ولأن إذا بلغ الأروام اختلافكم خرجوا عليكم، وأزالوا هذه الدولة عنكم بأشر حال، كما فعلوه لأولاد مطهر بن شرف الدين لما اختلفوا. وقد كان بلغنا أنكم قد رجعتم عن ذلك، وقلدتم صنوكم الحسين بن المتوكل، ثم جاء كتابكم هذا بخلافه[129/ب]، وليس في هذه الدعاوى سكون الدهماء، بل هي عين المحركة للاختلاف والاشتجار، إنما السكون لو توقفتم جميعاً، وبقي كل منكم فيما إليه من البلاد التي قد ولاها المتقدمون على قول الجمهور: أن الولاية لا تبطل، ولا يشاجر أحد منكم الآخر في الزائد على ما تحت يده ومن ناب ولكل ولاء أمام فعله بلا نصب على الأصح فيما تحت يده. هذا هو تسكين الدهماء إن أردتموه، وإلا فهي سترجع بعد لمن غلب من القهر والغلبة -على قول أهل السنة والإمام يحيى والإمام شرف الدين - بعد مظالم وسفك دماء وانتهاك حرم وأموال ومآثم كبيرة. فلا حول ولا قوة إلا بالله. فإن تحب السعادة فلا تدخل في هذه الشبكة العظيمة، هذه نصيحة، ولا تغتر لمن يلفق لك الأقوال، واعتبر بمن مضى، فلم ينفعهم لا ملك ولا مال والسلام.
وأرسل حسين بن المتوكل إلى عند السلفي والي حراز يعينه ومعهم الأمير عبده الداعي، وأمره بالسكون[130/أ] في مناخة عند السلفي. وأما صنوه حسن فوصل أصحابه إلى الجانب الغربي من حراز من بلاد حَصُبان ، منعته القبائل ومنعت القبائل هذه الوالي من طلوعه. وحسين بن علي بن المتوكل أمر بخراب بيت لابن راحج؛ لأجل أنه سلم تعز لصاحب المنصورة، وفتح الباب لعسكره، فأشرف عليه صاحب العدين عبد الله بن يحيى بن محمد بن حسن الأحول من مغربة سد مَشْوَرة وإسحاق من الجبل الذي فوق جبلة للإرعاد عليه والإبراق؛ لأنهم إلى جانب صاحب المنصورة.
ووصل أصحاب صاحب المنصورة إلى مَيْتَم قريب جبلة، وعلى الجملة إن حسين بن علي صار في إب كالمحاصر. واستولى المذكور على جميع اليمن الأسفل بأجمعه، وأرسل على حسين بن علي خيله ورجله، وحسين بن علي قيل: إنه إذا اضطر واجه وسلم الأمر.
قال الراوي: ولعله يبلغ إلى اليمن الأعلى يريد أخذه بالسيف من غير مراعاة رضى، فصار الناس في حيرة مما يخشى من المعرة؛ لأنه ينضاف معه إذا طلع إلى ذمار القبائل فيحصل على البلاد المعرة، مع ضعف البلاد وغلاء الأسعار، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما مشائخ الحجرية الذين كانوا بالحبس عنده فإنه شدد عليهم وأطلعهم حصن الدملوة، لئلا يخالفوا عليه، واستمال من استمال من المشائخ الآخرين كالشيخ ابن مغلس صهره، وهو من كبار مشائخ الحجرية.
ووصل كتاب من محمد بن أحمد بن الحسن يذكر دعوته وتلقب بالناصر، وأنه أجابه قضاة تعز والقضاة بحضرته وأهل بلاده، وقال الرسول: لعله تهيأ للخروج من المنصورة، واستخلف ولده عبد الله فيها، وأن قد ألزم بالضيافة في الجَنَد، وهذا لفظ جوابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصنو الجليل النبيل سليل الآباء الأكرمين، عز الإسلام والمسلمين[130/ب] محمد بن أمير المؤمنين حفظه الله وأهدى إليه شريف السلام ورحمة الله وبركاته. وأنه وصل كتابكم لما بلغكم من وفاة المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والله يتلقاه بالرحمة والغفران، ويحسن خلافته على جميع أهل الإسلام. وذكرتم انتصابكم بعد بلوغ خبره وبث رسائلكم إلى الجهات، والله تعالى يصلح الأحوال، ويجمع الكلمة على الخير في الحال والمآل، ولكن الأمور قد انتثرت في هذا البلاد العليا، وادعى هذا المنصب جماعات مما صرنا وغيرنا في حيرة عظيمة منها؛ لأنه يحصل بسبب الاختلاف شجارات تفضي إلى القتال، وعدم سكون الدهماء فيما بين هؤلاء الجماعات مما بسببه الخلل على المسلمين وانتهاك الحرمات، ولا سيما وأكثر هؤلاء الدعاة أرحام وعصاب، ولا يخفاكم ما في قطيعة الرحم من الآيات البينات، والأحاديث النبويات، وأما والدكم الحسين بن الحسن والقاسم بن محمد فإنهم لما رأوا هذا الأمر وما يؤول إليه توقفوا فيه، ولم يقدموا عليه، وأشدهم وأصلبهم في طلبه صاحب صعدة، وإن كان غيره أهون شوكة، وبقي معكم والدكم الحسين بن الحسن والقاسم بن محمد، وكذلك حسين صاحب صنعاء إذا رأيتم تقديم اجتماع كلمتهم قبل حصول حادث فيما بينكم وبينهم فالأمر إن شاء الله متماثل ومتقارب، وإذا قد اجتمعتم على كلام واحد، فسائر الناس أجمع أتباع ، ولا يخشى منهم ضرر ولا نزاع، وأنتم أعرف بالصواب إن شاء الله، وممن يسعى في المسلمين بالصلاح والاجتماع. وأما صنوكم فلا يخفاكم حاله، وأنه تخلص عن جميع علق تكاليف الخلق للأولين والآخرين، وعرف منا ذلك المتوكل فيما مضى، فعذر وارتضى، وكذلك والدكم، وكذلك محمد بن المتوكل، كلهم سايرونا على ما نحبه من عدم تعلق أمر، ولا تكليف ولا محاضر ولا مجامع، وإعذارانا مما لا يخفاكم اتباعاً لقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} والسلام.
وانتهت النصائح للمذكورين في الاجتماع في جميع هذا الشهر، فلم يُجْدِ، فكان الأمر كما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً .... تعبت في مرادها الأجسام
[131/أ] وكان حسين بن المتوكل وأحمد بن المؤيد قد جمعوا القضاة والسادة وغيرهم يوم الأربعاء آخر يوم بشهر جمادى الأخرى، وقال: الأولى قيام القاسم بن المؤيد وأمر الحاضرين بكتابة شهادتهم، فكتبوها وشاع في الناس أن قد بايعوا القاسم ولم يحضر محسن بن المهدي معهم، بل قد كان بنى بالخطبة بالغراس لصنوه محمد صاحب المنصورة، ولكن غلبه القبائل من بني الحارث وهمدان والقاضي عبد الواسع ، فامتنعوا عن الخطبة لمحمد، ودخل القاضي عبد الواسع صنعاء.
وكان من جملة من شهد لقاسم، وكان في خلال ذلك بيوم الخميس غرة شهر رجب وصل كتاب من حسين بن علي بن المتوكل من بلاد إب وجبلة يذكر فيه إلى عمه حسين بالمبادرة بالغارة عليه، وأنه قد صار بإب محاصراً، لم يبق بينه وبين إسحاق بن المهدي إلا مقدار ساعة، فالغارة الغارة والبدار البدار، فلم يتمكن صنوه بمادة من صنعاء، بل كان أرسل بكتب إلى محمد بن المهدي من السادة والأعيان والقضاة بالنصيحة في جمع الكلمة وترك الفرقة، وأن هذه المفاتحة بالحرب لا تصلح، وأن على المسلمين مشقة لا سيما هذه المدة بسبب غلاء الأسعار وضعف الناس وترك الحركة إلى البلاد العليا، فالله أعلم ما يتم من ذلك.
وفي شهر رجب وصل الخبر إلى صنعاء أن صاحب المنصورة جهز بعض خزائنه إلى تعز، وأنه متجه في الأثر يريد التجهيز إلى اليمن الأعلى[131/ب]. ولما وصل هذا الخبر تغير حسين من ذلك، وأمر أهل الحيمة باللقيا إلى ذمار، فاعتذروا عن ذلك، وقالوا: لهم جوامك مقطوعة ولا يتركزوا في وجه جنود صاحب المنصورة وامتنعوا، فأراد إرسال عبد الله بن أحمد بن القاسم وتوليته لذمار؛ لأنه له من زمان أخيه محمد بن المتوكل، فاعتذر أيضاً، وعلم أن التولية له فيه إنما هو إغراء ومحرك للفتنة والحرب مما ليس فيه جدوى، لعدم القوة الناهضة والخزائن الواسعة، فلما لم يحصل ذلك تحدث وربما كتب إلى صنوه القاسم صاحب ثلاء، وأنه يجتمع هو وإياه وصاحب عمران وكوكبان على كلمة واحدة، ويبايعون لقاسم، ويجمعوا جندهم على صاحب المنصورة، ثم فسد ذلك الحديث ولم يتم، وكلما أهموا بشيء لم يتم مما يتعجب منه.
ربما تكره النفوس من الأمر .... له فرجة كحل العقال
ووصل خبر بأن ظفار حضرموت دخله طائفة من البحر استولوا عليه، وأنه حصل حرب فيما بين الفضلي ويافع، والله أعلم.
وكتبت يافع إلى حسين بن علي بن المتوكل: إنك إذا احتجت إلينا أعنَّاك، فأشار عليه من أشار من أصحابه: لا تركن عليهم فإنهم لا يؤمنوا على الجميع.
وفي خامس جمادى هذا وصل الخبر بأن صاحب المنصورة مريض، وأنه كان أراد الخروج، فاعتقل بسبب المرض، فسكن الحال مع الناس هذه الأيام، وأحاط إسحاق وإبراهيم ابني أحمد بن الحسن بحسين بن علي بن المتوكل، فإبراهيم سكن ظَلْمَة وإسحاق صُهْبان .
[132/أ] وفي ثالث عشر شهر رجب وصل الخبر بأنه حصل فيما بين إبراهيم بن أحمد بن الحسن وبين حسين بن علي بن المتوكل حرب، فكان ذلك أول فتح بين المذكورين. وذلك أن إبراهيم بن أحمد بن الحسن تحرك من ظلمة إلى سد مشورة المطل على العدين، فترجح لحسين بن علي بن المتوكل اللقيا له إلى ذلك المحل واحتربوا، فوقع القتل بين الطائفتين، ثم انهزم أصحاب إبراهيم واحتاز إبراهيم في بعض البيوت هنالك. وكان المباشر للحرب الأمير فرج، ثم أغار قاسم بن علي بن المتوكل والشيخ حسين بن محمد الوادعي من عند حسين بن علي بن المتوكل، فأحاطوا به في الدار، وما زالوا يرمون من داخل أصتاب من ذلك جماعة، ومنهم الشيخ حسين بن محمد الوادعي برصاصتين، وكان ذلك يوم الأحد حادي عشر رجب الفرد في شهر الله الحرام. وكان القتل من أصحاب حسين بن علي كثير، وكذلك من أصحاب إبراهيم، أولاً كان القتل في أصحاب إبراهيم وآخره كان في أصحاب حسين بن علي. فمن أصحاب إبراهيم نحو خمسة وعشرين نفراً ومثلهم مصاويب في حرب اليوم الأول، وفي اليوم الثاني كثير، وأكثر القتل في اليوم الثاني في أصحاب حسين، لما أقبلت الغواير من الجانبين من إسحاق وغيره، ثم اهتزم أصحاب حسين بن علي إلى إبّ وجبلة وتفرقوا وتمزقوا إلى كل جهة. وحينئذٍ خطب محسن بن المهدي بالغراس لصنوه في يوم الجمعة ثالث وعشرين شهر رجب، فلم يعجب القاضي عبد الواسع خطيب الغراس ودخل صنعاء فخطب غيره. ويوسف بن المتوكل حال أن بلغه هذا الحادث أرسل بقدر مائتين رئيسهم القاضي يحيى جباري مأموراً من عنده بالإصلاح إن حصل، وإلا كان يداً مع حسين بن علي بن المتوكل.
ولما ثُلَّ عرش الخلافة وهوى نجمها، ووهى ركن الإمامة وطمس رسمها، وصارت الإمامة دعوى[132/ب] وعادت العافية بلوى، والخزائن التي حفظوها تزول وتهوى، حتى عطلوها وتحاربوا بها، فلا قوة إلا بالله، ويخشى عليهم -مع هذا الاختلاف، والتحارب فيما بينهم وعدم الائتلاف- زوال دولتهم أجمع، فيزول عنهم الطمع:
لما دنى الوقت لم تخلف عدة .... وكل شيء لميقات وميعاد
إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا .... وقد خلت من قبلهم أرض بغداد
وكان حسين بن علي بن المتوكل قد بعث رسولاً السيد قاسم بن لقمان إلى حضرة محمد صاحب المنصورة، فكان جوابه أنه يبقى لحسين ما بقي تحت يده جبلة وإب وما حولها دون تعز فلا سبيل إليه، فقال حسين: هذا لا يسمح به، وبنى على القتال، فحصل ما جرى وترك النصيحة بأنه يتوقف وأن ترك المفسدة أولى من جلب المصلحة، كما ذكره العلماء، فلم يحصل لذلك جدوى، فأصبح حيث أمسى، وانقلب الأمر عليه، وزال ما في يديه، وكان كما قال الله تعالى: {وَلاَ يَنْفَعُكُم نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُم إنْ كَانَ الله يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكُمْ} لحكمة علمها تعالى.
ووصل خبر أن بعد هذه الواقعة والهزيمة لأصحاب حسين بن علي بن المتوكل وما جرى فيه وأصحابه من الكسيرة، وعاد سيفه مغلولاً، وجنده ما بين مقتول ومنهوب، انصبت تلك الجنود الصائلة إلى وادي جبلة، من تلك الجبال التي فوقها زاكية، وعليها عارية، لاتصالها بسد مشورة حيث وقع الحرب أول مرة فانحدروا إليها كالسيل، [133/أ] وأظلمت على أهلها الآفاق كما يظلم الليل، وأرادوا أن يدخلوها بالسيف الضارب وانتهبوها، وفر من فر وانكسر من انكسر من أصحاب حسين بن علي وغيرهم من ساكنيها، وكان حسين بن علي يومئذٍ بجبلة وعادت رجال الجالبين لميرة الطعام من الطريق، وانقطع المسافرون من التجار خوف التعويق. وكان بعض الواصلين إلى جبلة بدراهم لشياطة الحب انتهبت عليه حال الحرب، ورجع عطلاً آسفاً حتى أمسى تلك الليلة بجَرْف وهو خائف يترقب، وإذا برجل يحفر تحته حفرة ودفن فيها شيئاً يقرب من ذلك المحل الذي هو فيه وهو لا يشعر به مما انتهب يوم الحرب حال الكسيرة، فلما أصبح الصباح، وظهر أوائل الفجر ولاح، سار إلى ذلك الموضع ينظر ما دفنه فيه ذلك الرجل، فإذا هو بجنبيه محْلِيَّه وسيف وغدارة أيضاً محلية ، فحملها وسار الطريق، وقال: قد هذا من العوض فيما راح من الدراهم والتعويق، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم إن حسين بن علي بن المتوكل لما علم القهر له والغلبة، والجنود التي ليس له بها طاقة وعاين ما جرى خضع ودخل فيما كان رسم عليه، وجرى أهل المدينة ومن لديه، ومن بقي له من بلاد إب وما إليه، وبايع ودخل في مبايعة صاحب المنصورة [133/ب] لما لم يجد له منقذاً ولا ناصراً إليه، ونَصَّرت جميع بلاده لصاحب المنصورة المسمى بالناصر.
واكتف ذلك الأمر الذي جرى، بعدما وقع ومضى. وكان جملة القتلى من الجانبين كما قيل: ستين قتيلاً .
قال الراوي: وسبب حصول الحرب في سد مشورة أن إبراهيم لما جاء له الرأي من صاحب المنصورة بالمناجزة نزل من ظلمة أطراف بلاد حبيش التي إليه إلى سد مشورة، وبرز فيها خيامه، يريد النزول على قصد جبلة لفتحها، وكان حسين بن علي فيها، فتلقاه عسكره إلى سد مشورة وفيهم من الرؤساء معه أخوه قاسم والشيخ حسين وفرج العبد فكان الحرب هنالك، ثم احتاز إبراهيم إلى بيت من أطراف بلاد حبيش، فخاطبوه في الذمة، وأنه يخرج من الدار ويرجع إلى ظلمة، فساعد في الظاهر وهو مضمر خلافه، ولعله باختياره إنما يريد به الخديعة، فتقرب الشيخ حسين بغروره إلى جنابه، هو وجماعة من أصحابه ينتظرون خروجه، فرموه من الدار فقتل واحتزوا رأسه وقتلوا الذين معه. ثم انكسر أصحاب حسين بن علي، فحين رأى حسين بن علي هذا الواقع واجتماع الغارات دخل في الصلح لصاحب المنصورة، ووضعوا الأمان لأهل جبلة وسائر البلاد إلى رأس سمارة[134/أ]. والشيخ حسين المقتول وقع معه عدم النظر في العواقب، وأن الأمان ليس وضعه في الحروب من الخارج حيث قد انحصر إحدى الطائفتين، وإن حصل ذلك كان على جهة التباعد والاحتراس وعدم التساهل، لأن قلوب المتحاربين تكون محترقة، وكل منهم يتربص بصاحبه الفرصة سيما من له رئاسة في الحروب؛ لأن نكايته وهلاكه انكسار قومه، قال صاحب (الغرر الواضحة والمساوئ الفاضحة) في باب ذم التصدي للهلكة ممن لا يطيق بها ملكه قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ } .
وقال تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ } .
وقالوا: الشجاعة تغرير والتغرير مفتاح الهلكة، وقال يزيد بن المهلب : الإقدام على الهلكة تغرير، والإحجام عن الفرصة جبن. وأنشد لجمال الدين بن الحسين :
ركوبك الأمر ما لم تبد فرصته .... جهل ورأيك في الإقحام تغرير
فاعمل صواباً وخذ بالحزم مأثرة .... فلن يدوم لأهل الحزم تدبير
ويقال: أهوت إلى يزيد بن المهلب حية فلم يتَوقَها، فقال له أبوه: ضيعت الحزم من حيث حفظت الشجاعة، وقال الشريف الرضي :
العزم في غير وقت العزم معجزةً .... والإدبار بغير العقل نقصان
ويقال: من قاتل بغير نجدة، وخاصم بغير حجة، وصارع بغير قوة، فقد أعظم الخطر، وأكثر الغرر، وقال بعض الحكماء: من أعرض عن الحذر والاحتراس، وبنى أمره على غير أساس أزال عنه العز، واستولى عليه العجز، فصار من يومه في نحس، ومن غده في لبس.
وفي كتاب الهند الحازم يحذر عدوه على كل حال[134/ب]، ويحذر مواثبته إن قرب وغارته إن بعد، وكمينه إن تبع، ومكره إن انفرد، واستطراده إذا ولي. وقال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد: إذا دخلت أرض العدو فكن بعيداً عن الجملة، فإني لا آمن عليك الجولة، وقول الشاعر :
ومن يأمن الأعداء لا بد أنه .... سيلقى بهم في موقف الموت مصرعا
وقيل لعنترة العبسي المشهور بالشجاعة: أنت أشجع العرب وأشدها قال: لا كنت أقدم إذا كان الإقدام عزماً، وأحجم إذا كان الإحجام حزماً، ولا دخلت موضعاً إلا أرى لي منه مخرجاً. ويقال: تفكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم، فإنه من لم ينظر في العواقب، فقد تعرض لحادثات النوائب، إلى آخر ما ذكره.
فالشيخ حسين عرض نفسه للهلاك وهم في الدار متحصنين وتقرب لهم كالنصح ينتظر خروجهم إلى يده، وهذا أعظم شيء عليهم، كيف وهم مقاتلون على خلاف ذلك، فوقع فيما وقع، ولما قد كتب عليه وسبق به علم الله تعالى مات بأجله المحتوم، مع أن هذا القتال من المشتبهات، ظاهره القتال على الملك من الطائفتين، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.