الكتاب : تحفة الأسماع والأبصار المؤلف : المطهر بن محمد الجرموزي |
الإهداء
إلى التي كان لها دورٌ عظيم في أن ترى هذه الرسالة النور... زوجتي الغالية
(أم خلدون)
مقدمة
إن الصلة بين الماضي والحاضر صلة حميمة، فلولا ذلك الماضي لما كان هذا الحاضر، ولهذا حاولت أن أفتش في ذلك الماضي، عندما راودتني العديد من الموضوعات لاختيار موضوع دراستي في التاريخ الحديث والمعاصر، ومن خلال مسحة لتاريخ اليمن الحديث وجدت أنّ هناك ثغر تمثلت في فترة زمنية هامة من تاريخ بلادنا وهي فترة ما بعد الخروج العثماني الأول من اليمن، فترة توحدت فيها الأرض اليمنية، وكان لها شأن عظيم بين الدول المجاورة، والدولة الإسلامية والأروبية.
هذه الفترة كانت بين الأعوام[1054هـ-1087هـ/1644-1676م] وهي فترة لم يتطرق إليها العديد من المؤرخين، إلا عبر كلمات قليلة جاءت بين السطور، وبناء عليه قررت استقاء موضوعي من خلال المخطوطات التأريخية، لأن ما كتب عن الفترة لا يمثل إلا قطرات في بحر واسع.
وبعد البحث في المخطوطات التاريخية والتي اطلعت عليها في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، وجدت ما أصبوا إليه في مخطوطة تحمل اسم (تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار) للمؤلف مطهر بن محمد الجرموزي (ت1077هـ/1666م).
إن تلك المخطوطات والتي ترقد في مكتبة الجامع الكبير وبعض المكتبات الخاصة التي تمثل تراثاً وطنياً، وهو بالطبع يعد جزء من تراث الأمة العربية الإسلامي.. ولذا وجب التعرف عليه واحيائه عبر جمعه وتدوينه، ومن ثم تحقيقه ونشره ليكون في متناول الجميع.
وتكمن الأهمية الزمنية للمخطوطة بأنها أرخت لفترة استقل فيها اليمن بعد خروج الأتراك الأول (1045هـ/1635م) وصولاً إلى توحيدها في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وتبرز أهمية المخطوطة أيضاً في دقة معلوماتها وشموليتها، إلى جانب أن مؤلفها كان شاهد عيان لأحداثها؛ بل وأكثر من ذلك قربه من الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
وهناك بعض الكتابات التي أرخت لهذه الفترة مثل يحيى بن الحسين في مؤلفه (بهجة الزمن في حوادث اليمن) وعبدالله بن علي الوزير في مؤلفه (تاريخ الحلوى وصحائف المن والسلوى)، إلاَّ أنهما لم يكونا شاهدا عيان كمؤرخنا، أيضاً هناك بعض البحوث والدراسات تناولت فترة حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل، مثل ما نشرته الباحثة السعودية سلوى سعد الغالبي والتي نالت درجة الماجستير في بحثها عن الإمام المتوكل على الله إسماعيل ودوره في توحيد اليمن، وقد أشارت إلى أن مخطوطتنا كانت العمود الرئيسي في موضوع دراستها، إلاَّ أننا نرى أنها لم تستفد منها كثيراً، كما كانت استقت منها معلوماتها بعلاتها دون تمحيص أو تدقيق.
ولقد أعطت المخطوطة صورة متكاملة لتلك الحقبة الزمنية من تاريخ اليمن المستقل.
ورغم أن المؤرخ الجرموزي، كان منحازاً للأئمة، كما يتضح من تلك العبارات التي ترد في المخطوطة من خلال تهجمه على الأتراك، إلاَّ أن ذلك لا ينقص من أهميتها ولا يؤثر على محتواها فهي تحتوي على تاريخ مفصل لفترة من أهم فترات تاريخ اليمن الحديث، فإلى جانب اهتمام المؤلف بالتطور السياسي حينذاك فإنه تطرق إلى ذكر النواحي الإجتماعية والإقتصادية كما أنه رصد النهضة العلمية التي شهدتها الفترة ويتجلى ذلك في ذكره العديد من العلماء والفقهاء الذين ساهموا في النهضة.
ونلمس أهمية المخطوطة بالنظر إلى ما قدمته لنا في صورة واضحة عن العلاقات الخارجية التي تربط اليمن بالأقطار العربية والإسلامية. حيث وثقت لتلك الرسائل التي تبودلت بين الإمام والأشراف في مكة واليعاربة (سلطنة عمان حالياً) وكذا الدولة المغولية (الهند) وغيرها.
أما النسبة لمؤلف المخطوطة فهو المطهر بن محمد بن أحمد بن محمد المنتصر الهدوي الجرموزي، ولد سنة (1050هـ/1595م) في بني جرموز من بني الحارث شمال صنعاء.
ولقد عايش مؤرخنا الإمام القاسم محمد (ت 1029هـ/1619م) وابنيه المؤيد بالله محمد بن القاسم (1054هـ/1644م) والمتوكل على الله إسماعيل (ت 1087هـ/1676م).
وتبوأ مؤرخنا مناصب عليا في الدولة القاسمية، في مجال القضاء كان آخرها أيام المتوكل على الله إسماعيل حيث شغل منصب قاضي في (عتمه).
ولقد كتب ثلاث سير تناول فيها حياة القاسم وولديه كلِّ على حده، وهذه السير تعد تاريخاً هاماً لفترة هامة، من تاريخ بلادنا، فترة نضال ضد الأتراك وخروجهم منها، وصولاً إلى توحيد اليمن تحت حكم الإمام المتوكل، وقد أفردت في دراستي التمهيدية وبشكل موسع ترجمة عن المؤلف (مولده. نشأته. مؤلفاته. وفاته. ومنهجه في الكتابة).
ولقد اعتمدت في تحقيقي للمخطوطة على أربع نسخ وهي:
1- نسخة المكتبة الغربية في الجامع الكبير وقد أشرت إليها في الرسالة بالرمز(أ).
2- النسخة الثانية وهي موجودة أيضاً في المكتبة الغربية في الجامع الكبير ورمزت إليها بالرمز (ب).
3- نسخة مكتبة الأحقاف بتريم وأشرت إليها بالرمز (ح).
4- نسخة الفاتيكان وأشرت إليها بالرمز (ف).
أمَّا بالنسبة لنسخة الوالد القاضي محمد القاسم الوجيه فقد إكتَفيتُ بالإستئناس بها وقسمت الدراسة إلى قسمين:
القسم الأول: واشتمل على الدراسة التمهيدية، والتي تناولت من خلالها ترجمة عن حياة المؤلف، ونسبه، مولده، نشأته، مؤلفاته، فمنهجه في الكتابة.
اتجهت بعدها لمعالجة المخطوطة ببيان أهميتها واستعراض محتوياتها بكافة جوانبها السياسية والإقتصادية وكذا النهضة العلمية.
ثم تطرقت إلى المخطوطة، وكيف تم البحث عنها، واختيار النسخة الأم، وعرض الأسباب في اختيار هذه النسخة دون غيرها مما وقع بين يدي من نسخ لهذه المخطوطة، يلي ذلك تفصيل لكل نسخة من هذه النسخ عبر عملية وصفية لكل واحدة منها.
وخلصت في نهاية دراستي التمهيدية إلى منهج النشر الذي اعتمدت عليه أثناء تحقيقي للمخطوطة.
القسم الثاني: وأمَّا بالنسة لهذا القسم، فقد ضم تحقيقاً للمخطوطة، عمدت من خلاله تناولها بالتحقيق العلمي المتعارف عليه أثناء عملية البحث والتحقيق لكل ما ورد فيها ويتضح ذلك جلياً في هوامش النص.
وذيّلت الدراسة بعدد من الملاحق احتوى الملحق الأول على جدول توضيحي لأسرة الإمام القاسم بن محمد، فيما احتوى الملحق الثاني على أسماء الكتب التي ألفها الإمام المتوكل على الله إسماعيل ويأتي بعدها ملحق ثالث يضم أشهر الألقاب التي وردت في المخطوطة.
أما الملحق الرابع فقد خصص لخريطتين تفصيليتين للدولة اليمنية في عهد المتوكل.
وفي الأخير لابد أن تجد آيات الشكر والعرفان طريقها إلى من استحقها فنكران الجميل جحود والمقدم عليه لا يفلح.. وهنا أوجه الشكر العميق- مع علمي بأني مهما قلت في هذا الخصوص فسأبقى عاجزاً عن الإنصاف- إلى الأستاذ الإنسان صاحب الفضل الأول والأكبر عليَّ أستاذي الفاضل المشرف على الرسالة الدكتور/ حسين بن عبدالله العمري. والذي لولاه ما كان لرسالتي أن ترسو واثقة مطمئنةً كما هي بين يدي القارئ. فله مني التحية والإجلال.
ولا أنسى أيضاً من تقديم شكري وتقديري للأستاذ الدكتور/ سيد مصطفى سالم الذي مد يد العون والمساعدة، ولم يبخل عليَّ بالنصيحة والمشورة طيلة فترة عملي في الرسالة.
ولا أنسى كذلك أهل بيتي الذين تحملوا معي عبء الحياة لترى هذه الدراسة النور.كما لا يفوتني أن أشكر كل أخ وصديق على كل ما قاموا به من مساعدة عند إعداد هذه الرسالة.
وفي الختام أرجو من الله العلي القدير أن أكون قد وفقت في دراستي هذه، وأملي أن تكون سنداً للباحثين والمهتمين في التاريخ اليمني الحديث.. وإن كان هناك ثمة قصور. فحسبي أني أديت ما استطعت إليه سبيلا، والكمال لله سبحانه وتعالى.
والله ولي التوفيق ،،،
عبدالحكيم عبدالمجيد الهجري
صنعاء: في 25/3/1997م.
الدراسة التمهيدية
ترجمة المؤرخ: المطهر بن محمد الجرمزي
تمهيد:
مثلت الفترة التاريخية للوجود العثماني الأول في اليمن(1538-1635م) مرحلةً هامةً في التاريخ اليمني الحديث، حيث ارتبطت تلك الفترة بأحداثٍ سياسيةٍ، نتيجة تصادم العثمانيين باليمنيين، وخاصة (بالأئمة الزيديين، والذين تمكنوا بالتالي من قيادة الثورات الوطنية حينذاك ضد العثمانيين، مما ساعدهم في النهاية على أن يلعبوا الدور الرئيسي في تاريخ اليمن) .
ونشطت نتيجة للأوضاع السياسية الناجمة عن هذا الصراع، حركة التأليف التأريخي آنذاك، حيث صاحب ذلك التصادم نهضة فكرية وثقافية: (إذ كان من الطبيعي أن يشترك القلم في المعارك القائمة حينذاك، وتظهر كتابات ومؤلفات) أسهمت في رصد وقائع الأحداث -في الحرب والسلم على السواء- وبالتالي فقد شكلت تلك المؤلفات، مصدراً هاماً، يستند إليه كل من أراد التأريخ لهذه الفترة، ويعّول على مصداقيته باتجاه طرح رؤاه وتحليلاته عنها.
تلك الكتابات والمؤلفات لم يزل الكثير منها مخطوطاً يرقد في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، وغيرها من المكتبات العامة والخاصة، وهي بلا ريب تمثل تراثاً وطنياً ثرياً، ينبغي الكشف عنه وجمعه والتعريف به في فهارس وصفية منظمة، ومن ثَمْ تحقيقه ونشره ليكون في متناول الجميع، وبالذات المهتمين بقضايا التراث دراسة وتحليلاً.
من ذلك الكنز الكبير من المخطوطات (تُحفة الأسماع)-موضوع دراستنا- كواحدة من النماذج لمؤلفات ذلكم العصر، للمؤرخ المطهر بن محمد الجرموزي، باعتباره أحد المعاصرين لفترة نشوء الدولة القاسمية، على يد مؤسسها الإمام القاسم بن محمد (ت1029هـ/1619م)، إبّان الإحتلال العثماني الآنف الذكر.
وتُعَدُّ (تحفة الأسْمَاع والأبصار) واحدة من ثلاث مؤلفات -سيأتي الحديث عنها- للمؤرخ الجرموزي، تناول فيها التأريخ لسيرة الإمام القاسم محمد، وسيرة كلٍ من ولديه الإمام المؤيد بالله (ت1054هـ/1644م)، والإمام المتوكل على الله إسماعيل (ت 1087هـ/1676م)، وهو بذلك يكون قد استوفى التأريخ لفترة عُدَّت من أهم فترات التأريخ الحديث للدولة اليمنية.
ونستعرض في ما يلي بالشرح والإيضاح، ترجمة الجرموزي، مستقصين أخباره مما وقفنا عليه من مصادر، نورد فيها نبذة عن حياته وسيرته.