[191/أ] ودفن في جربة باب اليمن في الكناسة التي يضع فيها أهل المدينة الكناسات، لقربه من الباب والطريق.
ومن العجائب أنه استعار مني نسخة سنن أبي داود وقال: يريد السماع فيها، فبقيت عاجباً ورجوت أن إسعافه إلى ذلك فيه إما رجوع عن قوله أو مزيد حجة تقرر عليه في نظره، فسمعها على الفقيه علي بن محمد بن سلامة عن الفقيه هادي بن عبد الله القويعي الحضرمي الشافعي عن مشائخه إلى آخرها ولم يتعرض لمحق شيء فيها، فكانت حجة عليه قائمة، وسنة على بدعته قاهرة، والله أعلم.
وفي هذه الأيام بمدينة عيان حضرة المهدي أحمد بن الحسن، اتفق أن الفقيه يحيى بن حسين الجمالي الحيمي دق جبهته رأس حصانه لما رفعه إليه لقوة صدمته، فمات وهو مع أحمد بن الحسن، والخيل التي ترفع رؤوسها وسلمها مالها إلا السباق يمنعها إلى حرامها. وكان المذكور شاعراً وله قصائد في مدح أحمد بن الحسن كثيرة، وعمل ترثية في المتوكل إسماعيل لما مات، وتهنية لأحمد بن الحسن، مستهلها قوله شعراً:
أحسن الله يا زمان عزاكا
قد ثوى في الثرى هلال سماكا
وفي سابع عشر شهر شوال يوم الأحد توفي السيد العارف عز الدين بن علي بن عز الدين بن حسن بن علي بن مطهر العُبالي الحجي،نسبة إلى بلد العُبال ببلاد حجة وكانت وفاته بمدينة صنعاء، وهو وأقاربه يقولون: إنهم هدوية من أولاد الهادي، ويقول غيرهم: إنهم علوية وبعض السادة الذين سكنوا الأهجر أولاد السيد حسين بن علي بن شرف الدين بن عز الدين بن مطهر الأهجري، وذكروا أنهم ينتسبوا إلى جدهم مطهر هذا من علي بن محمد بن هادي بن أحمد بن محمد بن سليمان بن قاسم بن يحيى بن حسين بن قاسم بن حسين بن قاسم بن يوسف بن الإمام الداعي، ولم أجد هذا النسب في المشجرات أصلاً، وكذلك السادة بنو العوامي ويزعمون أنهم من أولاد الإمام أحمد بن سليمان فلم أجد نسبهم الذي ذكروه في شيء من المشجرات أصلاً، والله أعلم.
وسبب ذلك أنهم أرادوا نكاح من سادة فاطميين من أهل كوكبان، فمنعوا وقالوا: لا بد من معرفة النسب، لأجل الكفاءة، فأتوا بتدريج إلى أحمد بن سليمان أو إلى أحمد بن الحسين ، فلم يوجد في الأنساب ذكر تلك الأسماء جميعاً حتى ولد ذلك الإمام.
كان له معرفة بعلوم العربية من نحو ومعاني وبيان ومنطق وأصول فقه، وكان الرجل فيه التسليم مع مداخلة لبعض الدولة، وكان يدرس في فنه مع حسن العقيدة في الصحابة والأصول، يعتمد على كتب السنة وكتب المعتزلة، جمع بينها وعرفها، وله في التصوف أيضاً معرفة وحسن ظن بهم وبالمسلمين[191/ب]، وكان آخر مدته سريع الدمعة رحمه الله تعالى.
ورفعت هذه الأيام الضرايب التي كانت لعلي بن المتوكل باليمن الأسفل، وضريبة صنوه حسن بحبور، وضريبة محمد بن أحمد بعمران، وضريبة كوكبان، واستقرت ضريبة محمد بن المتوكل بصنعاء، وضريبة الغراس بذمرمر.
وكان علي بن المتوكل أراد النفوذ من ذمار إلى صنعاء، فكتب إليه صنوه محمد أنه يتأخر هذه المدة، فعند ذلك سار إلى ضوران؛ لأن له فيه حلة ، واليمن الأسفل قد بلغ في الغاية من الركة، ولم يلبث أن عاد إلى ذمار.
وفي شوال وقع [في] قَروْى من بلاد سنحان قتال فيما بينهم، فراح منهم جماعة ومصاويب، الغالب قيل: أربعة.
وجهز أحمد بن الحسن المهدي مع الحجاج طريق تهامة السيد صلاح بن عز الدين كاتبه، وأمر معه من الصُّر ما كان قد فعله المتوكل.
وفي شهر القعدة سرج مسجدة النهرين الذي جنب سايلة وادي صنعاء كما سرج الأيام السابقة.
وفي عاشر شهر القعدة اقترن المشتري والزهرة في برج الدلو، وكان المشتري المرتفع.
[192/أ] وفي هذا الشهر خرج المهدي من عيان إلى خيوان راجعاً إلى وطنه الغراس فما زال يترجل قليلاً قليلاً إلى أن وصل الروضة أول يوم بشهر الحجة.
وفي هذه الأيام ظهر مصنف في أصول الفقه سماه صاحبه (زبدة الأصول) لبهاء الدين العاملي الرافضي ، أبان فيها بجهله إظهار مشاركته وأصحابه الإمامية للعلماء، وهو بجهله متناقض عليه. فمن جهله ما ذكره فيها أن خبر الآحاد معمول به، ثم قال في زبدته هذه: وما لا ينتهي إلى المعصوم لا يكون خبراً عندنا، فانظر واعجب من هذا القول الذي لم يقم عليه برهان، لما علم منه البطلان، فإن المعصوم على زعمهم قد قبل رواية الحديث من غير المعصوم وقبل شهادته ويلزم المصنف لا يقبل شهادة غير المعصوم، وهو خلاف المعلوم، ويلزم أيضاً أن لا يحتاج إلى حديث يروى للمعصوم، بل يحتج بقول المعصوم مطلقاً على أصولهم الفاسدة، وهذه مناقضة لأقوالهم بأقوالهم، ويلزمه أيضاً امتناع الاجتهاد منهم؛ لأن الاجتهاد إنما هو للمعصوم فيما يحدث من المسائل لمنعهم لقول غيره، وإن قال بصحة الاجتهاد من أصول الإثني عشر وما جاء من طريقهم، فنقول: الأحق بالاجتهاد من أقوال الله في كتابه وسنة رسوله÷ أن يجتهد ويستخرج الحكم لا من أقوال المعصوم، ونحن نجد ذلك مبيناً ظاهراً مع تسليمكم للاجتهاد من الأصول، فعرفت بطلان أقوالهم. وهذا العاملي له أيضاً لشرح أربعين حديثاً أسندها من طرق الإثني عشر، وزعم أن المهدي المنتظر في مستتر[192/ب] ما قد ظهر، على قولهم الفاسد. وقد ترجم لهذا العاملي الخفاجي في كتابه (الريحانة) ورماه بالزندقة والإلحاد واعتقاد الرفضة، فلا يعتبر بقول العاملي، فإنه من المبتدعة، وما ذكره الخفاجي حقاً فإنه من أهل السنة. ورأيت للعاملي هذا المذكور الرافضي قصيدة ملحونة ضعيفة، تدل على أنه ليس له معرفة في علم العربية، والله أعلم.
وفي هذه الأيام ذكر الفقيه حسن بن محمد المغربي بصنعاء أنه لم يجد دليلاً متواتراً قطعياً في الحجة على إجماع أهل البيت غير آية التطهير على من احتج به في ذلك، وإجماع أهل البيت لا يقول به إلا الإمامية ومرادهم بأهل البيت الإثني عشر لا غير، كما عرف من قاعدتهم، وعند الزيدية جميع علمائهم، وبعض الزيدية وافق أهل السنة أنه ليس بحجة، وبعضهم قال: وإن كان حجة لكن أدلته ظنية، والمسألة مختلف فيها، وإنما الحجة إجماع الأمة مع ما فيه أيضاً من الكلام في كونه ظنياً، والله أعلم.
وفي هذه الأيام لما وقف أحمد بن الحسن على سيرة السيد أحمد الشرفي التي صنفها في سيرة الإمام القاسم وولده المؤيد، وذكر فيها قول الإمام المؤيد ببغي أحمد بن الحسن عليه أيام خروجه، وذكر كتبه ونصوصه، فتغير أحمد بن الحسن من ذلك وقال: هذه السيرة لا يلتفت إليها، فأمر السيد يحيى العباسي الشاعر أن يصنف سيرة أخرى تكون ألفاظها موافقاً للهوى، ففعل السيد يحيى العباسي العلوي ذلك على ما يهواه، وما اشتبه عليه، عرضه عليه وهو يكتبه بخطه، كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فوافق قلباً فارغاً فتمكنا
ولما وصل العباسي إلى وفاة المؤيد بالله وقيام صنوه أحمد بعده قال العباسي لأحمد بن الحسن: ما سبب عدم القيام بدعوة أحمد؟ وما عرفنا ما نكتب حال دعائه لكم، وترك ذكره بياضاً، فطلبها منه وكتب بخطه أن السبب أنه ادعى العصمة، وأن الولاة يكونوا مثله، وليس كذلك، وإنما السبب الذي عرف أنه وغيره من الرؤساء طلبوا ولايات، فلما لم تحصل منه وأجاب بتعذر مطلبهم لم يتم منهم له الإجابة.
وفي شهر القعدة منها أرسل السيد محمد بن علي الغرباني الساكن ببرط رسالة يقول فيها بعد الترجمة وذكر القاسم بن المؤيد وأحمد بن الحسن وأنهما غير كاملين بما عنده ما لفظه:
وكنت دعوت لما عليه من كمال نظامها فيّ، وعدم علمي أنه فيها وفيّ مع كثرة من المرجحات، ووفرة من المصححات، لما رأيت البدع قد حمت على الأبدان صروحاً، وزرَّت على البلدان مسوحاً، ولم يبد عالم في حَنْدسها شعاعاً، ولا بلَّ كاتب بمداد إنكارها يراعاً، بل عميت عليهم يومئذٍ، فهم لا يتساءلون، واشتد العمى على الأكثر منهم عن إنكارها يتهازلون، فدعوت رغباً في الفوز بدرجات السبق الفاخرة، وما أكرم الله به ذويه في الدنيا والآخرة، وترهباً من ظهور الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وتضييع: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} وقول أولي الأمر: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وتصميمهم على تلك البدع وهم يحسبون أنهم مهتدون، وكان كثير من الأنام من العلماء والعوام متوقفاً في صحة إمامتي، متردداً في شمول زعامتي، توهماً لسبق دعوته، ويستمد من المجد لذروته ولم يدر أن دعوتي العادية ضبحاً، المورية قدحاً، المغيرة صبحاً، المثيرة نقعاً، الواسطة جمعاً، السابقة قطعاً، إذ دعوتهما إلى الرضا من[193/ب] آل محمد، ودعوتي إلى نفسي لم تتردد، كما مر جوابه عن نفوسهم، وبعثوا به إلى الآفاق في طروسهم ، فدعوتي خاصة لي بعيني، ودعوتهم مردودة بينهم وبيني، فقد شاركتهم إلى غير المعين، واختصصت بسبق الدعوة إلى من يعين، وهل يختص بالسبق من أنا بشريكه فيه؟ أو يدعي مدع خلاف ما حذر عن فيه! كيف وأنا مدع إلى التفرد باسم الرضا! والمحكوم له في الكتاب والسنة بذلك القضاء، ومن شك في كمال الخلال خلال الكمال فيا لله قل له ليختبرني فيما أراد، فأما أهان الفتى أو أجله، فهذا الحصان يلوك العنان ، وهاك الرهان وهات التعلى، فلست بأمعة في الرجال بسائل هذا وذا إن يدله، ولا أجد
لي في الله لومة لائم، ولا مداهن للأجله، إلى أن قال: والإمامة إنما جعل مناطها التقوى، وشرطها السوي: العلم.
الثاني أوضحه الكتاب أنه الشرط الثاني قصد به الألباب فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} والآن جددت الدعوة التي لم تبلى إلى العباد ورددت {يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِي ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ الله مِنْ عَاصِمٍ[194/أ] وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} ثم قال:
فليعلم كل من بلغته هذه الرسالة، وبرق بصره في هذه المقالة، من أهل العلم والجهل، وسكان الجبل والسهل، إني لا أعذر أحداً من الأنام، من العلماء والعوام ممن صححت لديه إماماً، أو صحت عنده باغياً ظلاماً، عما لا يشك في وجوبه عليه من كان عاقلاً، ولا يمترين في العقاب على تضييعه وإن كان جاهلاً، من الراوي ومنازعي الحوض الروي، الذي لا يظمي وراده، والمرعي المرى الذي لا يطوى رواده، من بين يديه تنزيل من حكيم حميد، وسنة رسوله المروية عن كل ضابط من سند الذين أوجب الله إليها الرجوع عند النزاع، وجعله شرطاً لإيمان به تنزيلاً، فقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول ِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فمن تولى منا عن تحكيم الكتاب والسنة رد إليه، ومن أبى قضائه حل القسر عليه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِْنجِيلَ [194/ب] وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وإني داع إلى المحاكمة إلى كتاب الله، مستعين بكم يا جميع خلق الله، منقاد لحكم الله بأضعف الشعر، مضمن في إمضائه على من أريد من البشر ولا يقال: هذه كلمة حق أريد بها باطل، إذ أنا عن المال والقوه بغير الله عاطل، وإني أنشدكم الله الذي خلقكم وسوى، وألهمكم سبل الفجور والتقوى هل أكون باغياً وأنا أدعو إلى تحكيم كتاب الله؟، وهل يحل لكم تردوا الشارد حتى يفيء إلى حكم
الله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . هذا مضمونها وأكثرها بلفظها، وقال: حررت يوم الإثنين لتسع خلت من شوال سنة ثمان وثمانين وألف ، ثم عقب ذلك بقصيدة مستهلها قوله:
أحمد ربي المهيمن القاهر
ذي النعم الغر والسنا الزاهر
أيها الناس فاسمعوا ثنائي
سماع خاشٍ لربه حاذر
ها قد دعا خمسة وكلهم
قد ادعى أن سهمه العامر
يا أكثرهم جاعل المكوس له
ديناً لديه مضيعها خاسر
يمكس في السوق والطريق جميـ
ـع الناس من مؤمن ومن فاجر
فالجل قدفاً عن تقدمه
ويؤا لوفر ذروة الفاطر
وقلدوا الأمر منهم رجلاً
من دون رُب حاجب باسر
مستأثر مؤثراً لأسرته
كأنما مال ربه هادر
وليس في العلم راسخاً قدماً
إلا أماني يقرح الخاطر
مقسم للبلاد بين ذوي
قرباه كل بقسمه حاجر
أكثرهم جاهل ولايته
خيانة للإله الحاشر
مع ما فيها من الإزحاف وعدم الفصاحة، وقد جعلها ساكنة القافية، وإلا فكان فيها لحن ظاهر، والإنزحاف في قوله: يا أيها الناس، صوابه: أيها الناس، وقوله: اسمعوا ثنائي ،الثناء إنما هو المدح في اللغة العربية والوصف الحسن، وهو قد جعله للشتم والذم.
[195/أ] وساق في القصيدة، وذكر أن هذه الدولة كدولة كسرى وقيصر، ثم بعد ذلك ذكر في هذه القصيدة الثناء على نفسه بالكمال، والصفات المرتضاة في الرجال، وأن غيره في حيز الإهمال، وإنما تشدده لإنشاء هذه الرسالة، والتفوه بهذه المقالة ما ظهر له من عزم أحمد بن الحسن على ترك القصد إليه، وأنه قد صار يريد التعريج والارتحال من حدود تلك البلاد التي لديه، فأمن ذلك الجناب، وجدد الدعوة ومد في الخطاب، واعتقد في هذه الدولة ومن معهم البغي والعناد، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولكنها شنشنة في البلاد اليمنية معتادة، وأحوال الملك لمن أراده من يحط لجانب من خالفه وتزكية نفسه ومن أجابه، والدنيا لو عرفها الإنسان غرارة، والدخول في تكاليفها لا يكمل بها العبد الضعيف ولا يتم له فيها مراده، ولو عرف معنى قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِْنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} لكان عند ذلك يعرف عجزه عن الوفاء بها ولو عرف بقوله تعالى[195/ب]: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} لكان ذلك رادعاً له عن مدح نفسه وتزكيته، ولو عرف بمعنى قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } وقوله تعالى: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وغير ذلك من الآيات القرآنية والسنة النبوية التي يضيق ذكرها هنا؛ لأن هذا تاريخ لا يراد فيه إلاَّ الأخبار، لا المحاججة والجدال، على أن قوله واحتجاجه بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ }
خطأ فاحش من هذا السيد وجهل منه رابش ، لأن الآية لا يجوز لأحد من البشر أن يحتج بها؛ لأنها في سبب خاص، إذ هي في سياق قوله تعالى:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فالهادي الله تعالى لا غيره من هذا العالم المخلوق، فليس إليه هدىً أصلاً إنما الهادي الله تعالى، وكذلك في تلاوته لقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِْنجِيلَ} فهو خطاب من الله تعالى إلى اليهود والنصارى، ومن لم يعرف بدلائل الخطابات، كيف يدعي الإمامات! فأين وغيرك من هؤلاء الدعاة أيها السيد بمعزل عن شروط الإمامة الصحيحة. وأما طعنك في أحمد بن الحسن فهو قد قام أميراً محتسباً، وجمع كلمة المسلمين، وصلح بسببه كلمة المسلمين، وزالت الفتنة التي كانت ثائرة[196/أ]. وبعث السيد محمد الغرباني هذا بتلك القصيدة الأولة إلى بعض الجهات، ويحثُ على الدعا للناس إلى الإجابة له مع تطلبات، وأن الهجرة إلى حضرته كالواجبة على زعمه والقيام بنصرته، وفيها بعض تحويل للقصيدة السابقة، وذم فيها دولة أحمد بن الحسن وولاته وأتباعه، وهو لم يشعر أن هجرته التي هو فيها مما يجب بالإجماع الهجرة عنه؛ لأن فيها أحكام الطاغوت ظاهرة شاهرة، والشريعة فيها إنما هي لمن شاء من أهلها على سبيل المراضاة لا القهرية، ولا الأخذ من الحاكم إن وجد فيها عليهم باليد القوية، فالعقود بينهم على هذه الصفة لا تحل؛ لأن أحكام الطاغوت كفرية، بنص الله تعالى في كتابه العزيز، حيث قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } ونحوها من الآيات الكريمة في الطاغوت، والصفات الذميمة هذا حيث كان دعاك إلى الهجرة