وبعضهم شكا إليه رجل اعتراه الجنون بسبب أنه كان يتعلق بقسم قل هو الله أحد للاستحضار[41/ب] فحصل معه تغير وهذيان فقالوا لهذا الرجل الشظبي من أجل ذلك فقال: هناك إرصاد وسحر، فأخرج من بيته ذلك كما يخرجه من سائر البيوت، وهو يحتمل التعمية، ولم يحصل تأثير في ذلك الذي اعتراه الجنون، ولا زال عنه ما كان به، فلأجل هذا دل أنه من قلب الأعيان في الكتابة معه فقط، والله أعلم بالغيب. ولقد كان في أول دولة الإمام المؤيد بالله في رأس الأربعين وألف بصنعاء اليمن رجلاً مظهراً لمخاريق عجيبة، وأحوال غريبة يخرج من تحته الطيور والحمام، في تلك الأيام، وحار في عمله كثير من الأنام، وقطع كثير من العقلاء والعلماء أنه من السحر والتمويه العاطل، والتخييل الباطل، ويلقط الحصا الصغار إلى يده وتكون حباً إما بِرَّاً أو شعيراً.
وكذلك روى الثقة في هذه الأيام أن رجلاً يقال له: الفقيه عبده له معرفة بمثل هذه المخرقة، فإنه كتب رُقية أو تلاها في بياضة فإذا فيها بعض شيء من الدراهم، وأخذ مرشاً ليس فيه من الماورد شيئاً، فإذا الماورد يخرج منه ويرش به. وغير ذلك كثير، كامرأة قالت هي حاسبة، كانت تضع نفس الملح بباطن يدها ثم تفتح يدها فإذا هو لبان. وقد[42/أ] كان رجل بشهارة في الأيام السابقة مشهوراً بالسحر، له أفعال عجيبة، حتى أنه مرة طالب رجل آخر في دين له فسحره ورأى غريمه وقد ذبحه ونزع رأسه.
وفي أول ربيع الثاني لما رَتَّبَ أحمد بن الحسن سفال الجوف لأجل ما حصل من الضرر من غزوات دهمة غزا بعض العسكر إلى أطراف دهمة من بني نوف، فانتهبوا بعض شيء من مواشيهم.
ووصل الخبر هذه الأيام بخروج الحسن بن الإمام من جبل رازح إلى تهامة.

وفي نصف ربيع الثاني وصل الخبر بأن النقيب سعيد المجزبي متولي اللحية وكمران ظهر منه ما يقضي بالمخالفة للأوامر، والاستقلال في هذا الوقت الآخر، وصار يكثر عليه الكلام عند الإمام، وأنه يخشى منه إن خلى الانخلاع والانصرام، وأنه ربما قد كاتب إلى جهات جدة ومصر وسواكن وجرت له الأقلام. وكان مع هذا الوهم، وما جرى للإمام من النقل أن المذكور قبض على جماعة كان وصلوا إلى الحديدة وبلادها بحوالة من حسن بن الإمام، وكان المذكور بعد عزله من بلاد الضحي الأيام الأولة قد حول أكثر أثاثه وخزائنه إلى كمران، واستقر فيه هذا الأوان، وما زال يحصنه ويعمره ويقويه ويؤكده، فكان سبب حصول الأوهام مع الإمام، وتصديق ما ينقل إليه من الكلام، مع ظهور الاشتجار بينه وبين المحبشي متولي الضحي، والمراكزة والمناصبة. فكتب في هذا التاريخ إلى ولده الحسن بأنه يقصده ولا يظهر أين يريده حتى يدخل اللحية فيحفظها [43/ب]بجميع من معه، فسار المذكور من أبي عريش يطوي المراحل بتهامة، ولا يدري أحد بمقصده حتى بلغ إلى منتهى مرامه. فلما بلغ المجزبي وهو بكمران هذا الأمر والشأن سُقِطَ في يده، وتلاشى أمره. وكان من الاتفاقيات أن حال وصول المذكور بندر اللحية، وجد الغربان التي للمجزبي بساحلها مجموعة لافتقادها ودهنها فقبضها حسن بن الإمام واحترس بها، ولم يكن مع المجزبي ما يقوم مقامها، ولم يشعر المجزبي حال دخول حسن بن الإمام اللحية حتى وصله رسوله بالوصول إلى الحضرة، فتلكأ عند ذلك، وأراد الامتناع هنالك، فقال له العسكر الذين من اليمن: نحن عسكر الإمام، فلم يسع المذكور إلا المبادرة بإرسال الضيافة والمكاتبة في الوصول وبذل الأمان، وأنه من جملة الخدم غير متكبر على الإمام، وأن البلد بلده والبندر بندره، فخرج المذكور ودخل حسن بن الإمام يطوف جزيرة كمران، وقبضها وولاها من يثق به في السكون فيها. ثم استدعى الإمام المجزبي، فوصل إليه إلى محروس ضوران، وحال

وصوله أمر باللقيا له بالعسكر والأعلام، وبذل له الإكرام، واستقر بحضرته[43/أ]، وفسح برأي الإمام لمن وصل معه من عسكره، وبقي هو وخاصته من خدمه. وذكر الإمام أن جميع ما في جزيرة كمران من السلاح مع العسكر والمدافع قبضها ولده وسلمها إليه، ولم يحمل إلا ما يخصه من أثاثه، وخرج أولاده إلى بيت الفقيه. وكان المذكور قد طالت مدته في ولاية هذه الجهة من مدة شرف الإسلام الحسن بن الإمام، وفتحه لتلك الجهات تلك الأيام، فاستمر إلى هذا التاريخ، وقد صار المذكور كبيراً في السن واعتذر إلى الإمام، وأنه لم يجر منه مباينة ولا محاربة، وإنما كان يعتذر تلك المدة عن الطلوع لكبر سنه وعجزه، ويحسن الظن في قبول عذره، وتلا عند وصوله قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. وكان المذكور في الحقيقة غير آمل للعزل من تلك الجهة، والأمر جرى على مقتضى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }، ويحكى أنه كان عنده حساب، يقضي [43/ب] الحساب أنه لا يعزله من ذلك الموضع إلا من كان اسمه اسم الذي ولاه الحسن.
قال الراوي: فكان ذلك من الموجبات للمسارعة بالخروج منه من غير مراجعة.
ومن الأمر الغريب أن جميع السواحل تحولت أمورها، وتغيرت أحوال ولاتها، وتبدلت أعمالها، هذا المذكور والسيد زيد بن علي بن جحاف الذي كان بالمخا وفرحان والي عدن، والسيد أحمد بن صلاح متولي جازان، ومدينة زبيد عزل واليها عبد الله بن سراج المحبشي، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

وفي هذه الأيام ولد مولود عجيب الخلقة خرج من مشيمته وغشايته، ولا أظفار له ولا شفاه ولا دبر، ثم ظهر له دبر ثم أظفار ثم شفاه شيئاً فشيئاً، وتكامل خلقه لخمسة أشهر. وكذلك اتفق أيضاً مولود آخر في هذه المدة من هذه السنة له رأسان ثم مات عقب ولادته، كأنهما شخصان متلاصقان، فسبحان الخالق لما يشاء، والأول كان لرجل من القبائل، والثاني لرجل آخر من العسكر[44/أ].
وفي يوم الأحد ثاني وعشرين شهر ربيع الثاني منها مات السيد الشريف العارف الحسن بن أحمد الجلال ، كان المذكور مستوطناً للجراف شمالي صنعاء في الخريف والشتاء، ودفن جنب صنوه برَسْلان . وكان المذكور قد اختار سكون ذلك المكان على صنعاء في جميع الأوقات والأزمان، وأصل داره وأهله جهات صعدة، ثم إنه ارتحل إلى شهارة في أول دولة الإمام، فقرأ فيها تلك الأيام على الشيخ العلامة لطف الله بن محمد الغياث الظفيري ، وعلى شرف الإسلام الحسين بن القاسم ، ثم ارتحل إلى صنعاء عقب خروج حيدر عنها، ودرس على السيد العارف محمد بن عز الدين المفتي المؤيدي ، وتأهل ببنت من بنات السيد صلاح الحاضري السراجي ، وما زال كذلك بصنعاء، ثم طاب له سكنى الجراف آخر مدة الإمام المؤيد بالله إلى أن مات فيه، وكان يدعي الاجتهاد وأنه ترجح له مذهب داود الظاهري ، ويعول عليه في أقواله في الأصول والفروع[44/ب]، ويقول: إن الإجماع ليس بحجة، ويقول بالمتعة موافقة للرافضة الإمامية، ولا يحتج بالآحاد موافقة للقاشاني ، وإن صح بالإسناد، ولا يحتج إلا بالمتواتر وما لم يجده فبالبراءة الأصلية، وقال: إنه على رأي ابن حزم في العمل بالبراءة، وله أقوال عجيبة، ونوادر غريبة فيها ركة وإباحة ومخالفة لجمهور الأمة، وللإجماعات المنبرمة فلا قوة إلا بالله. ولو توقف على مذهب داود نفسه لكان أقل من تلك النوادر والمخالفات، لكنه خرج

عن أصل داود في موافقة الرافضة في المتعة، وفي سب عثمان رضي الله عنه، وفي موافقة الخوارج في منصب الإمامة، فقال: إنها في جميع الناس عربي وعجمي فيها على سواء وإنما يشترط فيهم التقوى. وكان يرى في خلق الأفعال مثل قول أهل السنة وثبوت الخروج لأهل الكبائر من النار بالشفاعة، والرؤية، وكان لا يُكَفِّر بالإلزام كما يقول به محققوا علماء الإسلام.
قال السيد ما لفظه: إلزام الجبر مع عدم صحة نقله عن المرمى به تواتراً مما لا يجوز أن يبنى عليه حكم ظني، فضلاً عن قتال واستباحة النفوس وأموال؛ لأن الجبر لا يعرفه مدققوا علمائهم، مدعياً أنه ذا وهم عن الاعتزال قائم البرهان، ولا قائل بتكفير الأشاعرة لقولهم بالكسب، ولا يكفر أهل الكسب فيما يعلم إلا مجازف، لا يعرف العلم ولا أهله؛ لأن الكسب هو الفعل الذي يقول به المعتزلة، وإنما الخلاف للعبارة بعد التحقيق، إلى آخر ما ذكره في بعض رسائله[45/أ]. وللسيد الحسن الجلال المذكور اعتراض وجواب حسن على أرجوزة القاضي إبراهيم بن يحيى السحولي ، التي وضعها في إسناد جملة مذهبه إلى علي إلى النبي÷، وكان فيه مجازفة ظاهرة، فقال السيد الجلال مجيباً عليه في هذا المجال:
بسم الله الرحمن الرحيم:
اطَّلع الفقير إلى الله الحسن بن أحمد الجلال على الأرجوزة التي نظمها القاضي العارف إبراهيم بن يحيى السحولي، التي جعلها نظاماً لفروع مذهب الهادي، وقد كان اطَّلع عليه في إسناد الإمام شرف الدين، ولكنه كان في النفس منه شيء، فعاق عن استجادته، ورأيت إسناد القاضي لم يخلص أيضاً من ذلك وهو بحثان:

الأول: أن الإسناد المذكور قد تجاوز إلى النبي÷، فمروي الهادي إلى النبي÷ بتلك الطريق المخصوصة هو أما علم روايته -أعني متون أحاديث النبي÷، أو علم درايته -أعني مستنبطاته منها ومستخرجاته-، أو كلا الأمرين، الأول باطل؛ لأنه لم يكن في كتبه (المنتخب) و(الأحكام) و(الفنون) مدوناً بتلك الطريق التي تضمنتها الأرجوزة -أعني عن الحسين بن القاسم عن [45/ب]إبراهيم عن إسماعيل عن الحسن عن الحسن عن علي عن النبي÷ إلا حديث واحد لفظه في كتاب الطلاق من (الأحكام): ((يا علي يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة، فإذا أدركتهم فاقتلهم قتلهم الله فإنهم مشركون)) وما نقله غير تلك الطريق يعلم ذلك من استقصى بحث كتبه المذكورة.
والثاني: أعني علم درايته بالحل باطلاً أيضاً إذْ لم يقل عالم بجواز إسناد التلميذ دراية نفسه قولاً لشيخه، مثلاً قياس النبيذ على الخمر في الحرمة لا يصح أن يقال فيه قال النبي÷ النبيذ حرام، إذن لبطل القياس وعاد نصاً، ولا قال النبي÷: ((لا زكاة في المعلوفة )) إذن لَبطْل كونه مفهوماً وعاد منطوقاً، وكذا سائر الاجتهادات.

والثالث: باطل بمثل ما بطل الأولان. الثاني أن ما في كتب الهادي رواية ودراية لا يبلغ العشر مما صار الآن في كتب فروع مذهبه، وقد قدمت أن دراية التلميذ لا يحل روايتها قولاً للشيخ، وإنما يحل روايتها قولاً لراويها، بل قال الإمام القاسم بن محمد في آخر إرشاده: وبلغنا عن بعض العلماء -يعني المهدي والفقيه يوسف - أنه قال ما لفظه: إن هذا الحكم الذي يعد أنه مخرج ليس بقول لمن[46/أ] خرج على قوله ولا قول للذي خرَّجه من قول المجتهد، فحينئذٍ يكون هذا الحكم لا قائل به، فكيف تجري عليه الأديان والمعاملات؟، وهذه ورطة تورط فيها الفقهاء برمتهم، إلا من لزم النصوص، وكذا في بعض كتب الأصول لأهل المذهب كالجوهرة إنكارها، وقرأت بخط شيخي أمير الدين عبد الله، وأظن أني سمعته منه عن بعض السادة من أهل البيت أنه قال: كثير من التخاريج مصادمة للنصوص، ولهذا يمتنع كثير من أهل التحري من العمل بالتخريجات والإفتاء بها لمخالفتها لنصوص الأئمة من غير ضرورة ملجئة إلى مصادمتها. وسمعت الإمام الحسن بن علي ينكرها، وقال ما معناه: كان مذهبنا سليماً إلى زمان كذا، وذكر بعض أول المخرجين في مذهب الهادي، وكذلك اتباع الفقهاء الأربعة، فإن استطاع القاضي أن يخلص هذا الإسناد من هذين الإشكالين تفضل به جاز به لنا، وإلا وجب عليه الحذر من هذه المجازفة التي وقعت للإمام شرف الدين، ونسب في هامش الفصول مثلها للمؤيد بالله والإشكالات واردات للجميع. وقد وجدت في إجازات جدي العلامة صلاح بن الجلال استشعار خلل هذا الإسناد جملة[46/ب]، والاعتذار بأنه إسناد معنوي تسامحاً لا تحقيقاً، وما أدري ما جدوى هذا العذر عنها، وقد علمتم ما في الكذب على رسول الله÷ وعلى علماء أمته من الوعيد الشديد، الذي بسببه ترك أكابر الصحابة الرواية عن رسول الله÷، وامتنع كثير من أهل التحري بالعمل بالتخريجات كما ذكرنا عن الإمام القاسم حذراً منه، وخرج أئمة

الحديث بالتجاوز في رواية لفظه أو نحوه زائدة، ونسبوا روايتها إلى الوضع، فما ظنكم برواية ما لا نهاية له من أقوال الرجال قولاً لرسول الله÷ ولأهل بيته، والله تعالى يوفقنا إلى ما يرضيه.
انتهى كلامه وهو كلام جيد وارد.
وقد كنت أجبت على السيد بأن هذا يرد على القاضي؛ لأنه أطلق، وأما على مقتضى ما هو ملصق أول شرح التجريد فإنه يقتضي أنه أراد الرواية في الحديث لا الدراية، ولكن فيه إشكالات قد ذكرتها في جواب رسالة القاضي أحمد بن سعدالدين على أن كلام القاضي إذا كان في جملة أصل الدين فليس بخاص لدينه ومذهبه، فإنه قد ذكر ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة): أن كل مذهب أسند أهل مذهبه إلى علي بن أبي طالب المعتزلي، والأشعري، والرافضي، والزيدي فلا مخصص حينئذٍ في هذا الأمر الاعتباري إن أراده، وإن أراد الإطلاق فهو كما قال السيد ابن الجلال ظاهر البطلان، والله أعلم.
وله رسالة تضمن الاعتراض على المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم في دخول عساكره المشرق، وأنه لا يجوز ذلك في كلام طويل تضمن ذلك رسالته[47/أ]، وله قصيدة في الأصول يذكر فيها الحث على ما عليه السلف من الطريقة الأصولية على مقتضى مذهب الحنابلة، وله تصانيف على القلايد حاشية وتتمة حاشية سعد الدين على الكشاف وشرح على الأزهار، ما في فنه بالإيرادات على مقتضى مذهبه، وكذلك تعليق على الفصول في أصول الفقه، يورد فيه تشكيكات على الأصل وإيرادات، وله شرح على التهذيب في المنطق، ورسالة له في تحريم قصد البغاة إلى ديارهم، وله تقرير في تحليل الزكاة لبني هاشم، وله شواذ كثيرة تعد أشياء منها في الخرافات لا ينبغي الالتفات إليها والاغترار بها، بل كان التقليد له أولى من القول بها وقد أوردت بعضها في كراريس وبينت ضعفها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وله في الشعر اليد الطولى وفي الغزليات أيضاً، وله في المجون قوله:
أنا للعاشقين إمام

غير أني ذو صبابة

أرشف الريق وأهوى

كل مجدول الذؤابة

وله قصيدة نظم فيها مقامات الصوفية مستهلها قوله:
للقوم ألفاظ بها

سر الهوى داع لنا

وكان يخفى عنهم

فصار من ذا علنا

منها لأرباب العلا

جمع وفرق وفنا

وهي طويلة والله أعلم.
وفي هذا الشهر اتفق مغزى جماعة من العسكر قدر سبعين نفراً الذين جعلهم أحمد بن الحسن رتبة في معين إلى بلاد بني نوف من مساقط جبل برط وسهوله مما يلي الجوف والمشرق، فانتهبوا من مواشيهم[47/ب] عوضاً عما فعلوه من قبل من نهبهم، ثم إن بني نوف صاحوا وتغاوروا بأجمعهم ولحقوهم، فاقتتلوا، فراح من العسكر حول عشرين نفراً ومن بني نوف أربعة فقط، واسترجعوا مواشيهم لأجل كثرتهم وقلة العسكر. وهذه البلاد لاخير فيها ولا مهبط ومستقر لمن يقصدها من الدولة، لعدم ما يقوم بها؛ ولأنهم بدوان، لا قرار لهم ولا أطيان، بل رعاة للإبل والمواشي، وأكل اللحوم في تلك القفار والفيافي، فلذلك تركها الدول الماضون، وعرضوا عنها أجمعون. وكان استقرار تلك الرتب في معين ونحوه من أطراف العرار من الجوف كفاية لحفظه؛ لأنه يحتمل العسكر ويقوم بهم، وكان الزمان الماضي مقطعاً للأمراء من أشراف الجوف، فلم يحصل فيه من هذا الانتهاب مع الرعايا من أهله والخوف، حتى لم يبق فيه رئيس هذا الزمان، ورفعت مطالبه[48/أ] إلى المحران، فحصل هذا الخلل وأهمل عن العسكر.

وفي تاسع وعشرين شهر ربيع الثاني يوم السبت حكم بعض المنجمين بكسوف الشمس، قدر أربع أصابع في برج الأسد والطالع العقرب ضحوة النهار، وأن مدة الكسوف ثمان درج ونصف عن نصف ساعة، ولعله كان كما ذكر، فإنه روى جماعة أنهم رأوها كاسفة، ولم أرها؛ لأنه كان بالسماء سحاب متراكم وهو ممكن؛ لأن الذنب يومئذٍ في نحو ثلاثة عشر درجة من برج الأسد والشمس في نحو تسعة عشر درجة من الأسد وكسور. وكان من جملة الخابر بالكسوف الشريف محمد، وصل من الروم، له معرفة بالنجوم.
وفي هذه الأيام هاج السَّرَق بمدينة صنعاء وكثروا، وكنسوا بيوتاً ونهبوا على ضوء القمر في نصف الشهر، ولم ينتظروا الظلام، لذلك الحرام، ودخلوا من البيوت الخالية التي أهلها في الخريف، وسرقوا ما وجدوا فيها [48/ب]من الأواني، وعبروا منها إلى البيوت المحلولة من فوق الأجبي فضروهم وتسوّر منهم من تسوّر بالسلاليم التي يجدونها في تلك البيوت الخالية. وكان من الأسباب أن محمد بن الإمام صاحب المدينة أقام محتسباً وأمره أنه يطوف على المدينة فاستخدم معه أعوان من السرق وأهل الطغيان فحصل منهم ما حصل من هذه الأعمال، ويقال في المثل: السرق إخوان، وتجرأ معهم سائر السرق لما سمعوا أن محمد بن الإمام قال: لا يحبس أحد من السرق، وإن قد اشتهر سرقهم إلا بشهادة، فجرأهم على ما ألفوا من العادة، بحيث أن تاجراً من بني كُبَاس كبسوه إلى بيته، فأراد الدفع والصياح، فسلوا عليه الخناجر والسلاح، فحملوا من بيته ما شاءوا، وهم جماعة يقال: خمسة. وكان من سبق من الولاة بصنعاء من اشتهر بالسرقات حبسوا وبقوا في الأماكن البعيدات إذا لم تقم عليه شهادة نصاب القطع، بل مجرد الشهرة[49/أ]، فلهذا وقع الخلل من الجانبين المحتسب وأصحابه والسرق من غيرهم كل من جانبه والشهادة إنما تعتبر في القطع لليد، لا النفي والطرد والحبس والكرد فإنه يكفي فيه الشهرة، وظهور الأمارات المتكررة، فإنهم لا يخفون.

36 / 94
ع
En
A+
A-