ومهما كان الأمر فإن محمد بن الحسن أرسل إليهم حملة عسكرية مرة أخرى بقيادة علي بن الهادي بن الحسن المحرابي، الذي طلب منهم في البداية إعلان طاعتهم للدولة، إلاَّ أنهم رفضوا ذلك، فرأى المحرابي أنه لا بد من محاربتهم وإخضاعهم بالقوة. فلما رأوا قوة الحملة العسكرية وكثرة الجنود، علموا أنهم لن يتمكنوا من مواجهتهم، فهربوا إلى يافع. وحاولوا مرة أخرى الاستنجاد بيافع، إلاَّ أنهم أجابوهم مثل المرة الأولى، بعدم قدرتهم على نُصرتهم.
وكرَّر المحرابي مراسلتهم بالعودة إلى بلادهم وإعلان خضوعهم وطاعتهم للدولة، إلاَّ أنهم اعتقدوا بأن المحرابي إذا بقي طويلاً في بلادهم فلن يجد ما يكفي العسكر ويضطر إلى العودة من حيث أتى، ثم يعودوا هم إلى بلادهم. غير أنه لما طال البقاء بالمحرابي في الشعيب، ولم تجب قبائله لما طلبه منهم، كما أنه لم يجد الزعماء والمشائخ الذين يُعتمد عليهم في أخذ الطاعة، عند ذلك أمر بهدم منازل الهاربين ومعاقلهم، وبالفعل هُدمت كثير من تلك المنازل. فلما علم الهاربون بذلك عادوا إلى بلادهم وأعلنوا الطاعة. واتجهوا إلى محمد بن الحسن لتأكيد طاعتهم، وأنهم سيؤدون ما عليهم من واجبات ومقررات للدولة، فكافأهم محمد بن الحسن على قدومهم إليه، وإعلان طاعتهم، فأمر أن لا يؤخذ منهم شيء من الحقوق التي للدولة حتى تُعمر بلادهم، وتعود كما كانت قبل أن تُهدَم.
الاستيلاء على بني أرض
بعد أن حقق الإمام المتوكل جزءاً مما كان يخطط له، وهو توسيع حدود الدولة جنوباً إلى عدن، وإعادة منطقة الشعيب تحت سيطرة الدولة القاسمية، كان لا بد له أن يواصل ذلك التوسع للسيطرة على بقية المناطق الشرقية والجنوبية.
ومن الملاحظ أن الإمام المتوكل قبل إرسال حملات عسكرية إلى منطقة ما لإخضاعها كان يسبق ذلك بالرسائل المتكررة لمحاولة إدخال هذه المناطق تحت سيطرة الدولة بالطرق السلمية، فكما سبق أن رأينا أولاً في لحج وعدن كيف راسل صاحبها الحسين بن عبد القادر، ولما لم يجد فائدة من المراسلة، وجد المبرر المقنع للاستيلاء عليها، وكذلك منطقة الشعيب. وهنا في بني أرض لا شك أنه لم يجهز الحملات العسكرية لإخضاعها لسيطرة الدولة، إلاَّ بعد أن قام بالعديد من المراسلات لإدخالها تحت سيطرة الدولة سلماً.
وقد ذكرت المصادر التي بين أيدينا أسباباً مختلفة للاستيلاء على بلاد بني أرض، فنجد المؤرخ الجرموزي يسهب في ذكر الجهل، وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية الصحيحة في بني أرض ويافع. وأن الإمام المتوكل قد راسل زعماء ومشائخ هذه الجهة، ودعاهم للدخول في الطاعة، وتطبيق الشريعة الإسلامية الصحيحة، والخطبة له.
وكان الشيخ حسين الرصاص أمير بلاد بني أرض، قد رفض الدخول في طاعة الإمام والخطبة له. عندها لم يجد الإمام المتوكل "عذراً عن قتالهم، ولا بقي له ولأهل جهته المذكورة حجة". وكان الرصاص قد عظم شأنه، وتغلب على خصومه من العوالق ومراد وغيرهم، فهابوا جانبه وأرسلوا له الهدايا.
ويذكر يحيى بن الحسين بأن الإمام إسماعيل أرسل الرسائل إلى الشيخ الحسين بن أحمد الرصاص للدخول في طاعته، إلاَّ أنه أجاب على تلك الرسائل بقوله: "هذا لا يتقدر له الطاعة، ولا الائتمام، بل بيننا وبينه السيف والدفع لمن وصل والإلمام".
وعلى الرغم من أنه قد رفض مساعدة الشعيب خوفاً من الإمام، لكنه هنا رأى أن الأمر متعلق بمنطقته هو.
أما ابن عامر فيذكر بأنه: لما أراد الإمام دخول جيشه إلى حضرموت، كما سبق أن ذكرنا، كاتب الشيخ حسين الرصاص للسماح لجيش الإمام بالمرور من بلاده. وكان الرصاص له شوكة قوية، فرفض طلب الإمام، وقال: إذا أراد الإمام التوجه إلى حضرموت فيدخل من بلاد الجوف، ويخرج من بلاد العوالق، وإلا فالحرب بيننا وبينه. ويقول يحيى بن الحسين: "وهو أقرب جهة إلى هذه الجهات، وأول باب تلك المشارق النائيات". وتعتبر بلاد الرصاص أول تلك المناطق التي كانت تسيطر على البلاد، من بلاد بني أرض إلى مدينة البيضاء.
وكان بجانبه الهيثمي من دثينة، ثم العولقي إلى الشرق، ثم إلى الواحدي. وفي الجنوب الغربي من دثينة كان الفضلي.
ومهما كانت الأسباب، فإن الإمام المتوكل قد عقد العزم على إدخال هذه المنطقة تحت سيطرة الدولة. وبما أن الرسائل لم تجد نفعاً، فلا بد من الحرب وإرسال الجيوش لإدخالها بالقوة.
فاستدعى أبناء إخواته في بداية عام (1065ه/1654م) وأمرهم بالتوجه إلى المشرق، وإدخاله تحت طاعة الدولة، فاستجاب أولاد إخوته لدعوته، وتوجهوا إليه في ضوران. وكان أولهم محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن والحسين بن الحسين، وذلك للتدوال حول كيفية الإعداد لمحاربة حسين الرصاص، وإخضاع منطقته لسلطة الدولة.
وعلى الرغم من الانتنقادات التي وُجهت للإمام المتوكل حول دخول المشرق. وأنه لم يحن وقته بسبب الجفاف الذي أصاب البلاد حينها من جانب، والخوف من عواقب ذلك الدخول من جانب آخر. ربما لقوة الرصاص باعتباره أقوى الزعامات القبلية الموجودة في المشرق. وأن بإمكانه جمع القبائل الأخرى المجاورة لمواجهة الدولة القاسمية. غير أن المتوكل كان ذو نظرة ثاقبة، إذ كان يرى أنه لا بد من القضاء على أقوى الزعامات القبلية في المشرق، والمتمثلة في حسين الرصاص؛ لأنه بعد القضاء عليه أو إخضاعه ستخضع الزعامات القبلية الأخرى لطاعة الإمام، لعدم قدرتها على مواجهة هذه الدولة القوية. وهو ما حدث كما سنرى.
ومن الجانب الآخر كان الإمام المتوكل لديه الثقة الكاملة بأن أبناء إخوته-خاصة محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن-كانوا يبذلون أقصى الجهود من أجل تحقيق التوسع الذي كان يطمح إليه، وكانوا يداً واحدة، ويعملون في صف واحد. ولم توجد خلافات أو مشاحنات فيما بينهم، لذلك كله تحقق ما كان يخطط له الإمام المتوكل.
ومما لا شك فيه أن التفاف أبناء إخوة الإمام حوله، ينم عن شخصية قوية كان يتمتع بها الإمام، فأعطاهم صلاحيات قد لا تتعارض مع كونه إماماً، له الرأي الأول والأخير، إلاَّ أنه أشبع رغبات كل واحد منهم، مما أوجد الثقة في أنفسهم، وزاد من حماسهم لتحقيق دولة قوية متماسكة، تتوسع حدودها أكثر من ذي قبل كلما سنحت الفرصة لذلك.
ونتيجة لكل ما سبق نجد أن الإمام المتوكل ما إن أمر في شهر صفر سنة (1065ه/1654م)، بأن يتم إعداد الجيش لدخول المشرق، حتى نهض جميع أبناء إخوته بلا استثناء، وعلى الرغم أن الجهد الأكبر تحمله محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن، إلاّ أن الجميع أبلى بلاءً حسناً في ذلك. وكان هذا من أهم أسباب نصر قوات الدولة القاسمية، كما سنرى.
ومهما كان الأمر فإن الإمام المتوكل عندما أخفق في إدخال الرصاص تحت طاعة الدولة بالطرق السلمية، ولما رأى إصراره على الحرب لم يجد بداً من إرسال الحملة العسكرية لمحاربته، وإخضاعه بالقوة. وبعد أن وجه الإمام أوامره إلى أبناء إخوته بذلك اتجه محمد بن الحسن وإخوته أحمد بن الحسن والحسين بن الحسن إلى ذمار، ((وجمعوا عساكرهم وخيلهم حتى غصت ذمار بمن فيها، وكذلك الحصين امتلأت جوانبه عرصاته عسكراً وخيلاً)).
كما استعد محمد بن الحسين بمن معه من العسكر في جهات حراز، وهي تحت ولايته. وكذلك محمد بن أحمد بن القاسم استعد بمن معه من العسكر، وصاحب كوكبان كذلك استعد بعسكره. ((فاجتمع الكل زهاء عشرة آلاف وألف حصان، وهي جملة جنود أهل اليمن هذا الزمان. وأكثر الخيل لمحمد بن الحسن)).
ومن البديهي أن يعين الإمام المتوكل ابني أخيه محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن لقيادة هذه الحملة، باعتبارهما أكفأ آل القاسم في ذلك. ومنحهم صلاحيات كبيرة. وخرجت الحملة متجهة إلى رداع في بداية شهر ربيع الأول سنة (1065ه/1655م).
إذاً كان الاستعداد هذه المرة أكثر ضخامة من المرات السابقة وفاقت هذه الحملة الحملات السابقة، بسبب قوة الرصاص، ومقدرته على جمع أكبر عدد من المقاتلين من القبائل المجاورة له.
وقد برهنت الأحداث أن الإمام وأبناء إخوته كانوا مدركين لما سبق ذكره. وأن هذا الإعداد كان لا بد منه، فما أن سمع الرصاص بالإعداد لحملة عسكرية والخروج إلى بلاده حتى استعد لمواجهة تلك الحملة، وجمع من قبائله عدداً كبيراً. واستنجد بالقبائل المجاورة له مثل: العولقي والهيثمي ويافع. وكان لابد لهذه القبائل أن تقف إلى جانب الرصاص وتؤازره؛ لأن هزيمة الرصاص ستكون هزيمة لها. وستتمكن الدولة القاسمية من إخضاع هذه القبائل بسهولة، لأنها لا تتمتع بالقوة التي كان يتمتع بها الرصاص، ومنطقته تعتبر خط الدفاع الأول لبقية المناطق القبلية الأخرى، كما رأينا سابقاً.
ومهما كان الأمر فقد قامت مجموعة من قوات الدولة القاسمية باحتلال إحدى المدن الهامة التابعة للرصاص، وهي مدينة الزهراء. كان الرصاص قد استولى عليها من قبيلة قايفة، وضمها إليه بالقوة. لذلك استغل الشيخ الزين بن مصعب القايفي، شيخ قايفة هذه الفرصة، ليستعيد هذه المدينة المأخوذ منه عنوة، فأرسل رسالة إلى محمد بن الحسن يطلب مساعدته في الاستيلاء على الزهراء، وأنه يخشى أن يسبقه إليها الرصاص ومن معه من سلاطين المشرق، فوافق محمد بن الحسن على ذلك، وعين لقيادة الجيش صلاح بن محمد الديلمي والشيخ حسين بن صالح الحيمي، فقدموا إلى الزهراء ليلاً، وكان بها حامية عسكرية تابعة للرصاص، لكنها لم تتمكن من الصمود، فهربت وسقطت المدينة تحت سيطرة القوات الإمامية. وكان هذا أول نصر تحققه الدولة ضد الرصاص.
أما الهزيمة الثانية التي مُنيت بها قوات الرصاص فكانت في منطقة تسمى (ذي كريش). وكان الرصاص قد أرسل أخاه الشيخ صالح الرصاص، ومعه خمسمائة لحمايتها، لكنهم هُزموا وهرب صالح الرصاص ومن معه من هذه المدينة، بعد أن احتلتها قوات الإمام. وبذلك أصبحت مدينتان هامتان تحت سيطرة الدولة القاسمية.
وكان الرصاص قد عسكر في منطقة تسمى (نجد السلف)، بمن جمع من قبائله ومن انضم معه من القبائل المجاورة، ووصل عددهم إلى أكثر من ثلاثين ألف. وألزم كل قبيلة بأن تنقل معها إلى هذه المنطقة أُسرها وحيواناتها. وأن تنصب لها الخيام من أجل ذلك، وتكون في شعاب قد أعدها لها بالقرب من مخيمه. وكان هدف الرصاص من ذلك حتى لا تفكر هذه القبائل في الهرب أو الهزيمة.
ومن رداع قام محمد بن الحسن بمحاولة أخيرة للحيلولة دون الحرب مع الرصاص والقبائل الأخرى، ودخولها في الطاعة سلماً، فأرسل إلى الشيخ حسين الرصاص يطلب منه الدخول في طاعة الإمام في مقابل إبقائه على ما تحت يديه من المناطق، غير أن الرصاص كان قد أرسل إلى أحد زعماء الصوفية في حضرموت يُسمى الحبيب سالم ابن أحمد من آل باعلوي في منطقة (عينات) يستشيره ماذا يكون الجواب على الإمام، فأجاب عليه بقوله: "سمعنا وعصينا، وأبى سالم وأبينا". عند ذلك لم يجد محمد بن الحسن وأخوه أحمد بن الحسن بداً من انطلاق الجيش لمحاربة الرصاص ومن معه، بعد فشل جميع المحاولات السلمية.
ولم تكن كل القبائل مع الشيخ حسين الرصاص، فهناك من القبائل من ساعد أحمد بن الحسن وجيشه ضد الرصاص، ولو خفية. ومن المرجح أن مساعدتهم لجيش الدولة القاسمية كان من ضمن العوامل التي ساعدت على النصر الساحق فيما بعد، كما سنرى. من هؤلاء على سبيل المثال شيخ بني غيلان وشيخ الملاجم، الذين كانت منطقتهم تقع حول نجد السلف، حيث تقدموا إلى أحمد بن الحسن خفية ودلوه على مكامن ضعف الشيخ الرصاص. وأنهم متخلون عن نصرته. كما تقدم إلىأحمد بن الحسن حوالي ألف مقاتل من قايفة وبني ضبيان، وانضموا إلى جيش الدولة القاسمية.
وكان الطرفان على أهبة الاستعداد للحرب، حيث كانت قوات الإمام في الزهراء وذي كريش، ومن تبقى في رداع. بينما الرصاص ومن معه معسكرين في نجد السلف.
ويبدو أن أحمد بن الحسن قد تعمد تأخير المواجهة مع الرصاص بغرض امتصاص اندفاع وحماس أنصاره للقتال، ونفاد صبرهم وتمويناتهم. وفعلاً سئم الرصاص ومقاتلوه الانتظار في نجد السلف، فاضطر إلى إرسال جزء من قواته إلى ذي كريش لاستفزاز الجيش القاسمي والتأثير على معنوياته. إلاّ أن استعجاله كان من أسباب هزيمته فيما بعد، فيقول يحيى بن الحسين، "فاستعجل في أمر كانت له فيه أناة". فبعد أن أمر الرصاص بغزو قرية ذي كريش في الليل وقع الحرب بين الطرفين. وكان ذلك سبب تحرك جيش الإمام، حيث توجه على الفور إلى الزهراء، التي كانت قد استولت عليها قوات الدولة القاسمية من قبل، كما أسلفنا، وما زال أحمد بن الحسن يخاطب الرصاص بالدخول في طاعة الإمام، وأن بلاده تبقى تحت يده، لكنه رفض كل العروض والمطالب. وتقدم الجيش القاسمي عند ذلك إلى نجد السلف في 4شهر ربيع الآخر من سنة (1065ه/10 فبراير 1655م). ولن ندخل في تفاصيل دقيقة حول كيف كانت الحرب بين الطرفين، إلاّ أنه دارت هناك معركة حاسمة لصالح قوات الدولة القاسمية بقيادة أحمد بن الحسن، فلما شعرت القبائل المجاورة، التي شاركت في المعركة بتلك الهزيمة هربت متخلية عن نصرة حليفها الرصاص، خوفاً من أن تُحاصر. ولم يثبت في أرض المعركة إلاّ الرصاص وقبائله. وقد قاتل ببسالة، لكنها رجحت كفة جيش الدولة القاسمية بقيادة أحمد ابن الحسن. وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للطرف الآخر. وقُتل حسين الرصاص، وأُرسل برأسه إلى الإمام المتوكل في ضوران.
وأسفرت المعركة بالطبع عن قتلى من الجهتين، غير أن المصادر التي بين أيدينا تذكر أن عدد القتلى من جيش الدولة القاسمية يقدر بنحو ستين نفراً.
ومن البديهي أن ينتهب جيش الدولة بعد انتهاء المعركة ما وجده من الغنائم في معسكر الرصاص، خاصة أنه وقبائله قد أتوا إلى نجد السلف محملين بأمتعتهم وسلاحهم، وحتى نسائهم.
أما صالح الرصاص شقيق الشيخ حسين الرصاص فقد هرب بعد الهزيمة، وأخذ معه النساء إلى البيضاء.
وبعد انتهاء المعركة كان لا بد لأحمد بن الحسن أن يواصل تقدمه إلى البيضاء ويخضعها لسلطة الدولة سلماً أو حرباً.
ولكن مما لا شك فيه أنه بعد الهزيمة الساحقة ومقتل الرصاص، فإن شقيقه صالح لن يفكر في مقاومة أحمد بن الحسن وجيشه، وتقدم أحمد بن الحسن إلى منطقة تسمى (الصلالة)، ما بين نجد السلف والبيضاء. وكان قد استولى عليها شرف الدين، من أتباع أحمد بن الحسن ومعه حوالي مائتين وخمسين، دخلوا الصلالة ليلاً وغنموا منها ما لا يُحصى، لأنه كان بها مخازن الحبوب التابعة للرصاص. ثم تقدم أحمد بن الحسن وجيشه إلى البيضاء يوم الخميس 11 شهر ربيع الآخر سنة (1065ه/ يناير 1655م)، ولما استقر بها كان أول ما قام به أن أرسل من تبقى من النساء والأطفال إلى صالح الرصاص، وهو في منطقته وتسمى (عبرة)، من الجبال المتصلة ببيحان.
وبعد مراسلات وشروط وضعها صالح الرصاص للوصول إلى أحمد بن الحسن، الذي أرسل يستشير أخاه محمد بن الحسن، ثم استشار الجميع الإمام المتوكل، فأجاب عليهم بقبوله والإحسان إليه من دون شرط معين. وكان الرصاص يريد أن يكون له ما كان لأخيه حسين من البلاد، غير أن أحمد بن الحسن أجاب عليه بانه لن يأخذ إلا ما أراده الإمام من البلاد وغير ذلك.
فتقدم صالح الرصاص إلى أحمد بن الحسن وهو في البيضاء، وأكرمه وأعاد إليه بعضاً من بلاد البيضاء، وقرر له رواتب، وبذلك دخلت بلاد بني أرض والبيضاء جميعها تحت سيطرة الدولة القاسمية.
ومما لا شك فيه أن النصر الذي حققه الجيش القاسمي في هذه المنطقة يعد ذو أهمية كبيرة، إذ أنه من جانب زاد من سمو مكانة الإمام المتوكل وهيبته لدى الخاصة والعامة، ودلل على قوة هذه الدولة وهيبتها لدى القبائل التي تقع مناطقها تحت حكم الدولة القاسمية. كما زاد هذا النصر من مكانة محمد بن الحسن وأحمد بن الحسن المادية والمعنوية، إلى جانب بقية أبناء إخوة الإمام، الذين أبلوا بلاءً حسناً في إخضاع هذه المنطقة مثل: محمد بن الحسين، والحسين بن الحسن وأحمد بن محمد بن القاسم، وغيرهم.
أما القبائل التي كانت خارج سلطة الدولة، فقد داخلها الخوف بعد هزيمة الرصاص، الذي كان يعتبر القوة الرئيسية في المنطقة، وتمكنت الدولة من قتله وإخضاع منطقته بالقوة، وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون هذه القبائل هي المستهدفة بعده، خاصة أنها كانت لا تتمتع بنفس القوة التي كان يتمتع بها الرصاص، لذلك أحدث هذا الانتصار ردود فعل قوية لدى زعماء ومشائخ المناطق المجاورة للرصاص، فلن تفكر في الدخول في حرب مع الدولة، أو مقاومة جيشها. وأنه لا بد أن تدخل سلماً في طاعتها، فبعد أن استقر أحمد بن الحسن في البيضاء وراسل صالح الرصاص بشأن إعلان طاعته، وصل إليه رسالة من السلطان منصر بن صالح العولقي يعلن فيها طاعته وولاءه للدولة القاسمية، فأجابه أحمد بن الحسن بالقبول. وأمر بالمنادي في المخيم أن العولقي بلاده من جملة بلاد الإمام. كما وصل ابن الفضلي فأمنه أحمد بن الحسن، وجعل له ولاية بلاده. ثم أرسل الرسائل إلى بقية حكام المشرق، فوصل إليه منهم أيضاً وأنهم معلنون الولاء والطاعة.
أما سلطان حضرموت بدر بن عبد الله الكثيري، الذي كان قد تغلب على عمه بدر بن عمر وأخذ منه السلطنة وحبسه، فما أن سمع بما حققته الدولة من نصر حتى أرسل الهدايا والرسائل التي تدل على ولائه وطاعته للدولة القاسمية.