[119/أ] ولكن القاسم من بعد ذلك فكر في هذا الأمر، وأن القيام في هذا الوقت كالمتعذر من كل وجه؛ لأن بلاد اليمن أجمع قد استكمل فيها التقسيم والتغلب في بعضها من أولاد المتوكل ومن أولاد أحمد بن الحسن وأولاد محمد بن الحسن وأولاد أحمد بن القاسم وغيرهم. وكان بقي الذي في يد المؤيد من المتوكل، مع أن محصولها كان لا يقوم بحالة، والآن استغرقت. فصنعاء وبلادها مع صنوه الحسين، وتعز والمخا تغلب عليه محمد بن أحمد بن الحسن صاحب المنصورة ، وحراز أرسل إليه حسين بن المتوكل من اللحية بعض أولاده، وريمة وبُرع ونواحيها دخلها زيد بن المتوكل، وضوران وآنس استولى عليه يوسف بن المتوكل، فاستغرقت بلاد المؤيد التي كانت باقية بيده مخرجة عن المقطعات في زمانه، فلم يبق حينئذٍ مادة لمن يقوم في هذا المنصب مع أن أكثر المخاريج والعائدات إليه، فما ذاك يسلم لهم. فلهذا الأمر اقتضى نظر القاسم صاحب شهارة التوقف وعدم المسارعة في الدخول في هذه المنصب مع من ادعى من أهل الإقطاعات هذا المنصب وليس له أهلية، ولكنه قدم المكاتبات إليهم بالنظر فيمن يصلح، يريد عسى يجتمعوا عليه ويضعون الأمر إليه، ويمدونه بما يحتاج إليه وهذا أمر متباعد.
وفي هذا الشهر قصدت برط إلى الجوف لإرادة الانتهاب للثمرة معهم، ويفعلون كما فعلوا المرة الأولى، وكان أهل الجوف من الأشراف والقبائل قد حذروا منهم واستعدوا لهم إن قصدوهم فدافعوهم عن أنفسهم، وخرج فيهم فرسان الأشراف، فمنحهم الله أكتافهم، وقتلوا كثيراً من كبارهم وأشرارهم، بلغ القتل منهم قدر اثنين وسبعين نفراً، وهرب الباقون إلى بلادهم، أخذوا بالثأر فيما وقع منهم[119/ب] سابقاً، كما وصفه رجل منهم.
وفي هذه الأيام شهر جمادى الأولى وصل الشريف طالب صاحب صبيا إلى حضرة المؤيد، فوافق وصوله مرض المؤيد بمعبر جهران، ثم عاد إلى بلاده. ولعل غرضه من جهة صنوه الحسن صاحب اللحية أنه يترك التعرض إلى بلاده، حسبما جرت به عادتهم، وحسبما وضع له الشريف أحمد بن زيد من الولاية.
والمؤيد هذه الأيام لا يقضي لأحد غرضاً ولا يتصل به لا أقصى ولا أدنى، والآلام قيل أولها من قبيل السل الدق، وقيل من قبيل الاستسقاء وأنه طال عليه، ثم ظهر آخره الورم العظيم في وجهه وأيديه واستقوى عليه الألم، ففصد في القيفال عرق الرأس، ثم وصل طبيب من المخا زاد أمره بفصد آخر بين أصابعه، ثم أعطاه شربة وكثر عليه متابعة الاستفراغات، فانحطت قوته بالمرة، والحكماء يمنعون متابعة الاستفراغات، لا سيما مع ضعف قوة المريض، فإنه لا يعارض شيء منها، فكان يحصل معه ما يحصل، ثم آخر أمره تقبض كثيراً بمعبر وأمر بإخراجه منه إلى حمَّام المعرة ، ثم يريد طلوعه جبل ضوران، فساروا به في التختروان في جهران، ثم لما أشرفوا على وادي الخيرة حمله الرجال فوق أعناقهم، وكان قد منع الناس عن السير معه، فلم يسر معه إلا من يحتاج إليه من الخدم، وكان خروجه من معبر يوم الأربعاء آخر يوم من شهر جمادى الأولى، ومات آخر نهار الخميس غرة شهر جمادى الأخرى في الحَمَّام.
[120/أ]وقضى الله عليه الوفاة بأجله المحتوم، الذي لا يفوته الهارب، ولا ينفعه الدواء من أمر الله الغالب. وكان المذكور قد رفع مظالم كثيرة من البلاد التي نفذت بها يده وحكمه كبلاد صنعاء، وبلاد حراز، وضوران. وأما اليمن الأسفل فلم ينفذ فيها كلامه، ولم يسمع فيها قوله. وكانت البلاد قد تفرقت، فكل له فيها حكمه وإنما له منها مجرد النسبة والخطبة والسكة، ورفع من الأسواق بصنعاء وغيرها المجابي، وكان يحب العدل والرفق، ولا يعاقب في الغالب إلا بمقتضى الشرع، إلا أنه كان قليل الرأي، ومن ولاَّه من العمال والخزان لا يحاسبه، ولا يسمع من شكى به ولا يرفعه، فأكلوا وجمعوا من ذلك جمعاً كثيراً من الذهب والقروش والخزائن والفلوس، ونقص على كثير من أهل التقارير تقاريرهم وعاداتهم، وكان قد شرع في ذلك والده آخر مدته، فربما تبع أثره، ولكنه رحمه الله غلب ذلك عدله الذي تفرد به في هذا الزمان عن غيره. واتفق بحكمة الله وتقديره جميع مدته من أول ولايته بصنعاء في وقت والده، عقب وفاة علي بن المؤيد بالله بن القاسم [120/ب]إلى آخر مدته غلاء الأسعار وقل الأمطار، والسعر في هذا الشهر، البر بقرش، والذرة بقرش إلا ربع، فالحكمة لله تعالى. واتفق أيضاً وفاته ووفاة والده وأحمد بن الحسن في شهر واحد وهو شهر جمادى الأخرى، فهذا قل أن يتفق مثله.
وقبر بجبل ضوران جنب والده رحمه الله تعالى.
وكان له حالة عظيمة في التواضع، وعدم التكبر والترافع، على ما هو فيه من الملك والرئاسة، ولا يتعرض إلى شيء من جوابات المسائل والفتاوى، بل يردها إلى العلماء والقضاة، ليس كأحمد بن الحسن في بعض المسائل يجيب بحسب الاتفاق، وإذا اعترض قال هو له باجتهاد، وما هلك امرؤ عرف قدره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وأول نابح في خامس هذا الشهر جاء الخبر بأن يوسف بن المتوكل صنو محمد دعا من عنده إلى إجابته، فأجابه البعض وخالفه الأكثر، وكذلك حسين بن عبد القادر الكوكباني فإنه كان حاضراً بمعبر ينتظر الولاية هو وصنوه وبعض أعمامه، فترجح له دعا إلى نفسه، فأجابه أصحابه وخالفه سائر الناس، وخرج من معبر ساعياً إلى بيته حصن كوكبان وبلاده، مع أن صنوه حسن مغاير له وغيره من أقاربه، وابن حورية المؤيدي السيد أحمد بن إبراهيم كان بصنعاء عقب وصوله من بلاد صعدة يريد القصد إلى معبر، فلما بلغه مرض المؤيد تحير بصنعاء، ثم لما بلغه موت المؤيد أصبح مسافراً وخرج عازماً إلى بلاده[121/أ]، ثم جاء خبر بادّعاء السيد علي بن حسين الخولاني من خولان صنعاءأجابه السادة بنو الشامي وبعض أصحابه، وخالفه جميع القبائل، فلم يجيبوه إلى ما أراد، وكتب حسين بن المتوكل إلى مشائخ بلاد مسور وخولان بأنهم لا يغتروا به. ثم جاء خبر صاحب عمران حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم أجابه أصحابه، وجاء خبر صاحب المنصورة، كل هؤلاء ادعوا الإمارة والإمامة على زعمهم وما هو إلا دعوى ملك وسلطنة، لعدم كمال الشروط في جميعهم، وأكثرهم نيته بذلك إنما هو لحفظ بلاده، فلا قوة إلا بالله، ونية دعوى الملك قد ذكر العلماء أنه يحرم إجابته مع كمال الشروط، فكيف مع الاختلال من الجانبين، فكان هؤلاء إلى الآن من هؤلاء الدعاة ما سطر من الكثرة مع علي بن أحمد صاحب صعدة تفرقوا في هذه الدعوات، وكل من الناس اتبع هواه في إجابته مما له تعلق بهم، وأما سائر العباد ممن ليس له
تعلق بهم فبقي حائراً في أمرهم. وخزائنه التي بصنعاء كانت بنظر الفقيه جابر ، بادر إلى حمل بعض شيء من الصناديق إلى بيته وفرقها مع أهل عملته وتجارته، لئلا يظهر عليه طلبه، وبقي في بيته بعضها، فلما فطن حسين بن المتوكل ببعض شيء من ذلك قبض منه المفاتيح ليحفظ ما بقي من الخزانة، وأما خزائن ضوران فهي مع يوسف بن المتوكل ومع إبراهيم بن المؤيد تصرف فيها وقبضها أيضاً من يد ولد الفقيه جابر الخازن هناك لها، وانتهبه وحصانه لما بلغه أنه قد حمل إلى بيته منها، فاستدرك أيضاً باقيها.
ووصل إلينا كتاب حسين بن محمد بن أحمد بن القاسم[121/ب] يذكر فيه دعواه إلى درجة الإمامة التي صار هذا الزمان يتطفل عليها الناس، فأجبناه بما هذا لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلت إشارة السيد شرف الدين الحسين بن محمد، سلمه الله، وأرشده إلى سبل الخيرات إن شاء الله، والكتاب وصل بالتعزية في المرحوم المؤيد بالله رحمه الله، فالله يخلفه على الجميع بأحسن الخلافة، ويتلقاه بالرحمة والرأفة والرضا والمغفرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والدنيا حقيرة، وأحوالها خطيرة، وتكاليفها شديدة، أبى من تحمل التكليف فيها السموات والأرض والجبال، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا، كما ذكر الله في محكم الكتاب بقوله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَالْجِبَالِ فأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَها الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُوْلاَ} .
فالله يرحم ضعفنا، ويحسن خاتمتنا، ويبصرنا عيوبنا بفضله وكرمه.
وما ذكرتم من جهة الدعوة فلها شروط كثيرة معروفة في الكتب المسطورة، وصار هذا الزمان تلك الشروط مطرحة، وأما دعوى الملك فالملك لله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاء } .
وكان عليكم وعلى غيركم أن تبقوا على ولايتكم الأصلية، المنتسبة إلى التولية الأولة من الآباء والأجداد، وتنهوا عن المنكر وتأمروا بالمعروف في جهتكم، وغيركم من الولاة كذلك يقتصر كل على جهته بتلك الأصالة الأولة، كما هو قول كثير من العلماء، ولا يتعدى أحد على أحد بمحاربة ولا مضاررة، فإن سفك الدماء والمظالم عند الله عظيمة، ومع صلاح النية إصلاح [122/أ]المسلمين لا لصلاح الخاصة، فإن الأعمال بالنيات كما في حديث البخاري المتواتر عن النبي÷ أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) .
قال جدكم الإمام القاسم رحمه الله في جواب من سأله عن الإمامة، فقال: من كملت فيه شروطها، ومن علم منه أو ظن أنه ما يريد بذلك القيام إلا الملك ولا يريد صلاح الإسلام حرمت معاونته والقيام معه، وكذا ذكره غيره من العلماء، فكيف وسائر الشروط لم تكمل، فإنما هو ملك والملك لله، فالذي أنصحكم به من النصيحة الواجبة أنكم تبصروا في أنفسكم، وتستخيروا الله في أمركم وتعتبروا بالماضين من أسلافكم، فلم تنفعهم الدنيا، وإنما الإنسان مرتهن بعمله مع إحراز دينه، وتركه لاتِّباع الهوى، ولا تعجلوا، هذا الصنو قاسم بن المؤيد بالله محمد بن القاسم عافاه الله بلغنا أنه وهو بذلك المحل اعتذر عنها، فكيف من هو دونه؟ والله يأخذ بنواصيكم إلى الخير ويصلح المسلمين، وإياكم إياكم إياكم عن التناحر على الملك وأنتم أقارب وأرحام، والدنيا أحقر من أن تذكر، وجميع مما لكم عندنا بقلامة ظفر من أظفارنا ودعوة الحق لله تعالى على عباده، كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } ، ولا يغرك أهل نعمتك، فإن المتابعين لك أبناء دنيا، مبايعتهم لما يُنْقد لهم من الدراهم، فتوقف إن كنت ممن [122/ب] يقبل النصيحة انتهى.
وهذا كله مني لكم نصيحة، كانت الدعوة للإمامة لأن لها شروط، وأما دعوى الملك والسلطنة فلها باب آخر، لكن أنتم أهل البيت ما يصلح لكم إلا الاجتماع على من يكمل بها، وإلا اختل النظام، ويؤدي بينكم إلى الفتنة والتنازع والخصام، وهو خلل عليكم وعلى المسلمين، لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ } ، أي: قوتكم، فهذا غاية نصحي لكم، إن أريد إلا الإصلاح.
وفي عشية يوم الإثنين وقت العشاء دخل السيد محسن بن أحمد بن الحسن إلى صنعاء واصلاً من ذمار، يريد محله الغراس.
وأساس انحطاط درجة الإمامة والدخول فيها بغير كمال شروطها أحمد بن الحسن، وسببه الحاضرون من السادة الفقهاء ومحمد بن المتوكل لما............... فسهلوا له الوسيلة، فدخلها ورغب مع ذلك إليها، وإلا فإن كتابه إليهم إنما هو بالوصول للمراودة في إقامة من يصلح والنظر. فلما حضروا مجلسه تكلم الجهال أولاً بالصلاحية من أبناء نعمته من الملازمين له، وفتحوا له الباب إلى ذلك، فجرى ما جرى، فسن للمتأخرين هذه الدعاوى العريضة الطويلة في درجة الإمامة، ومعلوم بالضرورة اعتبارهم شروطها ومعرفة العلم الذي هو العمدة فيها. وربما لفق من لفق من الجهال إمامة المقلد، وهو خلاف الإجماع، على أن إمامة المقلد لمن يعرف بمسائل الفقه لمن قلده، فكيف فيمن عري من هذا وهذا؟ فلا قوة إلا بالله، [123/أ]فلو أنهم جعلوها دعوى الملك والسلطان، وجمعوا عليه بالحسبة مع ما فيه الخطر كان هو القياس، ولكن لا ذا تأتى ولا ذا حصل، فلم يبق معهم إلا التنازع والدعاوى هذه التي قد ادعوها، والله يلطف بالمسلمين ويرد ضرر الأشرار والمعتدين في نحورهم آمين.
وزيد بن المتوكل لما نزل اليمن بأمر صنوه المؤيد وصل إلى إب وجبلة، وأمر ابن أخيه حسين بالملقى له، وتعمد تقدمة حصان عقور نفور قد أهلك من أهلك، فركبه المذكور فشنع به حتى أسقطه ثم أراد رفسه وركضه، فلولا الأعوان ضربوه لأهلكه في الحال، ولكنه عاقه وصار مريضاً هنالك. ومات صنوه وهو على هذه الحالة، ولم يثمر وصوله شيء مما أمره صنوه، لقوة يد حسين وكثرة جنده وخزانته.
وفي ثامن شهر جمادى الأخرى وصل من القاسم بن محمد بن القاسم هذا الكتاب، يقول فيه بعد الترجمة إلى كاتب الأحرف: وبعد حمد الله حق حمده، وصلواته على محمد وآله من بعده، فإنها وردت إلينا كتب من الأصناء الكرام، ومن غيرهم من الأعيان الأهل الفخام، منبهة بما اختاره الله وقضاه، وحكم وارتضاه وفاة الصنو أمير المؤمنين وسيد المسلمين المؤيد بالله رضوان الله عليه وسلامه، ونقل روحه الطاهرة إلى دار الآخرة الباقية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. والحمد لله الذي لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه الذي خلق الموت والحياة[123/ب] ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأطول اغتراراً وأملاً، والله يعظم للإسلام والمسلمين فيه الأجر، ويعصم القلوب بعصمة الله الصبر، ويخلفه بأحسن خلافة، ويتلقاه بالرأفة والرحمة، ويلحقه بسلفه الصالحين وآله الطاهرين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. والله يرزق الجميع حسن الاستعداد ليوم المعاد، والتزود من التقوى بأكمل عدة وأكرم إرادة، وبعد شريف السلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، تأريخه شهر جمادى الأخرى سنة سبع وتسعين وألف .
ثم قال بآخره إلحاق خير إن شاء الله: لا يخفاكم حماكم الله وقوع هذا الحادث الجليل، والخطب المهيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فحال صدورها ونحن في محل الاستخارة لله عز وجل، وطلب الاستشارة من الأصناء ومنكم ومن جميع من دار عليه رحى الإسلام، فيما يصلح به أحوال الأنام وحفظ بيضة الإسلام، والله يقضيها بالخير والخيرة وشوركم مستمد ودعاؤكم، وبعد شريف السلام ورحمة الله انتهى كتابه.
وهذا جوابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصنو السيد الأكرم العلامة الأعلم علم الإسلام القاسم بن أمير المؤمنين: محمد بن أمير المؤمنين القاسم بن محمد حفظه الله، وأهدي إليه شريف السلام ورحمة الله وبركاته...وبعد..
فإنه وصل كتابكم بما بلغكم من وفاة الصنو الفاضل العادل المؤيد بالله: محمد بن المتوكل على الله، فالله يتلقاه بالمغفرة والرضا والرحمة، وأن يخلفه على المسلمين بأحسن خلافة، وينشر على روحه الروح والريحان فإنه الجواد الكريم. وكان المذكور كما عرفتم نادرة هذا العصر في محبته للعدل، ورفع المظالم واهتمامه بذلك مما يمكنه رفعه ويمر فيه كلامه، إلا إنه رحمه الله كان قد امتحن بأهل عصره من المخالفات، وعدم الامتثال في المنهيات، إلا اليسير منهم ممن آثر كلامه، وما هو تحت يده وهي الخصلة الرفيعة، والمنقبة له الجسيمة، هذا وما ذكرتم من توقفكم رعاكم الله وأحسن إليكم عن المسارعة إلى الانتصاب لهذا الأمر العظيم والتكليف الشاق الفخيم الذي هو كما قال الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَالجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً} .
وإنكم اقتضى نظركم الاستمداد للمشورة من الأصناء والعلماء فلقد اتبعتم عين الصواب، ووافقتم الأمر الذي لا يستعجل لمثله ولا يعاب، فإن المسارعة عن الاجتماع للكلمة هو محل المنازعة التي بسببها يحصل والعياذ بالله المظالم، وعدم الصلاح للمسلمين والمآثم، لا سيما ما يقع فيه من سفك الدماء وانتهاب الأموال، ولا سيما ما يقع فيه من قطيعة الرحم قبل الاتفاق والنظر، فلقد أدركتم بذلك الفضل والرأي الحسن، وإلا فإن هذا الزمان قد ارتكب الناس التطفل على مرتبة الإمامة والدعوى بمحلها والتسمي باسمها، وجهلوا شرطها، وما هو المقدم فيها، مما يحار الإنسان فيه، ويعجب من الذين بغيتهم عليه، فإن الإمام القاسم رحمه الله ذكر في جواب من سأله عن الإمامة، فقال في الجواب: هي لمن تم له شروطها المعروفة عند العلماء ولا بد مع تمام شرطها من العلم أنه بدخوله فيها لم يرد الملك والدنيا وإنما يريد صلاح عامة الإسلام، فإن علم منه أنه يريد الملك حرمت معاونته وإجابته[124/ب] وذكر مثلما ذكره رحمه الله غيره من العلماء، فإذا كان هذا الشرط مع كمال الشروط، فكيف حال هؤلاء الذين دخلوها وليس لهم من شروطها إلا الدعاوى الباطلة؟ فإنهم ادعوا من جهة تصرفهم في بيت المال لمن يتعلق بهم ، فتعجب أيها العارف هذه الشبهة الظاهر بطلانها؛ لأنهم أظهروا أن مرماهم الاهتمام بالمحبة للدنيا، فأظهرت عليهم نيتهم الفاسدة أنها ليست لصلاح الإسلام وإنما هي لأكل الحطام، ثم إن كيف تصرفهم مع بطلان دعواهم بكمال شروط الإمامة؟ فإذا بطلت الإمامة بطل فرعها من الولاية وصحة التصرف، فكان لو أنهم جعلوها سلطنة كغيرهم من السلاطين، وتحاشوا عن دعوى الإمامة، فإما أن تكون حسبة على قولٍ أو بالغلبة على قول أهل السنة، والإمام شرف الدين في جوابات مسائله ونهج البلاغة وشرحها للإمام يحيى في بعض خطبه، فإنه قال الإمام يحيى في الديباج عند شرح الخطبة المصرحة بتقرير المتغلب للضرورة: