ولأهل صنعاء لهج بالتفارج وغيرهم من البشر لا يشبعون منها، ولا يملِّون عنها كبارهم وصغارهم، ومزاحمة الخيل لا تصلح للعاقل، ولكن البشر أميل إلا الملاذ، والنظر في أكثر البلاد، فلا قوة إلا بالله.
وأهل الخيل أيضاً يركضون في الطرق والشوارع، فيصدمون من يصدمون، فذلك مما يجب على ولي الأمر منعهم.
وفي يوم الجمعة عقب ذلك أيضاً سقط عبدٌ عند اللعب حال المجرى.
وفي هذه الأيام حال سكون أحمد بن الحسن بصنعاء بدار الجامع قيل: أنه كان يسمع في الليل صوتاً من سطح الجامع يقول: الظلم شهير، والفساد كثير، ثم أرسل من ينظر ذلك فلم يجدوه وأخبر أهل الجامع أنه لم يكن فيه أحد، فأثر مع أحمد بن الحسن ذلك الكلام، ووقع معه الاهتمام، والظلم الذي اشتهر في اليمن الأسفل بالمطالب من ولاتهم، والإجحاف بحالهم، وعدم الإصغاء إلى إنصافهم فلا قوة إلا بالله[74/أ].
وتمشى أحمد بن الحسن إلى سفح جبل نقم، ودخل مسجده ورأى خرابه، وعدم سقفه، أمر بسقفه وإقامته، ويروى أنه كان مقاماً في مدة محمد باشا ، وأنه بنى بيتاً جنبه لأجل سدانته، وخرابه كان عند حصول الفتنة في زمن حيدر باشا، ثم اتصل ذلك إلى هذا الوقت، لم يكن معموراً منه غير جدره دون سقفه، ولو أن أحمد بن الحسن أمر بأن يكون جملولاً بالحجارة ليدوم سقفه، فأما بالخشب فإنه يخرب ويسقط عيدانه ويسرق؛ لأنه في خلا وفضاء، إلا أن يجعل عنده من يقوم به. وكان هذا المسجد زمان الإمام صلاح الدين مقاماً، والطريق إليه لا تزال محتركة بيضاء مدة أياماً، ويقولون أنه من المساجد القديمة المباركة، والله أعلم.
وأمر أحمد بن الحسن في هذا التاريخ لما صلى بمسجد علي الذي في السوق بصنعاء بإجراء ساقية للماء، تخرج من السوق ليكون ماؤه طرياً، فاتفق أن دلاَّلاً نظره، فدفل وفي يده جنابي مسلولة، يدور بها في السوق مدلولة، فلم يشعر إلا وهو في حفرة تلك الساقية والحفَّار تحته، فوقعت الجنبية في ظهره[74/ب] فلا قوة إلا بالله.
وفي هذه المدة جاءت الأخبار بأن سعد بن زيد بن محسن الذي كان أميراً بمكة بعد أن قصد إلى باب السلطان، كما سبق ذكره، مات بالطريق، وعاقة التعويق، وزال ملكه وجميع أولاد زيد، وتولت أيامهم، وانتقلت دولتهم.
وفي شعبانها حصل قتل رجل من بلاد نهم، والقاتل له بنو حشيش من بني الحارث، فحصل تحمل النهمي على الحارثي، وأظهروا المغزى للحارثي، فرتبوا أطراف بلادهم، وحموا جهاتهم ببنادقهم، فغزا النهمي وهو غير متَعَبِّي فرماهم بنو حشيش من البيت الذي قد رتبوه لما قصدوه، فقتلوا واحداً من نهم، فلما وقع هذا الحادث وصارت العيون بأجمعها في نهم تحملوا لهذا الأمر الكادث وضربوا الطبل في جهاتهم، والقصد بأجمعهم، فجهز عند ذلك أحمد بن الحسن جماعة من العسكر إلى بلاده......، محمد بن الإمام من صنعاء إلى نهم جماعة من أجناده.
وفي هذه السنة اشتدت العسرة على أهل وادي السر شدة عظيمة، ونضبت الآبار، ويبست الأعناب حتى قطعوا أصول أكوالها، ورحل أكثرهم عنها للمعاش، وتتابع عليهم عدم المطر من سنة تسع وسبعين، بحيث أنه صار عبرة لمن اعتبر، ولم يسلم منه، خصوصاً وسط الوادي.
قال بعض أهله وسببه كثرة التجاري على الأيمان، والمحاسدة بينهم والعدوان.
وفي هذا الشهر خرج حسن بن الإمام من صعدة إلى بلاد خولان لتقريرها، والمناظرة فيما بين مشائخها وبين واليها؛ لأن الإمام لما سكن مشائخ خولان واليهم، وأرادوا عزله عنهم، ولم يساعدهم، بل قال:[75/أ] يتناظرون فإن صح عند النوعة المتولي حجة عزله وحوله، وأمر ولده حسن بن الإمام بالمناظرة بينهم، وتقرير الكلام عندهم، واستقر بحَيْدَان من بلاد خولان ونفوس خولان غير راضية في الباطن بحسن بن الإمام، ورغبتهم عادت إلى علي بن أحمد هذه الأيام، ثم سار حسن بن الإمام إلى جبل رازح حيث كان، وعلي بن أحمد حصل معه التعب؛ لأنه لم يكن قد قطع اليأس عن خولان. وكان يدفع إليه أهله في ولاية النوعة هذا الأوان، ولا يراعون رأي النوعة في بعض تلك المطالب المأخوذة حال مشائخهم عند الإمام، فكان الأمر يومئذٍ قد اختلف، ورفعت كثير من القبائل رؤوسها، لما ظهر لهم من مثل علي بن أحمد في تلك الجهة وغيرها[75/ب]. وأحمد بن المؤيد صار بوادعة ، وفي نفسه أمور واسعة، وقال من قال منهم ولسان حالهم: هذا الإمام فيه الركة، لما اعتراه من الألم هذه المدة، وأحمد بن الحسن هو الذي يُخشى منه قد اشتغل بتجهيزه إلى عدن بعض عساكره. وكان هذا كله في شهر شعبان، فأجهز أحمد بن الحسن بن خليل الهمداني إلى عدن بجماعة من العسكر بعد التجهيز الأول، للتحفظ على البندر من طارق يحصل من جهة العماني من البحر. وحصلت رجفة في ضوران في هذا الشهر بعد تلك الرجفات الأول، فحصل مع الدولة بعض ارتجاف، والله يسكن الفتن ويؤمِّن مما نخاف، فلينظر العاقل، ويعتبر بفكره الحاضر هذا الاختلاف والمنافسة على الدنيا بين أقارب الإمام، ثم من بعدهم من السادات، ثم من بعدهم من قبائل مذهبهم في هذه الحالات، فإذا كان هذا فيما بينهم يريدون الخلاف، ويثير الفتنة والاجتحاف، فما ظنك بمن كان من الملوك البعيدة عنهم، فلا يكون اللوم عليهم وحدهم في الخروج عليهم، والتفريق والبغي
منهم، إذ أقل حالة التسوية فيما بينهم[76/أ].
وفي شهر رجب تجددت الأخبار بصحة ما جرى في الفرنج واستيلاء السلطان عليهم، وسبي كثير منهم، والقتل فيهم كثير.
وفي شهر شعبان منها جاء الخبر الصحيح من جهات مكة أن السلطان محمد بن عثمان حال صدورها وهو باقٍ في بلاد الفرنج، وسيوفه ما زالت في أعناق المشركين ضاربة وقاطعة، فأخذ منهم بالسيف عالماً كثيراً، وسبى منهم سبياً كثيراً، وصارت مالطة وبلادها تحت وطأته بأجمعها.
وصدق هنا ما تقدم ذكره من الكلام عند طلوع ذلك الذنب كما نقل من الجفر بغير شك ولا اختلف كلامه ولا اضطرب، حيث يقول فيه ما لفظه: محمد بن عثمان عبدٌ صالح خيرٌ من حر طالح، شعر:
سيطلع من مغيب الشمس نجم
له ذنب كمثل الرمح عالي
بوجه مستدير مثل ترس
علامة ما يكون بلا محال
وهو بالسيف يقتل. انتهى بلفظه.
فهذا دليل صدق ما وقع، إلا أنه كان الوجه المستدير في الوجه الثاني الذي مثله طلع أولاً من المشرق، ثم طلع من المغرب، فظهر النجم كالترس في آخر سنة إحدى وتسعين وألف، كما سيأتي إن شاء الله، فأما الأول فلم يظهر نجمه، بل كالرمح، وهو مغروس في المغرب.
وفي هذه السنة أُحدث معصرتان للسليط بصنعاء، بعد أن لم يكن فيها هذه المدة شيئاً، وإنما كان فيها في المدة السابقة مدة بني العباس كثيراً، وصنع أهلها لها حجارة جديدة من الحجر الحبَش، نُقر وسطها، وجُرّت إلى صنعاء على العجيل بالبقر، جر كل واحدة منها ثمان بقر لكبرها وثقلها، وعصروا فيها الخشخاش والخردل؛ لأنه يزرع في أرض الجبل، فأما الجلجلان فلا يصلح إلا في التهائم واليمن الأسفل، فكان[76/ب] في ذلك بعض رفق لأهل المدينة في سعره، مع ما يطلع من اليمن الأسفل من سليط الجلجلان مصنوعاً، ومن جهات الجوف محمولاً.
وفي غرة رمضانها وصل ثلاثون رجلاً من العدين شاكين على الإمام ما تقدمت لهم من الشكية من الجور عليهم في المطالب الثقيلة، وما صار يأخذه عليهم السيد جعفر بن مطهر الجرموزي مما استجحف أكثر محصول ما لهم، وما يحصلونه من غلاتهم، وأن رسوله الذي أرسله معهم في الشكوى الأولة لم يحصل منه جدوى، ولا نفع ولا ارعوى، فيقال: أنه ربما يحدث بتعويض الوالي وإبداله بآخر ووعدهم بما ينظر فيه وإليهم يأتي، وفي التحقيق ليس مطلبهم مجرد الوالي، وإنما مطلبهم إزالة التخفيف عنهم من الزوائد في المال؛ لأنه حصل بسبب السيد جعفر الزيادة في التقرير الشهري، كما سبق ذكره، بقريب النصف مما كان في المدة الماضي فحاق عليهم الجور من ها هنا؛ لأنه نمّق للإمام وسوَّل له المقاطعة في كل شهر على صفة الشروة بزائد على ما كان له، لتتم له المساعدة، فساعده الإمام فكان ذريعة للجريرة لهم في هذه الأعمال. ولا ينبغي مساعدة المزايدين في القطاع من الولاة؛ لأنهم بذلك يستحلون أموال الرعايا بما شاءوا، ويعملون فيهم ما أرادوا، ويطلقون الزيادة من ظهورهم، فلو أن الإمام[77/أ] إن تم عزله لهذا والإبرام يحط عن نفسه طلب الزيادة، ويقرر الوالي الثاني إن حصل على ما كان أولاً من غير زيادة، لكان هو العدل والإنصاف والحكم بالحق وعدم الإجحاف.
هذا سوق الحطابين بمدينة صنعاء اليمن، دخل فيه مُزايد في المجبا في كل شهر، فلعب بالسوق، وجمع من الحطب كثيراً مع الدراهم، حصَّل بعضه لمطابخ القصر، وبعضه له في القطعة فزاد بسببه ثمن الحطب؛ لأن الحطابين زادوا ثمن ما أخذه عليهم على المشترين، بحيث حسب في هذه الأيام عند رخص الطعام، فجاء حِمْل الحطب بِحِمْل من الحب؛ لأن الحِمْل بستة أحرف وخمسة وأربعة، وأضعف حمل بمائة بقشة وثلاثة؛ لأن السعر بلغ هذه المدة إلى عشرة كبار والحمل قدر ستة عشر قدحاً، لكبر القدح، وكان الزمن الأول الحمل من الحطب بحرف وخمسين بقشة إلى ستين، وما كذب من قال: صنعاء أم اليمن، فإن غلاء أثمان الحطب ارتفع في كثير من البلاد، بلاد كوكبان وثلاء ومسور وشهارة وعفار، وحوزة الحطب فيها أرفع من صنعاء.
وفي هذه الأيام[77/ب] أمر الإمام ولده بالعود إلى بلد ولايته بصنعاء والمبادرة إليها؛ لأجل توهمات حصلت عنده، وهو أنه أخبره المخبرون أن أحمد بن الحسن حال دخوله صنعاء هو ومحمد بن أحمد بن القاسم طافوا الأسواق، ودخلوا إلى القصر يوم الجمعة بالأجناد، فحصل مع الإمام توهمات، وأظهر التجلد عن ألمه، وركب الحصان يوم الجمعة، وانكشف أن ألمه من قبيل الباسور.
وفي شعبان قتل رجل بمدينة شبام كوكبان، وهرب القاتل، وبعده في أوائل شهر رمضان قتل ثلاثة بشمات قتلهم أهل بلدهم لعدوى بينهم، فأدب الجميع الدولة فيما جرى بينهم.
وفي هذه الأيام تناهى ثمن الثياب البيض المتينة لعدمها بسبب منع العماني لها.
وفي رمضانها وصلت المراكب الهندية التواهية إلى حدود بندر المخا وساحله، ووصل[78/أ] معها من الحسا بضاعة من الأعبى ونحوها، فأما الذي من الحسا فدخل المخا وأما المراكب التواهية فرست في البحر، وشرطوا تخفيف المأخوذ عليهم، والحط مما كان زاده السيد زيد والسيد حسن ، وإلا عرجوا عنه إلى جدة، فقيل: إن السيد حسن استأذن الإمام، وأنه حط عنهم بعض شيء.
ووصل الخبر في هذا الشهر بخروج والي لبندر جدة يسمى يوسف آغا، وعزل عنها محمد شاوش.
وفي ثاني عيد رمضان بشهر شوال وصلت كتب من أبي عريش، ثم تعقبه من حسن بن الإمام من جبل رازح يذكرون أن هذه الأيام جهز جماعات من العساكر السلطانية إلى الجهات الحجازية، وخرج إلى مكة ثلاثة أعوان أحدهم: ناظراً على إصلاح السبل منها وإصلاح العيون، وآخر يقال له: محمد بن سليمان ، له معرفة بالعلم، أمر بأنه يطلع على من في مكة من أهل المقررات[78/ب] والصدقات والأوقاف، وأن صرفها يكون على يده الذي للأشراف، والذي للعلماء، والذي لأهل الوظائف. والعسكر السلطانية انكشف توجههم إلى بغداد بالعراق والبصرة زيادة لمن فيها.
وروى الشيخ محمد كزبر الدمشقي أن الرتبة ببغداد المعتادة قدر اثني عشر ألفاً من الإبحارية، وأن السلطان جددهم بآخرين، وزاد مثلهم فهم هؤلاء الذين ساروا إليها خارجين. وخرج من البحر هذه الأيام خزانة من البارود والرصاص، فلما قاربت جدة حرقت بسبب نار اتصلت بالبارود، فغرقت.
وفي ليلة السبت خامس عشر شهر شوال منها خسفت القمر لجميع جرمها في برج السرطان، وكان أول شهر شوال بالإستهلال السبت، وعند أهل الحساب والمنجمين بالجمعة والخسوف على ذلك كان في سادس عشر[79/أ].
وفي هذا الشهر توفي الفقيه محمد بن عز الدين الأكوع في بيته بالحصين من ضوران، وكان قد شاخ وتعمر، وكان عليه المخازين مع شرف الدين الحسن بن الإمام القاسم مدته وولاية بلاد آنس هو وصنوه عبد الله، واستمر كذلك مدة الإمام المؤيد محمد بن القاسم .
وفي رابع وعشرين شهر شوال سقط من السماء حجر بغَضْرَان من بلاد وادي السر وقت العصر، والشمس شارقة، فسمع لخريرها في الجو صوت كصوت الرعد العظيم، سُمع ذلك إلى صنعاء، وكان وقوعها بباب بيت في قرية غضران بوادي السر من بلاد بني حشيش، ونزلت في الأرض، قالوا: ولونها كلون الحُطُم، فسبحان القادر على كل شيء وذلك من آيات الله التي يخوف الله بها عباده {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} واشتد بالسر الجوع، ويبست عليهم الأعناب، وأصبح ماهم في الآبار غوراً لا ماء فيها كما قال تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}، ونجعوا عنها، وتفرقوا في الأرض، ولم يبق إلا البعض منهم، ثم قطعوا أصول العنب بالشُرُم وأدخلها أهلها يبيعونها.
وروى لي بعض فقهائهم أن ذلك من عقوبات الله بهم؛ لأنهم كانوا يتجارون على بذل الأيمان الكاذبة عند شريعتهم، وكثر منهم المغادرة والأذية لبعضهم البعض، حتى نزل بهم ما نزل.
واتفق بهذا الشهر لبعض بيوتات بصنعاء أن شخصاً من الجان شغلهم، وكسر عليهم من أوانيهم، وكان يرى شخصه امرأة منهم لا غيرها من أهل بيتهم، وكان يحرق ثيابها ويطرحها بيرهم، ومرة سل عليها السلاح، ومرة ذبح عليهم دجاجة وهي تراه، ومرة صاحت منه وقالت: سل عليها السلاح ثم سكتت، وكان بعض المُعَزِّمين يعّزِّم لها ويكتب لها فيحرقها، ومع هذا فحسن تلك المرأة لم يتغير، وذكر صاحب البيت أنه كسر عليه بعض سلاح، وتضرر منه وذكر أن صورته صورة امرأة ومعها خادمان تأمرهما بما تريده، وغفل بعض أيام ثم عاد ومعه كتابة عجمية وصورة ووضعها في عتبة الباب، فرأته تلك المرأة حين وضعها، ولم يره غيرها، فأخرجوها، فدل ذلك أنه ساحر وأن السحرة من الجن والإنس نعوذ بالله منهم[80/أ].
وفي شهر الحجة منها أرسل محمد بن المتوكل صاحب صنعاء جماعة من العسكر والخيل إلى شعوب لمنع جِمال محمد بن أحمد صاحب الروضة عن حمل أَثْل كان فيه شجار، دعوى للفقيه يحيى بن حسين السحولي ناظر الوقف، فأبرز محمد بن أحمد حكماً شرعياً من القاضي علي بن جابر الهبل، فلا وجه لرد الجمال، ووضع الأثل من ظهورها من غير وجه فبرَّده الفقيه بن جميل، وقال: الأمر جميل فيكون الصبر منكم، والصفح لكم؛ لئلا يحصل ما يحصل من الاشتجار في هذا الأمر الحقير، الذي ما كان مثله يكلف لا قليل ولا كثير، فحصل المعقول من جهة ابن جميل، ووضعت الأحمال وترك باقي الأثل في موضعه بلطف منه ومداركة وحال جميل، وظهر بين الرجلين كوامن الأحقاد والاستيحاش إلى غير المراد، وطلب محمد بن الإمام عقب ذلك علي بن جابر وقال له: لِمَ تحكم بغير أمرنا وبغير حضور ناظرنا ووكيلنا؟. فأجاب القاضي: أن هذا الحكم جرى من بعد تقرير بطلان دعوى جانب الوقف لما طلبنا، والأمور فيها بعض من الرَّبْش بين السيدين، فإن محمد بن أحمد وإن كان أبرد في حرارة الطباع، والجميل والرعاية والاتساع، فقد ظهر منه بعض كلام شاع في الناس[80/ب] من جهة صنعاء، فإنه لما مرض الإمام ظهر من محمد بن أحمد أنه لا يترك صنعاء، فربما بلغ محمد بن الإمام فيحصل في النفوس، وإن كان قد شُوحِجَ محمد بن أحمد وأزيل عنه ما كان يعتاده من بلاده فإنه أخذ عليه محمد ابن الإمام لما تولى صنعاء زكاة أموال أهل صنعاء في الروضة والجراف، وكان ذلك أولاً إليه، وأخذ خطاً من والده الإمام عليه، فلم ينفذ عند ولده، وقرره والده ونقض خطه، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولم يدخل محمد بن أحمد بيته بصنعاء عقب العيد لما في النفوس، وحصل عقب ذلك غيار بقطع عنب الناظر على الوقف يحيى بن حسين السحولي بالمحاريق.
وفي هذه المدة روي أن رجلاً حمَّالاً مشتاطاً نزل إلى اليمن الأسفل، فلما بلغ إلى بلاد الجَنَد اضطر إلى السؤال لطعام من بعض بيوت في تلك الجهة بعد أن أظلم عليه الليل ودق الباب، ففتحت له امرأة وقالت: ادخل، وهي خارجة، فدخل وإذا فيه جماعة من الشماة، وسلاحهم بين أيدهم ملقاة[81/أ] فقالوا له: اقعد، فقعد، ثم إنهم خرجوا وأمروه بحمل شيء معهم في غِرَارَة، فحمل ذلك معهم إلى البرية وحفروا حفيرة ألقوه فيها، وإذا هو مقتول قتلوه بها، ثم حفروا حفيرة أخرى فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لك نلقيك بها؛ لئلا تخبر بخبرنا وتشيع أمرنا يظفر بنا، فسقط في يده وأيقن بالهلاك، فألهمه الله إلى الدعاء والاستغاثة بالشيخ أحمد بن علوان نفع الله به، والتوسل إلى الله ببركته، ونذر له بما على جمله قال: فلم يشعر إلا بشيء أقبل عليهم بحربته دفعهم بها، فحمد الله تعالى على النجاة منهم وسلامته عنهم. هكذا روى بعض القبائل، وهذه الرواية لا تعرف إلا من مثلهم؛ لأنه رجل حمال من جنسهم؛ فإذا صحت فهي من كرامات الشيخ أحمد نفع الله به.
ووصل الخبر هذه الأيام برجوع أصحاب العماني، الذين كانوا قد بلغوا إلى حدود الشحر[81/ب].
وفي هذه المدة انكسرت جلبة كانت داخلة من اليمن فيها حجاج ومن البن، فهلكوا، لم يسلم منهم إلا اليسير ممن خرج مع صاحبها في سمبوك، ومن تعلق بشيء من صروفها على مشقة في ذلك، فإنه وصف الواصف: أنه تعلق بصرف، فلبث في البحر فوق ثلاثة أيام لا يذوق شيئاً من الطعام ولا الماء، وهو في معاناة مع ذلك الصرف لأجل الموج، فتارة يكون على ظهره وتارة يغلبه فيقبض عليه ويتعلق به؛ لئلا يغرق، فما زال كذلك تسوقه الريح الغربي حتى قذفته في ساحل جازان بعد الإياس منه، وكان إنكسارها مقابل لبندر جازان وهم قدر سبعين نفراً لم ينج منهم[82/أ] إلا نحو خمسة عشر رجلاً.