وفي هذه السنة بأولها مات الشيخ العارف محمد بن سليمان المغربي المالكي بمكة المشرفة[95/أ]، وكان له بعض النظر في مكة لمن بالحرم الشريف بأمر السلطان، فنظمها زيادة على ما كان أولاً فيها بأن صار إلى كل شيء إلى محله، وكان مدرساً بها في كل فن، يغلب عليه المعرفة في علم المعقول. وكان قد جمع من الكتب ما يعسر حصره ويكثر وصفه من الكتب المجلوبة إلى مكة ومن غيرها من كتب مصر والقاهرة، وله من الصّر زائد على غيره من علمائها وقطَّانها.
قال الراوي: وكان عارفاً بعلم الحرف وعلم الفلك، وهو من بلاد فاس بالغرب الجوان ارتحل إلى باب السلطان، يريد الحج إلى بيت الله الحرام، فأمره السلطان بالبقاء في مكة، وكان ذلك هو إرادته ومقصده.
وفي ضحى يوم الأحد رابع وعشرين شهر شعبان منها مات القاضي العارف العلامة محمد بن علي قيس في قرية القابل وادي ضهر، كان ذلك بعد خروجه من صنعاء للخريف، فمرض هنالك سبعة أيام بالحمى وقضى الله عليه وقبر هنالك. وكان المذكور له معرفة بفقه الهدوية مدرساً وحاكماً، وله بعض مشاركة في الأصول، وكان حسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم وبغيرهم من علماء الإسلام، لا يقول بشيء[95/ب] من التكفير بالإلزام في مسائل الكلام، ويرى أن الخلاف لفظي بين المعتزلة والأشاعرة، وجمع في ذلك كتاباً نقل فيه أقوال الإمام يحيى بن حمزة وغيره، واستنسخ كتاب (العواصم والقواصم) للسيد البحر محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله في الذب عن سنة أبي القاسم، وقال: ما ذكره السيد محمد بن إبراهيم هو الحق الذي يجب على كل منصف اتباعه.
وفي شهر شعبان حصل مطر فيه بَرد عظيم على معبر بقاع جهران وقبة المؤيد، كان كل بردة كالبيضة بحيث أن منها ما خزق الخيام، ووقعت واحدة في حصان حتى سقط، فالقدرة لله.
ووصل إلى حضرة علي بن المتوكل الشيخ ابن شعفل وهو بيريم يومئذٍ، فأمره بأن يصل إلى حضرة صنوه المؤيد، فوصل إلى معبر، فخلع عليه المؤيد الكسوات وغيرها من الجوخ والدراهم. وأما الرصاص فوصل إلى حسين بن حسن مكاتبات وإلى المؤيد وهدية لا غير، واستقر بأطراف بلاده بالزهراء.
والمؤيد أعد لدخول المشرق بعد الصراب، وتكون الطرق: من أبين ولحج محمد بن أحمد صاحب المنصورة، ومن قعطبة علي بن المتوكل، ومن جبن ومن الزهراء، هذا ما تكاتبوا به وتواعدوا، والله أعلم، وكل ذلك كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُولاَ} .
وفي نصف رمضان وصل إلى المؤيد جواب من ابن العفيف اليافعي في الكتاب الآخر الذي كتبه إليه، وفيه التوعد بالدخول، وفيه أن مسمار أنكر الطلاق وحلف عليه، وذكر[96/أ] القصد إلى بلاده، فأجاب أما ما نقمتم من النكاح لزوجة مسمار فذلك حلال بعدما رفع إليكم من كتبه بالطلاق ونحوه، وأما قصدكم فالأمر فيه كما قال تعالى: {إنْ يَنْصُرْكُمْ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} .
فإن تكن الهزيمة فيكم كانت إلى ضوران، وإن تكن فيه كانت إلى حضرموت، فعند ذلك أمر المؤيد بالتبريز للوطاق من معبر إلى جهة ذمار، وعند ذلك جاء خبر أن الرجبي الذي كان قام بالحجرية عاد إلى الدعاء إلى نفسه، وكان عند صاحب المنصورة جماعة من مشائخ الحجرية فأمر بهم الحبس بحصن الدملوة الذي فوق المنصورة، وقال: إما أتيتم بالرجبي، وإلا كان ما تكرهون، فإن اتفق خلاف الجهتين فيبعد دخول يافع، ولا سيما وكل من الأمراء له رأي مستقل به، ما هناك كل الانخراط في جمع الكلمة معهم.
والأسعار يومئذٍ ارتفعت في بلاد صنعاء وما اتصل بها إلى اليمن الأسفل، بلغ بصنعاء القدح الحنطة إلى خمسة حروف ونصف، والذرة أربعة ونصف والشعير إلى ثلاثة ونصف، وكذلك في بلاد تعز، بحيث زاد السعر فيه بلغ القدح إلى ستة حروف، وعم الغلا في جميع المشارق، وذلك لقلة مطر الخريف، فلله الأمر، والمغارب وتهامة سعرها أمثل، الذرة إلى حرف في تهامة، والجبال في المغرب إلى ستين بقشة.
وفي هذه الأيام لما تحرك الرجبي في الحجرية أمر صاحب المنصورة المشائخ الذي عنده برهائن، بإرساله والوصول إلى حضرته[96/ب] وتوعدهم إن لم يأتوا به جهز عليه إلى بلده فحصل بين العسكر وبين تلك الجهة قتال، راح فيه نحو أربعة ومن العسكر واحد، وهرب الرجبي، فأخربوا بيته.
قال بعضهم: وربما أن بين أهل الحجرية وبين اليافعي مواطأة على ذلك، وما وقع سابقاً لأجل لا يتم دخول يافع لكنه صار يقع البلاء بأهل الحجرية لتوسط بلادهم في اليمن الأسفل وعسرة يافع بسبب جبلهم. ومع هذا الأمر لا يكاد يتم دخول يافع كما لم يتم أولاً، فإن أحمد بن المؤيد والغواير الذي كان بعثهم المؤيد إلى يافع ووافق اختلال الحجرية في خلاله انصرفوا إلى الحجرية، ولولا هم لما كان حصل التنفيس على صاحب المنصورة، فإنه قد كان في أضيق من حلقة الفاس محاصراً. ووقع انتهاب يومئذٍ في لحج للسوق.
وفي شهر رمضان خرج السيد أحمد بن حسين الأخفش من كوكبان، بعد أن كان حبسه الأمير عبد القادر في بيت والده، ففلت إلى نواحي برط، فلم يقبله أحد منهم، فدخل نواحي بلاد خولان وأطراف بلاد صعدة كما هو عادة سادة اليمن بالدعاوى العريضة الطويلة، فلا قوة إلا بالله. وتضرر منه علي بن أحمد صاحب صعدة، وأرسل إليه ببغلة، ويسعى في استمالته إلى حضرته.
ولما تحقق المؤيد هذه الأحوال، وما قد أعده أهل يافع من التحريز لجبالهم، والبناء للمتارس في المداخل والطرق وكثرة ما[97/أ] أعدوه من البنادق، وما رآه من أحوال الناس تقاصرت همته وفترت عزيمته، وقال: يؤخر هذا الأمر إلى بعد عود الحجاج في السنة القابلة، والله أعلم.
ولعله بلغه خبر من جهة بلاد السلطنة......... ولعله كان سبب وصول ما كان ظهر به الخبر العام الأول من يافع بالكتب والأخبار بما جرى من القتال والإدبار، وأنهم يستمدون الغارة قد ذكروا له... وابتعث إلى اليمن من يعينه، وهم ما جانبهم باليمن الأسفل للمعونة. وأن دولة اليمن قد صارت متفرقة، وأحوالهم غير منتظمة،. ولكل شيء سبب، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه. وما ذاك منهم إلا خشية من النهضة عليهم كما قد وقع منهم، وإلا فليس يافع يؤذون الدولة من حيث كانت، ولذلك جرى منهم من الحروب بينهم وبين سنان باشا ما وقع وغيره من بني طاهر ممن مضى.
[97/ب]ثم إن المؤيد رجع إلى تزليج صنوه زيد، ولا يسير بأحد من أهله، ومنع صنوه القاسم، فقيل: إنه للحج، وقيل: إنه لأجل رفع الأوهام.
ووقع في بلاد صبيا حرب ما بين الأشراف وبين آل حبيب، فقتل الأشراف شيخ بني حبيب وانتصروا عليهم، والله أعلم.
ووقع قبل ذلك أيضاً حرب فيما بين بلاد خيوان والعصيمات، فراح من الجانبين سبعة، وأعان خيوان بالغارة سفيان، فكلٌ رد من نفسه لما أقبلت عليهم العصيمات، فانتفع أهل خيوان بمعاضدة سفيان؛ لأن خيوان قليل والعصيمات كثير، وكان المقتول من العصيمات ثلاثة ومن خيوان وسفيان أربعة.
وفي ذي القعدة اتفق قران زحل والمريخ في برج السنبلة، وكذا الزهرة والقمر في برج السنبلة جميعاً، وأرسل المؤيد إلى طرف بلاد أبي عريش الفقيه علي بن محمد بن علي جميل في جماعة عسكر.
وبلغ صرف القرش هذه الأيام إلى عشرة حروف، فكان بسببه النفس للرعايا في اليمن الأسفل في المأخوذ من المال عليهم؛ لأن العمل في ذلك على القرش، وكانت دفعة العدين للأثمار الأخرى............. من الضربة المتقدمة، وصرف القرش بحرفين، والآن صار صرف القرش فوق العشرة، فكان في الحقيقة المأخوذ عليهم هو ذاك الأول وأقل؛ لأن جميع الأسعار على القرش، فجاء لهم في اللطف لطف رحماني من حيث لا يشعر به.
[98/أ] وفي شهر القعدة حصل بين خولان صنعاء خراب بيت رجل منهم واختلاف واشتجار، فبلغ المؤيد ذلك وأرسل عليهم أحمد بن محمد بن جميل الحبوري بجماعة، فوصلوا إليهم، فقالوا لهم: الواقع بينهم قد حصل فيه سدوا أنتم، ارجعوا إلى المؤيد وأخبروه أن قد حصل السداد وزاد الكلام بينهم واستحمق أحمد بن محمد جميل عليهم، ثم افترقوا بالمراجيم أولاً، ثم غيرها، وأرسل المؤيد عند ذلك جماعة عسكر، وكتب إلى محسن بن أحمد بن الحسن صاحب الغراس أنه يلقى من تلك الجهة بمن معه، وكان تسكينهم أصلح.
وبلغ أن الذين ساروا للحج بطريق تهامة تحيروا فيها ولم ينفذوا إلى هنالك ، فلما وصلوا ضبطوا المشائخ الفاعلين سبعة أنفار من المثيرين للفتنة، وساقوهم إلى حضرة المؤيد، وكان سبب الواقع بينهم كما وصف المحقق من بلادهم أن رجلاً ساق امرأة منهم، فقصدوه فهرب، فأخربوا بيته ونهبوا ما فيه واستجار بقبيلة أخرى يقال لها بني شدَّاد ، والرجل الذي خرب بيته من بني جبر، وقالوا: إن ذلك حكم القَبْيَلة في بلادهم لمن فعل ذلك وحكموا على الفاعل أن يسلم دية المرأة وهي حية، صفة حكم طاغوت، هذا خبرهم.
[98/ب] وفي هذه الأيام بآخر شهر القعدة لما تصرف المؤيد وصنوه علي في مطالب جبل صبر باليمن الأسفل، وكان قد جعل دفعته زيادة لصاحب صعدة علي بن أحمد تغير من ذلك وانحرف مزاجه، وطلب أصحابه وبعض مشائخ بلاده، وكتب رسالة يلفق فيها اعتراضات، كل ذلك لبيت القصيد من الدفعة تعود له. وأخبرهم أنه يريد الحركة والخلاف، فأجاب عليه بعض مشائخ البلاد أن هذا الأمر إن كنت تبغي به الغضب لله وكان هناك ما يوجب فهم معه، وإن كان لأجل دنيا يريدها فهم أبرياء من المعونة له، فكان الجواب هذا موافق قاطع له من رجل عامي، فقطعه ولم يجد حجة له.
وفي هذه الأيام ليلة عيد عرفة وصل إلى المؤيد وهو بمعبر جهران رأسان من الخيل أو ثلاثة وبعض دراهم، نحو ثلاثة آلاف من شيخ يافع ابن العفيف، وقال: ذلك عن الفطرة في بلاده. والمؤيد لما بلغه خبر صاحب صعدة بعث إليه بالدواء لجراحته وعلته، وما يزيل مرض قلبه من التأليف بالمال، وقال: عن دفعة جبل صبر.
وفي خامس عشر من شهر الحجة وصلت كتب من جدة إلى الدولة يذكرون فيها ثبوت خروج عساكر السلطنة إلى مكة، وتجديد ولاية مكة لأحمد بن زيد بن محسن بعد صنوه[99/أ]، وولاية جدة لأحمد باشا.
ودخلت سنة ست وتسعين وألف
استهلت بالجمعة بالرؤية والحساب اتفقا جميعاً.
وفي رابع شهر محرم وصلت كتب الحاج يذكرون تصحيح الخبر الذي سبق من خروج الشريف أحمد بن زيد بن محسن متولياً لمكة من باب السلطان ومعه جنود كثيرة وأمراء وأعيان، وكان الخارج في الحملة سبعة صناجق، وقيل: ستة، وفي بعض تلك الصناجق أعلام الريشة، وكان سعيد بن بركات لما بلغه خروج أحمد بن زيد هرب عن مكة، ولم يوافق أحمد بن زيد خشية لا يكون عليه من السلطان أمر فيه ما يقتضي المعرة، ونقول: سبقت مما جرى بمكة من ركة الأمر والتسهيل فيها عليه، خصوصاً لما قد سبق بينه وبين أحمد بن غالب من المنافسة العام الماضي، وعدم اليد الوثيقة في الولاية، فلما أقبل أحمد بن زيد إلى مكة ووصل إلى تلك الجهة دخل في زفة عظيمة، وجنود واسعة، والصناجق منصوبة، والنوب تضرب خلفها محفوفة، والخيل الواسعة، وهو في آخر الجند عليه المظلة، فأول أمر جرى منه الشنق للحرامية الذي نقل إليه أهل العهد بمكة أنهم أفسدوا، فشنق منهم ثمانية في المسعى والمعلاة، وأبرز بعد ذلك على صاحب جدة لما وصل إليه مرسوم الولاية وزيادة بندر جدة وتوجيه مطالبها إليه. وكان مع الأشراف الأولين نصف محصولها، فجعل السلطان إليه جميع مرفوعها، وأظهر اليد المعونة، وقام بالأمر فيها على الحالة الملوكية، بعد أن كان ركب أمور سياستها، واستراح بذلك تجارها وأهل الأسباب فيها، حتى فرشوا بالبضائع في بطون الأسواق. وأحمد بن غالب كان لأحمد بن زيد معاضداً، ورضي به بعد ما جرى[99/ب] بينه وبين سعيد بن بركات العام الأول ما جرى. ولما استقر بمكة المذكور، وهابه أهل تلك الجهات والثغور وجلبوا إلى مكة المحصول أرسل إلى بلاد بيشة متولياً وإلى بلاد عتود قريب صبيا كذلك نائباً على ما كان عليه أبوه سابقاً وكانت هذه البلاد قد ذهبت عن ولاية صاحب مكة وزالت، فأرجعها على حالها، وقوَّاها بالعسكر وولاها.
وكانت أسعار مكة هذه السنة حيَّة، والخصب فيها وجميع بلاد الحجاز، الكيلة المكية سعرها إلى عشرة كبار مصرية، وصرف القرش بثلاثة أحرف من الضربة المصرية.
وكان قد أرسل المؤيد بن المتوكل إلى صبيا رسولاً من أجل ما جرى بين أشرافها من الاختلاف على الأمر فيها، وأمر بإصلاح الطريق والآبار وكان قد انتصب فيها الأمير طالب، ودفع عنها القبائل من بني حبيب صولاتهم وتعديهم حتى قتل بعض مشائخهم، وصبيا أمرها مستقل لهم ولا يمر فيها إلا السكة السلطانية والدراهم المصرية.
ولما تم الحج المبارك بمكة وقرت ولاية أحمد بن زيد، وكان خروج الحاج اليماني عنها ثامن عشر شهر ذي الحجة الحرام ورجوعهم إلى بلادهم، وأخبروا أن حال خروجهم. وأكثر الجنود الخارجة مع أحمد بن زيد باقية فيها، لم يرجع إلا المحامل والحجاج وأمراؤها.
وفي هذا الشهر تفلَّس رجل بانيان من الكفرة المجوس، يقال له: ميداس، وكان قد أمال إليه كثير من الناس بوضع الأمانات عنده والمعاملات، ولا أمانة لكافر قال الله تعال: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} فأظهره، فبقوا في حيرة عظيمة، وحال[100/أ] جسيمة من جهة فوات أموالهم. يقال: أن جملة ما كان عنده ما يقارب أربعين ألفاً فأكثر، مفرقة لتجار وغيرهم، ومثل هذا المال لا يسعه بطنه، فقدر ما كان يرسل به إلى الهند مع أصحابه شيئاً فشيئاً في المواسم، وكان قد تفلَّس قبله العام الأول بانيان ففلت من صنعاء إلى بندر اللحية ولبس لبس اليهود، وركب بحراً. ولم يعتبر الآخرون به في أمانة الكفار الملاعين. وأما هذا الآخر فبقى عند المؤيد مستجيراً وزاعماً أنه يسوق ما عليه بقدر حاله مما بقي تحت يده، فأجاره المؤيد على ذلك وأمر غرماه بالكف عنه، وتفريق ما يكسبه على الغرماء في كل عام مما لا يفيدهم ولا ينفعهم، ولكنه بما كسبت أيديهم.
وفي ليلة النصف من شهر محرم وقع خسوف قمري في أول برج السرطان، قيل: كان في الساعة السابعة.
وفي هذه الأيام خرج محسن بن أحمد بن الحسن من وطنه الغراس وذي مرمر إلى اليمانية، فاستقر بسوقها سوق الجمعة، وسبب ذلك أنه بلغه أن صنوه إبراهيم أخذ ولاية من صنوه محمد صاحب المنصورة عليها، فسبقه بالعزم للمحافظة إليها، لئلا يسبقه بالمسير والسكون فيها.
وفي هذا شهر محرم هذا استولى صاحب المنصورة على جبل القماطرة بالحجرية بعد طول محاصرة، ولما استولى على ذلك الجبل أمر أولاده بالتقدم بمن معهم من عساكره لإصلاح طريق عدن ولحج وأبين، والخلاف الذي جرى من قبائل ابن شعفل، فساروا إلي تلك الجهة، وحصل بينهم ما حصل، ثم انهزم ابن شعفل إلى معاقله، ثم غزا سوق بقار وانتهبه. وكان ابن شعفل الأول الذي وصل إلى المؤيد العام الأول قد مات وتعقبه هذا الآخر منهم من بني شعفل.
[100/ب] وفي آخر هذا الشهر وصل كتاب من حسين بن حسن بن القاسم إلى المؤيد محمد بن المتوكل إسماعيل بن القاسم، يتضمن العتاب له في ترك الحركة على يافع ، وأنه لا ينبغي التغافل عنه بعد ما قد جرى منهم، وأنه إن لم يتحرك كاتب إلى صاحب المنصورة ابن أخيه، وأنهما يكونا يداً واحدة على القصد إلى تلك الجهة، فتغير بتغافل المؤيد عنه، وواعده مواعيد الاختلاف التي يقول الله فيها: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُوْلاَ} .
وكل ذلك من المؤيد لما لم يجد كمال العدة، ورأى الناس أقرب إلى الملل وعدم اجتماع الكلمة، وكون اليافعي لا يمكن إن فرض فتح بلاده إرجاع الولاية إلى حسين بن الحسن إلا بمشقة وكثرة اختلاف منهم وخلاف وانتقاض مما لا يظهر فيه كل الفائدة. واليافعي قد صار يظهر الانتماء إلى المؤيد ويتبرأ من حسين بن حسن، فلما أيس حسين بن حسن عن أخيه المؤيد له كاتب إلى ابن أخيه، فأجابه بمثل ذلك، وقال يصلح ما طلبه وهو بعد إصلاح بلاد ابن شعفل يكون طريقه من هنالك. فلما بلغ المؤيد قام وقعد، ولم يعجبه ذلك الذي جرى بين الحسين بن الحسن وابن أخيه من هذا العمل والوعد، وأرسل السيد يحيى العباسي في شأن ذلك، فسار إلى حسين بن حسن يستدعيه للوصول، فاعتذر عن الوصول، ثم عاد السيد إليه للتحريض على الوصول لمفاوضته، فوصل إليه.
وفي خلال هذا جاء إلى المؤيد رسالة من صاحب صعدة يلوم عليه في ترك ما كان يعتاده من دُفعة جبل صبر الذي كان شرطه له في البيعة، وأنه جعله لصنوه علي بن المتوكل، وهذا يؤدي إلى النقض واستدرج مطاعن يطعن بها عليه، ويلوم في اختلاف الأقوال والمواضيع لديه، وأن هذا ليس من دأب أهل الوفاء بما عاهدوا ولا ما وضعوا وكتبوا وقالوا، فعند ذلك أرسل له المؤيد بمقدار دفعة جبل صبر من حضرته[101/أ] لمداواة جرحه، وإلا فإن مع علي بلاداً واسعة وأقطاراً من جهة الشام كافية، ولكن الدنيا غرارة، ولا يزال طالبها لا يقنع بقليلها ولا كثيرها، بحيث أنه كان أهم وتحدث في بلاد الشام إن لم يعد له ما قد وضعه خالف عليه، واستقل في بلاد الشام بالأمر من دون انتماء إليه، ولله در الشاعر حيث يقول:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة .... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
وقد قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وَتُقَطِّعِوا أرْحَامَكُمْ} .