، ربي حجر الخلافة النبوية، ورضيع أخلاف الدوحة العلوية، صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين -أطال الله بقاه- في مقام أخيه الإمام، وشقيقه الهمام، فرع العيون إليه، ولمقامه رضى أن يكون وإن خالف الأقلون حفظاً للموجود وصيانة للحدود، وإن الحال[1/ب] المعهود فبايعوه وشايعوه عقب الزوال من يوم الخميس في سابع وعشرين رجب الأصب سنة أربع وخمسين وألف[6ديسمبر
1644م] بمنزل الإمام -عليه السلام- الشرقي من داره الطاهرة من سعدان ومحروس شهارة -عمرها الله بالتقوى-، ولم يعرف حينئذٍ وفاة الإمام إلا الخواص وهم: مولانا السيد العلامة شرف الدين الحسين بن أمير المؤمنين المؤيد بالله، ومولانا العلامة الفاضل صارم الدين إبراهيم بن أحمد بن عامر بن علي ، والسيد العلامة الطاهر التقي عبدالله بن أحمد بن إبراهيم القاسمي الشرفي ، والسيد العلامة حسام الدين ناصر بن محمد بن يحيى المعروف بصبح القاسمي الغرباني ، والسيد الزاهد العلامة محمد بن شرف الدين الحمزي الكحلاني ، والسيد الكبير الأعلم شرف الدين الحسن بن محمد بن علي بن صلاح القاسمي الشرفي ، والسيد الحبر العلامة شرف الدين الحسن بن علي بن صلاح القاسمي العبالي ، والسيد العلامة المتقن ضياء الدين عز الدين بن دريب بن مطهر السليماني التهامي والسيد العالم الكبير الحسين بن محمد بن علي الحسني الحوثي وغيرهم.
ومن الفقهاء سيدنا القاضي العلامة في كل فن، ولسان أهل الحق في قطر اليمن، شمس الدين وقميطر علوم آل طه، أحمد بن سعدالدين بن الحسين بن محمد المسوري -أطال الله بقاه- والقاضي العلامة الفاضل جمال الدين علي بن سعيد الهبل الخولاني ، والقاضي العالم الأكمل، والمعول عليه في ما أشكل، صلاح بن نهشل الذنوبي الحجي ، والقاضي العالم المجاهد شرف الدين الحسن بن علي بن صالح الأكوع ، والفقيه العالم الفاضل عماد الدين أبو المساكين يحيى بن محمد بن حسن حنش أمين مال المسلمين، وولده العلامة شرف الدين الحسين بن يحيى وغيرهم من الفضلاء. ثم انتقلوا إلى الإيوان الكبير المنصوري الغربي وقد ظهر للناس وفاته-صلوات الله عليه- فهم يموجون حيرة ويصيحون حسرة، كما يقول السامع إن القيامة قد قامت، ولقد رأيت كثيراً يسعون لغير مقصد، وأخبرني غير واحد أنهم رأوا مثل ذلك واتصل سماع الأصوات بجبال الأهنوم فاجتمع عيون الأهنوم من السادة والفقهاء والمشائخ وغيرهم إلى شهارة قبل الطفل آخر ذلك النهار والبيعة مستمرة يقتدي الآخر بالأول، وكانت لبلاد شهارة والظواهر والمغرب إلى بلاد صعدة وجهات المشرق نحو الشهر.
نعم! ولما فرغ مولانا أحمد من صلاة المغرب وقد قام لجهاز الإمام -عليه السلام- من قام من الفضلاء، كسيدنا الفقيه[2/أ] العالم عزالدين محمد بن ناصر الغشمي وغيره من الخواص، فبعث مولانا أحمد -أطال الله بقاه- كتبه مضمونها الإعلام بوفاة الإمام -عليه السلام-، وما توجه عليه من القيام ووجه بها الرسل في الليل، وكان أولها إلى مولانا أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- وإلى مولانا محمد بن الحسن-أيده الله- ثم إلى سادتنا إلى صنعاء، ثم إلى صعدة ثم إلى كل جهة، وترى الطرق كلها سعاة، وسبحان مقلب القلوب، فإني أقسم بالله صريح قسم، لا صريح خط يُعلم، ما رأيت كبيراً ولا صغيراً، ولا عالماً ولا متعلماً يقطع على تمامها أو يعتقد التزامها، أو لم يشرط عند طلبها ما لم يلزمه من أحكامها، إما ديني أودنيوي، وإنما يقول كل واحد إنما رأيناه عسى ينتظم بها أمور الناس، وتقربها الأمور على معهود الأساس، إلا أربعة من العيون المذكورين أظنهم والله أعلم قطعوا على التمام وإنها نفع للإسلام والله اعلم.
ومن عجيب ما رأيت بعض بعد صلاة المغرب وقد ملت إلى جنب جدار الإيوان، فقعد إلى جانبي أحد العلماء المذكورين، فقلت له: يا سيدي قد ورد أن بعض أهل الكتاب الأول قال: (ما كنتم يا معشر العرب إذا هلك أمير تأمرتم بآخر ما زلتم بخير) رواه العامر بن مسلم، فقال لي: وا عجباً لك ترى هذا الأمر يتم؟ فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: لا يأتي جواب بتمام من جميع البلاد أو ما ترى الحاضرين ومقالهم فكيف بمن غاب! ولكن والتفت إليه مولانا أحمد، وقال: الله يعينه الله يلاطفه فقد وقع في ورطة! أو كما قال. ثم قال أيضاً: إذا جعل له لقباً، فليقل المُفوّض إلى الله! وهو حينئذ (لم يكن قد كتب) اسمه في قليل أو كثير، فكان كما قال: من خرج من شهارة ما عاد إليها!.
[دعوة المتوكل على الله إسماعيل]
ثم وصل الخبر بدعوة مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وخليفة الصادق الأمين، المتوكل على الله العزيز الرحيم، إسماعيل بن أمير المؤمنين-أيده الله تعالى- آمين.
فازداد ذلك وتقّوى الخلاف كذلك، وظهر من الجمهور ما أضمروه وكثر، حتى لم يبق في شهارة المحروسة بالله تعالى إلاَّ من لم يجد سبيلاً إلى الخروج إما رهبة أو حياءً من اسم الهرب.
وصار من في شهارة المحروسة بالله إلى اجابة مولانا-أيده الله تعالى- متفقين الكلمة، وإنما اختلفوا في كيفية المخرج، وكان كل واحد يستدعي صديقه أو أصدقاؤه ولا هم لهم إلا الخلاص، ثم استوحش منهم مولانا أحمد فازدادوا نفوراً، وامتنع الأكثرون من نائله إما استقلالاً وإما شكاً، وقد صار معظم عسكره في صنعاء المحرسة بالله. وقد مد من أجابه بالمال، وأما الرجال فلم يقف أحد على رأيه[2/ب] وكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والدخول في هذه البيعة والخروج منها لم أر أحداً رجع فيهما إلى الشرع أو إلى فتوى عالم، وإنما الناس يدخلون كما تقدم ويخرجون كذلك.
نعم! فقد حصل من سياق هذه المقدمة صفة بيعة مولانا صفي الدين -أطال الله بقاه- ودعوة مولانا أمير المؤمنين -أطال الله بقاه-، وكان مولانا -عليه السلام- في حصن ضوران المحروس بالله، بعد أن طلع من تعز العدنية وجهاتها ومولانا عز الإسلام محمد بن الحسن-أطال الله بقاه- في محروس مدينة إب فأما الإمام -عليه السلام- فإنه لما وصله الخبر بوفاة الإمام [المؤيد] -عليه السلام- عقب الزوال من يوم الأحد سلخ رجب الأصب، أو غرة شعبان عام أربع وخمسين وألف[1644م] عظم عليه الخطب، وحل لديه الكرب، فدخل منزله وخلى بنفسه، وطفق ينظر في أمره وقد رأى أن دعوة صنوه الصفي غير راجعة إلى شروط الإمامة المعتبرة، وإنما مركزها النظر في الحادثة، وعظم عليه الشقاق والوفاق وأن الإمامة من أصول الدين واستمرار التكليف بها إلى يوم الدين، ولا عذر عن التزامها لجميع المكلفين. فقام لذلك وقعد، وأتْهم وأنجد، وحلّ وعقد، وقد اجتمع إليه العيون من العلماء الفضلاء، فيهم سيدنا القاضي العلامة الحَبْر الفهامة وحسنة الدهر صارم الدين إبراهيم بن حسن العيزري الأهنومي ، والقاضي العالم المحقق عزالدين محمد بن صلاح السلامي ، والقاضي العلامة صلاح الدين بن علي الوشاح الحاكم الآنسي ، وغيرهم، فنصوا عليه، ووجهوا أمر الخلاقة إليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الدليل على استحقاقه المقام بما هو كالضياء من الظلام، والله المُوفق والمُسَدّدُ.
[دعوة محمد بن الحسن]
وأمَّا مولاي العزي محمد بن الحسن -حفظه الله تعالى- فإنه لما بلغه وفاة الإمام -عليه السلام-، ودعوة عمه الصفي كما تقدم اجتمع إليه عيون من السادة والفقهاء، وعولوا عليه في القيام فأجابهم وأنشأ دعوة مشروطة، لعلها في يوم الاثنين شهر شعبان، إن لم تتقدمه [دعوة] أولى ونأتي بها إن شاء الله عند ذكر تعارض الدعوات.
وأمَّا صعدة المحروسة بالله تعالى وجهاتها فإن السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عزالدين المؤيدي لما بلغه وفاة الإمام -عليه السلام- أنشأ دعوته في العُشّة من أعمال الحقل وحضرها جماعة من الفضلاء، ونأتي بها إن شاء الله كما تقدم.
فحصل من هذا أن الدعاة أربعة في قطر واحد، ومذهب واحد، وبصحة إمامة مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وخليفة كتاب رب العالمين، ورسوله الأمين المتوكل[3/أ] على الله العزيز الرحيم، يعرف الحق ويظهر الصدق:
وكيف يصح في الأذهان شيء .... إذا احتاج النهار إلى دليل
فصل: والدليل على إمامة مولانا أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- استكمال شروطها بالإتفاق من أهل عصره، وممن تقدمه وتأخر عنه من الدعاة، فإن من تقدمه مولانا أحمد ومولانا إبراهيم فعذرهما عدم عِلمهما بدعوته الجامعة وإمامته النافعة، وللحادثة وتباعد المسافة، ومعنى إجماعهما على إمامته أنهما لم ينفياها لنقص فيه، وإنما حجة كل واحد منهما التقدم عليه، وتنقطع حجتهم بما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحصل الإجماع فيه منهما والخلاف فيهما منه ومن غيره والله أعلم.