وفي شهر ربيع الآخر منها أرسل حسن بن المتوكل من[109/ب] رازح إلى صعدة بحُلَّة من أهله، وأنهم يسكنون بدار مطهر بأمر من الإمام، كان ظهر، فتغير خاطر علي بن أحمد من وصوله ودخوله؛ لأجل ما قد جرى من مضاررته له حين قدومه؛ ولأجل إخراجه من دار مطهر، فإنه شق به الأمر، وعظم عليه الخطب والقهر، لما كان الله تعالى قد قرن بالخروج القتل، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} وكان نية الإمام تضعيف يد علي بن أحمد والعزل، من جميع نواحي ما إليه في صعدة من النهي والأمر والعقد والحل، وأن بلاد الشام تكون كلها إلى ولده الحسن، فعند ذلك أمر بردهم، وكتب إلى الحسن بن الإمام وقد صار في مَجْز كتاباً مضمونه: أني كنت قد نهيتك عن دخول صعدة، والوصول هذه المدة فأنت مخير إما رجعت من حيث جئت، أو وصلت وعلينا تأمينك في الطريق إلى اليمن عند والدك، أو الحرب بيننا[110/أ] وبينك ومناجزتك، فسعى الساعي بينهم أنه لا ينبغي رد أهله وقد وصلوا إلى باب صعدة، غير أنهم يدخلون ويسكنون في دار محمد بن الحسن، فأدخلوهم إليه وسكنوا فيه، وأما حسن بن الإمام فإنه عاد من مجز يريد إلى سَاقَيْن من أجل حوائجه التي قد بلغت إليه، فمنعه عن ذلك أهل عُرْو ، لما وصل إليهم، وقالوا له:يكون المبيت عندنا ولك النظر من بعد. وكانت وصلت كتب علي بن أحمد إلى أهل عرو بمثل ذلك، وأنهم يمنعونه النفوذ إلى هنالك، فلما أصبح الصباح كثرت عليه الأراجيف والقبائل، فامتنع عن دخول ساقين، وسار راجعاً إلى جهة رازح، لا يريد إلا النجاة، وترك الأمر الذي كان يهواه، وسار صحبته جماعة من بني بَحْر على صفة الرفقاء له، حتى تخلص إلى بلاد رازح، ثم قصد علي بن أحمد إلى ساقين، لأجل الاستيلاء على أصحاب حسن المتأخرين[110/ب] ومعهم

فيها خزانة حسن بن الإمام التي جاء بها من رازح، فوقع الحرب بين الفريقين، أصحاب حسن وعلي بن أحمد، فراح أربعة من أصحاب علي بن أحمد، ومن أصحاب حسن واحد، ثم استولى علي بن أحمد عليهم وأمَّنهم وأُسَرهم، وانتهب الخزانة .
وكانت هذه القضية أعظم حادثة في مدة هذا الإمام وإيقاظ الفتنة وهي نائمة ولا سيما بين الأقارب والأرحام. ولما وقع هذا الحادث الذي جرى، بعد أن قد كان جمع القبائل من سحار وآل عمار حال خروجه من صعدة، وأخبرهم بما هو سائر فيهم من العدل، وعدم الجور عليه، وما عليه حسن بن الإمام من السيرة المكروهة، وأن الإمام قد اشتدت به الآلام، واختلت إمامته هذه الأيام، وأنه يريد الدعاء إلى نفسه بالقيام[111/أ]، وأنه طالب منهم المناصرة والنصح التام، فأجابوه إلى ما طلبه منهم، وعقدوا له البيعة وأنه الإمام فيهم، وتلقب بالمنصور بالله، ثم أمر جماعة إلى بلاد رازح لمضاررة حسن بن الإمام، وإخراجه من ذلك المحل، ولا يبقى له فيها نفوذ كلام، وخلع إمامة الإمام إسماعيل وأجابته قبائل الشام ، ودخلت في أوامره ونواهيه إلى حدود بلاد سفيان وما إليه. وانقطعت أوامر الإمام إسماعيل فيه بالمرة، وتغلق حكم الشام أجمع في هذه المدة، ففرح بهذا كثير من الناس، لما قد نالهم من التقصير من جانب الإمام وأولاده في هذه الأيام، وقبلها وما قد كابدوه من الصبر والتقصيرات الكثيرة في أكثر أوقاتها[111/ب].

ووصل من علي بن أحمد كتاب إلى أحمد بن الحسن يومئذٍ، من جملة قوله: قد عرفتم ما صار يجري في هذه السيرة من الأمور المخالفة للكتاب والسنة، وأن الإمام المفترضة طاعته لها شروط معتبرة، من اتصف بها وجبت طاعته، ومن خالفها فليس بإمام مفترض الطاعة. ثم إن في هذا الأوان طرأ على الإمام -لو فرضنا استقامة السيرة- ما هو مبطل لإمامته، وذلك هو الزَّمانة المفرطة والعجز والركة، حتى ضاعت بسبب ذلك أمور المسلمين، وأهملت حقوقهم، فحينئذٍ نهضنا بعد الاستخارة والدعاء إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيرة الأئمة الراشدين، والدعاء إلى الرضا من آل محمد، فإن وجدنا من هو أرضى منا وأقوم بحق الله اتبعناه وبايعناه، وإلا فنحن قائمون بما يجب بحسب جهدنا وطاقتنا، وأنتم بأمر الله يجب عليكم القيام بما يجب غير معرجي على ما يفوت من الملك والدنيا، وصدرت من ساقين بعد الوصول إليه، وقد أجابنا إلى ما دعونا إليه كافة أهل الشام من سنحان وخولان وهمدان ومن جُماعة وسائر أهل الشام، وفي ملحق بخط يده المراد أن النظر في هذا الأمر متعين عليكم، وقد عرفتم وتحققتم أن الأمور على غير طريقة، والوجوب متعين عليكم، فإن عرفتم من أنفسكم النهضة بهذا نهضتم وأظهرتم الدعوة، ونحن متبعون على البر والتقوى.

ثم في ملحق ذكره آخر يقول فيه: إلى الصنو أحمد بن الحسن -حماه الله-المقصود أن الأمور قد صارت مختلة بلا شك، ولا يجوز للجميع من جهة الله السكوت عليها والحال هذا، والصنو[112/أ] العلامة قاسم بن المؤيد بالله ذكر لنا أنه قد كتب إليكم، وأشبع لكم الفصل ومنتظر لجوابكم، ولا تزال المكاتبة بيننا وبينه في هذا الشأن، وكذلك الصنو يحيى بن حسين بن المؤيد بالله لما وصل إلينا إلى صعدة قد حصل التراود بيننا وبينه في هذا الشأن، ووجدنا عنده ما لم يكن عندنا من الأمور القادحة، فإن بنيتم على اجتماع الكلمة حصل التراود فيمن يقوم بهذا الأمر، وإن بنيتم على ترك القيام بحق الله فقد بنينا على استدعاء السيد محمد بن علي الغرباني صاحب برط، ونختبره وننظر ما عنده.
وأجاب عليه أحمد بن الحسن بأن كان عليك المراجعة قبل هذه الخرجة.
وعند ذلك وصل كتاب المتوكل إلى أحمد بن الحسن بنهضة إلى الشام على علي بن أحمد يقول فيه: بعد الترجمة وبعد فإنه احتاج الحال إلى تدارك هذه الأمور العظيمة، والحسم لمواد مفاسده الجسيمة، قال: وقد سبق إليكم صحبة السيد صلاح بما فيه كفاية، ولكن الحال كما بلغ إلينا قد بلغ الغاية، فالبدار البدار البدار بالارتحال، والسرعة السرعة قبل أن يقع والعياذ بالله الإخلال.
وذكر أبياتاً من الشعر متمثلاً بها، ومادحاً لأحمد بن الحسن، ومثيراً لعزيمته فيها، وقال: حرر تأريخه ثالث وعشرين شهر جمادى الأولى سنة 1077هـ.

وعند هذا الجاري من الخروج على الإمام المتوكل صدق قولنا بأن اليمن لا ينبغي لصاحبه أن يتشاغل بالقصد إلى غزو إلى بلاد غيره والخروج عنه؛ لأنه كثير الاختلاف والمعارضات والدعوات، والكثير من أهله كامنة فيهم طلب الرياسات، ولذلك صح قول[112/ب] بعض ملوك بني رسول لما اطلع بعض خاصته على ما جمعه من الخزائن والمحصول، فقال ذلك الرجل للملك: لو تريد فتح مصر بهذه الخزائن الكثيرة فما الذي يصدك عنه وهي هكذا مجموعة؟ فقال مجيباً عليه: هذه تحتاج لمن يعارض في اليمن بأقداح الشعير من الخارجين فيه عند الإهمال والتقصير، فاستصوب رأيه ورجع إلى قوله.
والكل إخوان وأقارب، لكن الملك عقيم والمحملين عليه لا يزالون في كل وقت لهم فيه القول الجسيم، لا سيما أهل الأطماع والرعاع من الناس الذين يحثون إلى الأهواء، والله يصلح كل فساد ويلم شعث المسلمين.
وسبب هذا الأمر من علي بن أحمد أن الإمام لما وقع[113/أ] منه الكتاب إلى ولده الحسن أنه يتقدم إلى جهات صعدة ويقرب من ضبط القبائل الذين صاروا يفسدون في طريق العمشية لإهمال علي بن أحمد لهم وعدم مبالات القبائل لأمره فيهم لما هو عليه من مصالحتهم والإستظهار لأمره بهم، وصار ما يجري منهم من الفساد ونهب أموال العباد يتغاضى له أو يرضى به لأول مطابقته لهواهم والاستظهار بهم وهم مالوا إليه واستنصروا به لما أحسوا بأن الإمام صار في نفسه عليهم من جهة سوء أعمالهم، فحملوه على الدعوة وأن يكون إمامهم، وصار كما قال شاعرهم:
لهوى النفوس سريرة لا تُعلم

ولم يجبه من الفضلاء من يعتمد عليهم، وإنما انقاد له هؤلاء ممن ذكرناهم، وكانوا ممن دخلوا في سلك الحديث عنه÷: ((الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها )).[113/ب]

واتفق عند هذا أن أحمد بن الإمام أراد إخراج رصاص من المخزون في حصن شهارة، كون أمرها ونهيها إليه، فاعترضه قاسم بن المؤيد، وعَصَّب معه أهل شهارة، وقالوا: هذا معدود بشهارة لا يخرج عنها، فافترقوا على غير طيبة نفوس بينهم.
وفي سلخ جمادى الأولى أخرج أحمد بن الحسن الوطاق، وبرز به خارج الغراس لقصد علي بن أحمد على مقتضى أمر الإمام إلى تلك الآفاق.
وفرق محمد بن الإمام على أهل سوق صنعاء دراهم لمن يسير منهم، معهم فتضرر من تضرر منهم بما فرق عليهم، لما حصل من الزائد والناقص لا على قدر أحوالهم.
وفي ليلة الجمعة وقت السحر وأول الفجر خامس شهر جمادى الآخر سنة سبع وثمانين وألف مات الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم بن محمد بجبل ضوران، وكان مرضه وانحطاط قوته يوم الثلاثاء والأربعاء، والخميس تنفس، واتفق به جماعات وابتهج وبش، وكان ضعفه قد أوهاه وقل قواه من ذلك الألم الذي طال به من الباسور، وكان وصول الخبر مدينة صنعاء صبح يوم السبت بوفاته ومضي دولته وأيامه. وقبر صبح يوم السبت في جبل ضوران، وكان مولده كما ذكره[114/أ] السيد إسماعيل بن إبراهيم جحاف ونظمه بقوله:
أوفى البرية عند الله ميزانا
فهاك تاريخه في شهر شعبانا

خليفة الله إسماعيل مولانا
في ليلة النصف من شعبان مولده

يريد بذلك سنة تسع عشرة وألف.
وكان في مدته أحوال الناس ساكنة في غالب وقته، لم تحصل له معارضة في أمره؛ لأجل قيام أولاد إخوته بنصرته، وحفظهم لما أمرهم به من البلاد بعساكرهم وعساكره.

فلما مات محمد بن الحسن، تقاصرت أحوال كثير من الناس، وتغيرت عليهم الأحوال، وما ألفوه من العطاء والقرب لبعض الأغراض والموافاة والعادات، فشق على كثير تلك الحالات، وعسرت عليهم كثرة المراجعة والملاحقات، فمنهم من صبر وأخذ بعد العسرة ما صدر، ومنهم من زرع ماله واشتغل عن الطلب في أكثر أحواله، وكثر منهم التشكي والتوجع ولكن لا يجدي ذلك، كما قال المتنبي شعراً:
تعبت في مرادها الأجسادِ

وإذا كانت النفوس كباراً

وحصل بسبب ذلك بعض الإهمال وعدم النفع، ولولا أن مملكة اليمن لم يبق فيها من المعارضين، والملوك الذين كانوا فيما مضى كائنين، لكان بسبب ذلك الخلل العظيم، ولمال من الناس عنه من يميل، إلا أن الأمور لما اجتمعت لأولاد إخوته وهم معاضدون له استقامت لهم الأمور واجتمعت الكلمة في هذه الدهور.
[114/ب]وللسيد أحمد بن محمد الآنسي الشاعر قصيدة طويلة منها قوله:
أما الإمام أصلح الله دولته

وزاده بسطة ما أورق العود

فقد أجاع ذويه ثم قال لأبناء
العراق عودوا للنديم عودوا
وفي الخزائن مالا عد يحصره

ولا حواه ابن مودود ومودود

ما بالخليفة من قل ولا بذوي الْ

حاجات من قبل لو يسعد الجود

كم فارق الباب من شيخ ومن حدثٍ

باك وكم آب بالحرمان مطرود

وكم تلونت الحرباء بوجه فتى

فؤاده من هوان الباب مفؤود

وإن سمعت بفتح الباب آونة

فلا تلجه فباب البذل موصود

تجاوز النفر الأدنى بنائلة

وفاز منه بحظ الأبيض السود

فكم من الشحر أوبغداد أوبلد الـ

إحساء لعمرك مذروع ومعدود
ولا تقل أنا من أبناء فاطمة
ولا ذرى يمن آبائي الصيد

أتجمع المال بعد المال معتبراً
بمن مضى ولجمع المال تبديد

جمع المكارم أولى ما همت به

ولن تكن وسيف البذل مغمود

وكل بذل أتى من بعد مسألة

وطول مطل فمذموم ومنكود

ما يصنع المرء بالدنيا وزخرفها
وجمعها وهو في الأطيان ملحود

بمن مضى لذوي الألباب معتبر
غالت جموعهم السودان والسود

هذا يناهبه الحساد والسفل الأ

وغاد وهو لا ترثي له الدود

الله أنزل آيات مبينة

فيها لمطلق ما يأتيه تقييد

فاعرض على حكمها ما أنت فاعله

تلقى الإله غداً والسعي محمود

[115/أ]وأراد الشاعر المذكور أن البذل كان للبعيد دون أهل البلد القريب فمطرود وفي حيز التشريد، والأمر كما قال بلا إشكال، وكان الولاة العمال معه هم المقدمون في الأقوال والحجة على غيرهم من الرجال، ولا ينال أحد من أرحامه صلة ولا عطية حسنة، ولا أخلاق إليهم مرضية، إلا من كان منهم من ولاته، بل استأثر بالأموال، وأعطاها أولئك الرجال، للتخيل معه أنه يستميلهم إلى مذهبه وطاعته من طلب المحال، والعلماء لا يبذلهم بالعطاء ولا يذكرهم بالإحسان، كما كان عليه سلفه فيما مضى، بل هم عنده في حيز الإهمال، يريد تبعيدهم عنه لا يقربهم؛ لأجل يسلم من الاعتراض عليه في أوامره ونواهيه منهم، فلا قوة إلا بالله، واقتدى به في أيامه سائر ولاته وكذلك من بعده، حتى بلغ بهم الحال النقص في المقررات والعادات التي كانت جاريات. وخطيب صنعاء أيضاً أنشد القصائد في الهجو لمحمد بن المتوكل لما نقص عليه ما كان يعتاده، ولم يعطه ما طلب من قضاء دينه، كما كان يعطيه والده، وسافر إلى اليمن الأسفل وأنشد القصائد في مدح أمرائه، للتعرض لعطاهم خصوصاً بعد وفاة المتوكل وأحمد بن الحسن، وهذا الخطيب يسمى محمد بن إبراهيم السحولي- بالسين المهملة المضمومة وضم الحاء المهملة -نسبة إلى أصل بلدهم سحوله بأطراف قاع جهران[115/ب].
وكانت العادات السالفة، والتقارير التي كانت أولاً ماضية جارية، لا هو أوفى الناس ولا هو عدل في الرعايا بل زاد عليهم المطالب، مع النقص في الغالب، فلا قوة إلا بالله.

وأخبر السادات والأغنياء أن الزكاة محرمة عليهم وأنها لا تحل لهم، فالورع منهم تركها وابتغى من فضل الله تعالى عوضها ممن كان له منها وهم اليسير، والأكثر ما عذروه عن الطلب ممن هو ملازم لمقامه ما هو له، وكذلك الأغنياء كما أخبر أنها لا تحل لهم، فمنهم من أعطاه، ومنهم من حرمه وأقصاه. ولا شك أن الزكاة حرام على بني هاشم وعلى الأغنياء إلا أن منهم ابن سبيل وغارم ومجاهد ومؤلف وفقير. ومع الزكاة من البلاد مرتفعات غير الزكاة كالمعاون والضيف، وهي تقوم بالجانبين[116/أ] إلا أن المذكور جعله عذراً في الحرمان زكاة، مع أنه زاد على ذلك في أيامه في المطالب الكثيرة في اليمن الأسفل من غير الزكاة المفروضة، بما يكثر محصوله، ويجتمع الكثير مدخوله. وكان كما قال بعضهم إنما الناس مسخرون لهذا الإمام، وإلا فمن رأى الأحوال عجب في الاستمرار. وكان القائم معه محمد بن الحسن، وإليه أكثر اليمن فكانت الأمور في أيامه جميلة، وأحوال الناس مستورة.

فلما مات ظهرت العجائب، وما زالت الأمور إلى نقص وفيها غرائب، مع أنه ناقض قوله في الزكاة، فإنه قال: اليمن خراجي، مع بطلان قوله ومخالفته لإجماع من قبله، فكان على قول مذهبه تحليل الزكاة لمن منعه[116/ب]، ولعله إنما أراد بذلك التحيل على الناس وإلا فلا يخفى ذلك، فأما الولاة فصاروا يفعلون معه ما شاؤوا وكان المقصود في الجمع والتحصيل منهم من غير معرفة، بما صاروا يقبضون ويزيدونه على الرعايا في المطالب، وكل من شكاهم فلا سماع له؛ لأنهم عرفوا طباعه في محبة التوفير، وكذلك الجلساء، ومن يتصل به من الأعوان والسادة والأغنياء لم يعذروه في الطلب، وصار يسلم لهم ذلك على أوفر الأقسام، وإنما الذي اتضع عنده عن الصرف من أهل العوائد الماضين سائر الناس المخرجين، فكان لا يصير إليهم إلا التافه الحقيرة، وبعضهم ممطول بالجملة الكافية، خصوصاً من لم يكن إليه كثرة الحاجة ومطالبه -ولله در البهاء- زهير ، حيث يقول:
يا أيها الباذل مجهوده

في خدمة أف لها خدمه

إلى متى في تعب ضايع

بدون هذا تأكل اللقمه
تشقى ومن يشقى له غافل

كأنك الراقص في الظلمه

وقال أيضاً:
كم أناس أظهروا الزهد لنا
وتجافوا عن حلال وحرام
قَللّوا الأكل وأبدوا ورعاً

واجتهاداً في صيام وقيام

[117/أ] ثم لما أمكنتهم فرصة

أكلو أكل الحرامي في الظلام

وكان للمتوكل اختيارات في مسائل غريبة خالف فيها الإجماع، منها: الولاية للأم على أولادها في البيع والشراء وجميع التصرفات، وهو خلاف الإجماع، لكنه رجع عن ذلك في حياته.
ومنها قوله: بأن الأولياء إذا أنكحوا الصغيرة حال صغرها فلا فسخ إذا بلغت، ولو كان المنكح لها غير الأب من سائر الأولياء، وهو خلاف للإجماع في غير الأب.
ومنها: أن المشروط بعلم الله فاسد، خلاف الإجماع.

44 / 94
ع
En
A+
A-