لا يجوز لصاحب المنصورة فعله، فأجابوا عليه بأن ذلك كما قال، وإنما غلب هذا الرجل للأمر المحال، وتكليف الناس ما لا يطاق ولا يكاد ينال. ووافق هذا أيضاً بعض أولاده وإخوته الذين هم: عبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن، وعمه إسحاق بن أحمد بن الحسن، وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن، وعلي بن حسين بن أحمد بن الحسن مع ما جرى أيضاً من التوعد لهم من صنوهم والمناقضات في الولايات. وكان من المقدور أن عبد الله ولده تراخى عليه سبار العسكر الذين عنده بقعطبة فكاتب والده بحاجة الناس إلى المصروف. وأن منهم[147/أ] من قد هرب من حضرته، فلما وصل الرسول إليه تهدده، وقال: المصروف قد صرنا في جمعه، ولكن عبد الله لا بد من مؤاخذته، وسأصنع به وأصنع، وأفعل من النكال ما يراه أفظع، وهذا الزنجير الكبير -وأشار إليه- قد أهبته له، وأنت -يشير إلى الرسول- لك الزنجير الصغير. فلما بلغ ولده عبد الله هذا الكلام، وما هو بانٍ عليه من النكال والخصام، مع ما قد رأوه مما جرى مع صنوهم حسن من الحبس الطويل قال: هذا من تكليف ما لا يطاق، وكيف وهو يريد استفتاح جبال يافع، فما مراده إلا إلقاؤهم إلى التهلكة، مع عدم الرعاية والوفاء. وزاد اتفق أنه جهز ولده إسماعيل إلى جبلة وجعل أمرها إليه، وعبد الله هو الذي فتحها واستولى عليها، فقال لسان حاله وإسراره: أصبح قيامه معه لا دين ولا دنيا، وأظهر الندم والاستغفار عما وقع منه في جبلة وما جرى. وكاتب يوسف وقال هو الأولى بالاتباع، وأجابه. وكذلك إسحاق وعبد الله بن يحيى، وعلي بن حسين، وأما إبراهيم بن أحمد بن حسن فهو قد باينه من قبلهم، فاجتعموا على هذا، وارتفع عبد الله من قعطبة إلى إب. فلما وصلت كتبهم إلى يوسف أظهر الدعوة، وكاتب إلى صنوه الحسين بن المتوكل صاحب صنعاء وجزموا بالخلع للمذكور، فخلعوه وخطبوا ليوسف بصنعاء وذمار وضوران وإب. وجاءت كتب يافع بالإجابة ليوسف، فكان هو السادس من الإمام القاسم،
وكل سادس مخلوع في الغالب. ووافقهم يحيى بن محمد بن الحسين أيضاً. واختلف أهل صنعاء فيما بينهم وتخوفوا من جانب صاحب المنصورة، وقالوا: لا يحصل عليهم منه انتصار، فيحصل ما يحصل من الخلل، وقد يحصل من أولاده وإخوته انتقاض فيما فعلوه من الإجابة ليوسف، فصاروا في حالة عجيبة، وقد كان شد أهل جبلة بحللهم من جبلة خشية لا يقع فيها مثل العملة الأولة، وكذلك بعض أهل ذمار رحلوا عنها، فعند أن بلغه هذا الحادث بقي في حالة عجيبة وتغير مزاجه وتحدث بالخروج من المنصورة، وجعل للعسكر الذين عنده زيادات في الجوامك ومن دخل معهم، وصار المذكور يقدم رجلاً ويؤخر أخرى؛ خشية من خلاف يافع وابن شعفل وأطراف الحجرية. وعند ذلك أرسل ولداً له صغيراً يسمى محسن بجماعة إلى ذي أشرق، وهو في ولاية صنوه إسحاق، فتلقاه بالحرب والمنع عن دخول بلاده، فوقعت الهزيمة في أصحاب الناصر وانتهبوا السلاح وأسروا جماعة ومن جملتهم ولده محسن، ثم أرجع محسن إلى عند والده. فأطبقت البلاد إلى تعز [148/أ] ليوسف، وازدادت الحيرة مع الناصر في منصورته، وعند ذلك تابع حسين بن المتوكل الإمداد بالعسكر إلى ذمار وإلى عند عبد الله بن الناصر وإسحاق، فتقوَّت أيديهم. وكان قد أرسل الناصر والياً إلى حراز ووالياً إلى الحيمة، فمنع عن ذلك حسين بن المتوكل وجهز جماعة عسكر، فأخرجوهم عنها. ولما حدث هذا الأمر كان حسين بن حسن ومحسن بن أحمد بن الحسن باقين على إجابة صاحب المنصورة. بعثوا بطائفة من عسكرهم إلى بعدان ، فخرج عليهم عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن فاحتربوا فيه وهزموهم وقتلوا منهم واستولوا عليهم. وكان من جملة القتلى ولد مسمار من أصحاب حسين بن حسن، ثم إن حسين بن حسن عوض بطائفة من عسكره رئيسهم ولده قاسم بن حسين، فوصلوا إلى إريان ما بين بعدان وسمارة ويريم وسكنوا فيها، لمَّا لم يجدوا مدخلاً إلى بعدان، فتلقاهم في إريان علي بن حسين بن أحمد بن الحسن، وعبد الله بن يحيى
وعبد الله بن الناصر ووقع الحرب الشديد، فاستولوا عليهم أجمع وأسروهم وقتلوا منهم وانتهبوا جميع محطتهم، وقبضوا ولد حسين بن حسن: القاسم بن حسين ، وعند هذا ذكر رجل مجنون: هذا صاحب المنصورة قد كان سبرت له، لكنه ما أحسن لنفسه. [148/ب]. والحمزة بن أحمد بن الحسن صاحب الغراس كرر الطلب لقبائل بني الحارث وهمدان على أنه يدخل بهم صنعاء، فمنعوا أنفسهم وقالوا: ما ندخل، ويحصل بسبب قبائلنا فيها الظلم للمسلمين، ولا ندخل بينكم أيضاً إلا من استقر عليه أحد واتفق الناس عليه من السادة والقضاة والعقال، فنحن مع الجماعة، فأصابوا وأحسنوا وما قصروا ووافقوا الشرع الشريف.
وفي هذه الأيام ظهر حيوان منكر قال الناس: إنه السبسب، فيه ضراوة، فضرَّ كثيراً من الناس، وأكلهم في النهار والليل من صدفه منفرداً، إلا أن يكونوا جماعة، في بني مطر وضوران وسنحان وقاع صنعاء، وقد قتل منها بنو مطر وسنحان اثنين، وفي طريق الغراس قتل واحد منها وبقي واحد منها في شعوب يدور، أكل صعباً بشعوب، وآخر بقاع صنعاء العدني، وظهر في بلاد حضور.
قال من رآه من الناس: وصفته أنه عريض الصدر، عريض الجبهة، دقيق الخرطوم، له أنياب ظاهرة، عريض الذنب، مسلوب من مؤخره، وكبره ما بين الضبع والكلب، إلا أنه أطول منها. وصار يثب لمن ظفر به إلى النحر ولا يأكل إلا بني آدم سلطه فالله يدفع ضرره وخوف كثيراً من الناس، وأكلت جماعة من الناس. وقد خرج هذا الحيوان في مدة محمد باشا في سنحان، وقتلوه تلك المدة، ثم لم يظهر إلى هذا التأريخ .
وفي ليلة سابع شهر صفر وقت العشاء خَرَّ نجم من المغرب إلى المشرق، فسمع له حركة من شدة خريره، سمعه كل الجهات، ورأوه كل يقول هو في جهته.
وفي نصف شهر صفر وصل الزوار من المدينة المشرفة فأخبروا أن حال دخولهم مكة جهز الشريف أحمد بن زيد ولده بعسكر كثير وخيل طريق تهامة التي إلى جهة القنفذة وحلي، ولا يعلمون أين قصدهم[149/أ].
وفي العشر الأخرى من صفر وصل الخبر أنه اتفق حرب في الجند ما بين إسحاق بن المهدي وحسن ولد صاحب المنصورة وصنوه محسن الذي كان أسره إسحاق، ثم أرجعه عند والده في الحرب الأول. وكان هذا الحرب الآخر في الجند، فانكشف عن قتل كثير من الجانبين، ثم كاد أن يغلب إسحاق ومن معه، فجاءت الغارة من حسين بن علي بن المتوكل ومن عبد الله بن محمد بن الحسن، فوقعت الهزيمة في أصحاب صاحب المنصورة، واستولوا على المحطة وأسروا الحسن وصنوه محسن مرة ثانية. وحضر أيضاً في الحرب علي بن حسين بن أحمد بن الحسن في جانب يوسف، ثم رجع كل إلى مكانه، وعند ذلك أذعن إسماعيل بن محمد بن أحمد بن الحسن بالمواجهة وهو في جبلة، لما رأى أن قد صار في حكم المحتاز في جبلة من جميع الجوانب من أعلى ومن أسفل إلى يد صنوه عبدالله، وشرط رجوعه إلى والده.
ووصلت كتب حسين بن حسن إلى يوسف بأنه يلتقي هو وإياه إلى بعض الطريق، ولعل يوسف لا يساعد، لئلا تكون خديعة. ومحسن بن المهدي كتب إلى يوسف أنه مجيب له بشرط ولاية حراز، فولاه حراز، وقال: يسكن برداع حتى يتم المشروط. وأرسل السيد صالح حيدرة لولاية حراز الذي رجع متسابقاً، فلما وصل إلى صنعاء وكان حسين بن المتوكل قد ضمن ليحيى بن محمد بأنه تكون حراز إليه، ويحيى بن محمد اضطرب عليه الحال، وقال يريد العزم إلى حراز ليحفظه، وكان إبراهيم بن المؤيد أيضاً قد دخل أطراف حراز فكتب حسين بن المتوكل إلى إبراهيم أنه يخرج من حراز ويهب له ولاية ثلث الحيمة، وسار يحيى بن محمد إلى حراز. وقال: إنه إذا دخله حفظه من جانب حسن بن المتوكل لا يستولي عليه، وقيل: إن حسن بن المتوكل يريد القصد إلى ملحان أيضاً، وهو في ولاية يحيى بن محمد.
[149/ب] وعلى الجملة إن الأمور في اضطراب، وقتال على الملك بلا شك، فالله يدافع بدفاعه ويسكِّن ثائرة هذه الفتنة التي عقباها عليهم وعلى المسلمين وخيمة.
وحال كتب الأحرف وصلت كتب إلى حسين بن المتوكل أن حسين بن حسن واجه إلى يوسف، واستكملت المواجهة والقبض على بني المهدي أحمد بن الحسن، وبقي صاحب المنصورة في منصورته وإخوته وأولاده قد خالفوا عليه وقبض على من قاتل معه ووقع في حرب الجَنَد القتل الكثير، قيل: نحو مائتين من الجانبين، وقيل: أكثر، فلا قوة إلا بالله. وكان أكثر من أجاش به صاحب المنصورة من الحجرية؛ لأن العسكر كانوا قليلاً عنده. ووصل محسن بن أحمد بن الحسن من رداع إلى ضوران مواجهاً، غير أنه قال: يتوقف حتى تستقر الأمور، ثم افتسح من يوسف إلى محله الغراس لافتقاد بيوت والده، فسار من ضوران ومر صنعاء تلقاه حسين بن المتوكل وأكرمه، ثم خرج إلى محله الغراس، وأرسل بعض عسكره إلى الجوف، لتغير حصل فيه.
ولقد غيرت هذه الدولة حالها، وسعت في خراب ملكها وأعزَّت عليها غيرها، وحصل خفضهم لما كان يرفعهم، وضرهم ما كان ينفعهم، وغاب عنهم من السعد والإقبال ما كان يحضرهم، وخذلهم من الكل ما كان ينصرهم، وانفتحت عليهم الأيام، وقلبت لهم وجوهها، وكشفت لهم مكرها، وأبرزت لهم مكروهها، وأغارت عليهم الغير، فسبتهم وسلبتهم، وغالبتهم فغلبتهم، وأذلت أنفسهم العزيزة، وهدمت معاقلهم الحريزة، وطمست على أموالهم المكنوزة، وصارت الدنيا عليهم بعد أن كانت لهم، وجعلت ظلهم هجيرهم بعد أن كان هجيرهم ظلهم، وانطفئ الملك وعفى السلطان، ومشى عليهم الدهر وجرى عليهم [150/أ]الزمان، وجاهرهم من استحالات الناس حالات، ومن تلونهم ألوان وتخلفات، شعراً:
والناس أعوان من والته دولته .... وهم عليه إذا عادته أعوان
والجرموزي السيد حسن الذي كان بالمخا سلم ما سلم من المال لصاحب المنصورة، وحمل باقي ما معه من المحصول وشد بخزانته وأثاثه من المخا طريق تهامة، وخرجت من بيت الفقيه طريق الحيمة حوائجه وجواريه إلى صنعاء، وهو بقي برأسه مرسماً به في المنصورة.
وجاء الخبر بثامن ربيع الأول أن مدينة تعز دخلها أصحاب يوسف وملكوها. وكان فيها من قبل صاحب المنصورة المتولي لها الشيخ ابن راجح الآنسي، وكا[ن] دخولها ولم يجر فيها قتال ولا انتهاب، وإنما حصل طرف قتال خارجها ما بين أصحاب يوسف وأصحاب صاحب المنصورة، وهو أن ولده إسماعيل كان بعد خروجه من جبلة سكن خارج المدينة، فقصده حسين بن علي بن المتوكل، وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن ومن معهم من العسكر، فاتفق طرف حرب، قتل من أصحاب إسماعيل ثلاثة، ثم انهزم إلى الدمنة، فعند ذلك واجه أهل تعز وتبع حسين بن علي ومن معه حتى بلغوا الدمنة. وإسماعيل ترفع إلى حصن هناك. وواجهت تلك الجهة أيضاً إلى حسين بن علي، وبعض الحجرية واجهوا إلى يوسف. وعند هذه الأخبار تحرك[150/ب] القاسم بن المؤيد صاحب شهارة، وقال: أما إذا كان الأمر هكذا وقد انتصب يوسف وهو حدث صغير السن فالأمر مشكل. وكان قد كاتبه صاحب صعدة علي بن أحمد وكان علي بن أحمد، قد انتصب للأمر في جهاته، وأنه لا بأس بالتراود هو وإياه على ما يصلح، ويريد أن يحصل الاجتماع بقاسم، وأنه يسلم له الأمر ويكونوا يداً واحدة، وقيل: أنه كاتبهم حسين بن حسن صاحب رداع، فالله أعلم ما يكون منهم.
ووصل إلى ضوران رسول من عبد الله بن الناصر أنه يحتاج من يوسف دراهم للعسكر، فقال للرسول: لم يكن معه خزانة ولا مادة، البلاد قد تقسمت.
وعند ذلك في عشرين شهر ربيع الأول سلم قاسم بن المتوكل صاحب ثلاء لصنوه يوسف. وزيد بن المتوكل سار من بلاد ريمة إلى تهامة، فاستولى على زبيد وواجه إليه. وكاتب صاحب المخا إلى يوسف.
وخرج الفرنج ببضاعة أدخلوا بعضها المخا ثم ركزوا في باب المندب لتلقي العماني وتجار عمان، فتحير النعمان عنهم[151/أ]. وزيد بن المتوكل بعد دخوله إلى زبيد سار إلى المخا، فدخله من غير قتال وقد كان الشيخ نعمة الله اللاهوري الذي ولاه الناصر في المخا فخرج منه. وجاء الخبر بأن حسين بن علي وإسحاق وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن قصدوا إلى جهة المنصورة. وكان إسماعيل بن الناصر بعد رجوعه استقر بحدود جبل المنصورة مما يلي الدمنة، فلم يشعر إلا بوصول الثلاثة بمن معهم من العسكر، فحصل الحرب فيما بينهم، وجاءت غارة والده من المنصورة، فوقعت الهزيمة في أصحاب يوسف. وكان الحرب في سوق السبت تحت المنصورة بأطراف الدمنة، فوقع القتل الكثير في المنهزمين من أصحاب يوسف. وانهزم حسين بن علي وإسحاق وعبد الله بن يحيى إلى الزيلعي وذي أشرق، واختلفت الأخبار في حسين بن علي وإسحاق فقيل: أنه وقع فيهم صوائب، وقيل: أنه استولى عليهما. وأما عبد الله بن يحيى فهرب، وكان هذا في آخر شهر ربيع الأول.
ومن العجائب أنه جاء خبر هذا الحادث قبل حصوله بنحو نصف شهر، ثم وقع كما قالوا.
وجاء خبر أنه خرج باشا إلى جهة جدة، وأن أحمد باشا الذي في جدة المتولي عليها معزول.
[151/ب] ووصلت كتب صاحب صعدة علي بن أحمد إلى قضاة صنعاء وغيرهم بأنهم يجيبونه في دعوته، وأن النية معه إلى الخروج إلى جهة اليمن من صعدة لتكون اليد له، وأن الناصر ليس بأهل، وأنه أراد أن يأخذ ذلك بالسيف، وحصل ما حصل بسببه وأمْرِه بجبلة من المقتلة المنكرة. وأن يوسف دعا إلى الرضا وأنه لا يصلح وأنه قد دعا إلى نفسه راضٍ لنفسه بما دعا غير مشروط بالرضا من غيره، فحصل الأمر العجيب من هذا الاختلاف، كلما أشرف السكون من جانب انتقض من جانب.
وجاءنا كتاب من علي بن أحمد هذا بمثل ذلك، وأنه استمد الرأي في ذلك بعد إبرامه، فكان كما قال الأول في المثل "ذرينا شعير مات شير"، فأجبت عليه بما معناه أن الأولى أن تكون أموركم مبنية على التسكين، وحفظ ما تحت يده من بلاده الأولة انتساباً إلى الأولين، وليكن الأمر من الجميع على طريق الاحتساب، لعدم كمال الشروط التامة، ولأجل يكون في ذلك الصلاح بتسكين ثائرة الفتنة، فإنه قد ذكر العلماء كالنجري من الهدوية في معياره، وعبد السلام من الشافعية في قواعده أن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وذكر الزمخشري في تفسير سورة الكهف أن الشرائع مصالح، وأن هذه المسألة كلها ظنية، وارتكاب المقطوع بالمظنون لا يجوز من القتل والقتال، وغصوب الأموال[152/أ] وأذية المسلمين. والمحافظة على بلادكم أولى من خروجكم. مع أن أحمد بن زيد صاحب مكة بلغ أنه جهز إلى بيشة ويخشى إذا خرجتم من اختلال بلادكم. وكان قد ساعد محسن بن المهدي صاحب الغراس بالولاء إلى جانب يوسف والخطبة، ثم لما بلغه هزيمة الجماعة في الدمنة رجع عن ذلك، وقال: هو متوقف في هذه الساعة حتى تقرر الأمور.
وقاسم بن المتوكل صاحب ثلاء خرج إلى طيبة وكاتب صنوه حسين بن المتوكل أنه يلقاه إلى هنالك لمفاوضة قواعده، فلما تراخى ترجح له عاد إلى ثلاء، ولأجل أنه بلغه خلاله ما حصل من الحادث في الدمنة من هزيمة أصحاب يوسف، وكذلك صاحب كوكبان قد كان تقارب إلى إجابة يوسف، فلما بلغهم ذلك توقفوا على الأصل.
وجاء بعض الكتب إلى بعضهم فذكر تحقيق الواقعة، قال: إن حسين بن علي بن المتوكل وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن وإسحاق صالوا على إسماعيل بن محمد الناصر بن المهدي أحمد بن الحسن وهو في موضع في الدمنة يقال له: (أم قُريش) جبل فيه قرى قريب من وادي الدمنة لم يكن بالمرتفع ديار بني السلمي. وأنه رتب أصحابه على الطريق في بيوت ومكامن، فلما طلع أول القوم بخيلهم صبت عليه البنادق من كل جانب والطريق في الوسط[152/ب]، فراح كثير من الخيالة، منهم الأمير فرج الذي كان مع علي بن المتوكل، ومنهم أحمد بن الفقيه ومحمد بن جميل الظليمي ومنهم ولد من أولاد الشيخ عامر الصايدي وسيد من بني الديلمي من أهل السر وكثير من أهل الخيل والعسكر، وكانت مقتلة، قيل: جملتهم نحو ثلاثين نفراً، وقيل: أكثر وأكثرهم من أهل الخيل؛ لأنهم أول القوم. وبقي إسماعيل في تلك الليلة في حكم المحاصر قدر أربعة أيام، ثم جاءت غارة عبد الله بن الناصر من قبل يوسف وهو كان في إب، فلما وصل اشتد الحصار على صنوه إسماعيل، فخاطب بالمواجهة وواجه لما قلَّ عليه وعلى من معه الماء والطعام، وأن عبد الله بن يحيى وقع فيه صائبة، وقيل: أنه هرب، وقيل: أن هذا حرب آخر غير الأول، وأن القتل الكثير كان في الأول في سوق السبت، وهذا بعده، ولما وصل عبد الله بن محمد مغيراً ترفع صنوه إسماعيل إلى الجبل وحاصره وواجه إليه، والله أعلم.
ولم يبق إلا صاحب المنصورة في أضيق من حلقة الفاس في منصورته، لم يخرج منها، فالله أعلم ما ينتهي الحال بينه وبينهم، فلا قوة إلا بالله.
[153/أ]وكان الناصر قد استعان بأهل الحجرية في هذا الحرب الحاصل فأجاشه صهره ابن مغلس بقومه من أهل الحجرية، فلما كثروا حصل ما حصل من هزيمة أصحاب يوسف. وكان قبل ذلك قد طلب منهم مهلة قدر شهر، فلم يحصل إسعاد، وصاروا هنالك متراكزين الآن، وقل المدد من عند يوسف ومن صنوه الحسين لما نفدت الخزائن وقلَّ المدخول معهم وضعفت الضربة معهم التي كان يمدون بها، حتى بلغ الحال معهم العجب في قل المدد؛ لأجل تفرق البلاد بينهم واختلاف آرائهم، لكن أهل اليمن قد استمدوا من البلاد اليمنية فيما احتاجوا له ما يكفيه عن الغارة.
وجزم محسن صاحب الغراس بالخطبة ليوسف، فخطب له الجمعة أول شهر ربيع الثاني، وظهر سبب ذلك أنه وصل كتاب من المنصورة إلى الحمزة صنوه بأن الولاية له، وأنه لم يبق لمحسن أمر، فحصل التغير مع محسن. وكتب الناصر إلى قبائل بني حشيش وبني الحارث وهَمْدان بأن الولاية للحمزة، والحمزة لما وصلت الولاية له توعد القاضي عبد الواسع الخطيب وخوَّفَه، فهرب القاضي وصار إلى صنعاء، ثم إن محسن دخل صنعاء يوم السبت عاشر شهر ربيع الآخر. ولم يتم لحمزة مراده. والضربة غيَّرها صاحب المنصورة، وجعل إلى ما كانت عليه في زمن والده أحمد بن الحسن. واستقر الضرب للقرش عنده منها للخمسة الأحرف، وصعدة كذلك غيروها، ولم تسلك فيها ضربة غيرهم أصلاً، ولأجل هذا وقل الضروب[153/ب]، والضربة في بلاد يوسف كسدت وفترت، ولم يبق فيها محصول كما كانت، ولم تبق ضربته إلا الشيء الحقير في بعض الأوقات، وصارت تضمحل وتصغر، حتى صارت البقشة الخمس بقشة صغيرة، بلغ صرف القرش إلى سبعة وعشرين حرفاً منها.