ولعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا بايع معظم آل القاسم وغيرهم إسماعيل متخلين أو رافضين مبايعة أخيه أحمد؟
بغض النظر عن حجة كل منهما حول أحقيته بالإمامة، فإن إسماعيل كان أكثر ذكاءً من أخيه أحمد، فمن الملاحظ من خلال ما أوردته كثير من المصادر المعاصرة واللاحقة أن إسماعيل كان أكثر كرماً من أحمد، فنجده يعد كل من يبايعه بالبذل والعطاء، خاصة محمد بن الحسن وأخيه أحمد بن الحسن ، اللذين كانا السند الأول له، فجعل لهما جميع اليمن الأسفل. ولم يقتصر عطاؤه لهما، لكنه أعطى الكثير من أبناء إخوته ما يهواه، فولى الحسين بن إلامام المؤيد على بلاد عفَّار وشهارة والشرف الأسفل، وأعطى محمد بن الحسين حفاش وملحان والشرف الأعلى. وكان توزيعه الولايات لأبناء إخوته قبل أن يُحسم الأمر. وكان يعدهم بالعطاء؛ لأنه كان عند إعلان إمامته يشكو من قلة ذات اليد. ولم يكن أمامه إلاّ الوعود، يؤيد ذلك ما ذكره المؤرخ يحيى بن الحسين بقوله: "ولقد أخبرني عز الإسلام محمد بن الحسين أنه لما وصل إلى حضرته (أي الإمام) بضوران قال له: لا يجد غير الخمسين الحرف. ولم يجيه يؤمئذٍ من البلاد شيء، ولا يجد الصرف". ومحمد بن الحسين هو شقيق المؤرخ يحيى بن الحسين.
وبهذه السياسة التي اتبعها إسماعيل تمكن من كسب أهم أبناء الأسرة إلى جانبه، حيث بايعوه وساندوه في دعوته. وكان أهمهم محمد بن الحسن، الذي بتنازله عن الإمامة لعمه إسماعيل حُسم الأمر لصالح الأخير، فبعد أن بايع محمد بن الحسن عمه، وكان تحت إمرته كبار القادة والأمراء وكثير من الجنود، ولديه كثير من الخيول: "مال جميع اليمن من ضوران إلى عدن بالإجابة والخطابة، وكذا المشرق وذمار والحدا وخولان"، بل أن المؤرخ يحيى بن الحسين يرى بأنه لولا محمد بن الحسن ومساندته لعمه إسماعيل لما تمكن من الوصول إلى الإمامة فيقول: "وهو الذي عضد عمه إسماعيل، وطد هذه (هكذا) بالخيل والرجاجيل، ولولاه لما تم شيء لهذا الإمام من الأقوال والأفاعيل".
أما أحمد بن القاسم فكان على العكس من إسماعيل، حيث يرى كثير من المؤرخين بأنه اشتهر بالبخل. وربما كان هذا سبباً جوهرياً لتخلي الكثير عنه، وعدم مبايعته، بل أن من كان قد بايعه بايع إسماعيل، فها نحن نجد المؤرخ ابن عامر في كتابه (بغية المريد) يذكر بأنه كان مع أحمد بن القاسم بعد خروجه من شهارة كثير من الأعيان والعساكر، مساندين له، لكن أحمد "أمسك يده عن العطاء، فلا زالوا يقلَّوا حتى وصل إلى (ثلا) وهم عدد يسير" . كما أنه عندما أشار عليه البعض بأنه يجب أن يولي أولاده وأولاد إخوته أجاب بأنه "لا يصير إلى أحد منهم غير ما كان في مدة المؤيد بالله ولا شبر" . لذلك مالوا عنه إلى الإمام إسماعيل. منهم على سبيل المثال الحسين بن الإمام المؤيد بالله، الذي كان قد بايع أحمد بن القاسم، فعدل عن ذلك وبايع إسماعيل، الذي منحه المناطق التي يريدها. ويصف المؤرخ الجرموزي الإمام إسماعيل بالكرم، وبذله لمن حوله حتى أنه لا يُحصى عطاؤه في اليوم الواحد.
وقد أوجز المؤرخ يحيى بن الحسين ارتباط السياسة الحكيمة بالعطاء والبذل بقوله: "والدنيا وأحوال الرئاسة فيها من الإمامة وغيرها لا بد فيها من السياسة، والنظر في البذل لمن هو من أهل الحل والعقد والإعانة، كما جرت بذلك العادات المألوفة، والحالات المعروفة، في كل الزمان".
كل ما سبق ساعد إسماعيل بأن تكون لديه القوة أكثر من أخيه أحمد. والقوة هي أهم أسباب الغلبة والتفوق في معظم الأحيان، حيث دخل أتباع إسماعيل في حرب مع أحمد بن القاسم وأتباعه، فكانت الغلبة فيها لإسماعيل.
فنجد هنا أحمد بن الحسن المساند الثاني لعمه إسماعيل يحاصر صنعاء، وكانت في يد أحمد بن القاسم، التي كان فيها إبنه محمد بن أحمد، ويدخلها عنوة، حينئذ دخل جميع من كان قد بايع أحمد بن القاسم في طاعة الإمام إسماعيل. ومنهم من بايع بيعة قهر واضطرار، مثل القاضي إبراهيم السحولي، وحوَّل الخطبة في صنعاء لإسماعيل، بعد أن كان يخطب-متحمساً-لأحمد، وكذلك القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري وغيرهم، دخلوا في طاعة الإمام إسماعيل مكرهين.
ولعب آخرون من المناصرين للإمام إسماعيل أيضاً دوراً في هزيمة أحمد بن القاسم، وإجباره على التنازل عن الإمامة لأخيه إسماعيل، فها نحن نجد محمد بن الحسين والأمير ناصر بن عبد الرب، صاحب كوكبان، من آل شرف الدين يصلون بغارة إلى (ثلا) لمحاربة أحمد بن القاسم، وكان قد تفرق عنه كثير من الجند. واستمرت الحرب من طلوع الشمس حتى غروبها، وبعد ذلك خاضوا في الصلح بأن ينزل أحمد بن القاسم من حصن (ثلا) وأن يجتمع بإسماعيل، ويُعقد بينهما اتفاق. وتقدم أحمد بن القاسم بعد هزيمته إلى أخيه إسماعيل في ضوران-مكرهاً-فحصل الاتفاق بين الأخوين، وحُسم الأمر لصالح إسماعيل. ولم تُعقد مناظرة علمية كما هو معروف؛ لأن القوة هي التي سادت وسيطرت. وألقى إسماعيل كلمة طَيَّب فيها خاطر أخاه أحمد، وشهد له بالكمال. وتكلم أحمد بما حصل من الإلتئام والتمام، وبايع أخاه إسماعيل، كما بايعه من كان قد بايع أحمد من العلماء. ثم خيره الإمام بأي الجهات يحب البقاء فيها، فاختار صعدة، التي كان متولياً لها من أيام والده الإمام القاسم وكذلك أخيه الإمام المؤيد.
وعاد أحمد بن القاسم إلى صعدة، وكان قد حصل فيها الخلل الكبير. وعند عودته وصل إليه كثير من أهل المناطق الشمالية، وأحسن إليهم. وكانوا يعرفون عزيمته وهيبته.
وبذلك يكون الإمام إسماعيل قد تمكن من التغلب على منافسيه من آل القاسم بالوعود بالبذل والعطاء كما فعل مع محمد بن الحسن وغيره، أو بالحرب والقوة كما فعل مع أخيه أحمد.
وهناك من عارض الإمام المتوكل من خارج الأسرة القاسمية، ودعوا لأنفسهم بالإمامة، فكانت دعوة بعضهم في نفس الفترة التي دعا فيها الإمام المتوكل، والبعض الآخر بعد ذلك بسنوات، ومن هؤلاء:
أ - إبراهيم بن محمد بن عز الدين المؤيدي
ما إن علم إبراهيم بن محمد المؤيدي بوفاة الإمام المؤيد بالله محمد ابن القاسم حتى أعلن إمامته في (العشة) من جهات صعدة، حيث وجد أنه الأحق بها، ولديه ما يؤهله لذلك. فبالإضافة إلى علمه واجتهاده ومؤلفاته، كانت حجته أنه كان متقدماً في دعوته على دعوة المتوكل إسماعيل بساعة أو ساعتين من ذلك اليوم. وكان والده هو الذي فتح صعدة للإمام القاسم بن محمد. وكان أيضاً من أعيان آل محمد علماً وحلماً وذكاءً.
بدأ إبراهيم المؤيدي بإرسال الكتب إلى الجهات اليمنية، إلاّ أن دعوته تلك لم تلق إجابة ولا قبولاً، ولم يجبه سوى جماعة يسيرة من أهل صعدة، ولعلَّ الأستاذ الدكتور حسين العمري كان محقاً عندما ذكر بأنه كان من الواضح منذ البداية للمهتمين بشؤون الحكم والسياسة من رجال الحل والعقد، خاصة بعد تنازل أحمد بن القاسم لأخيه الأصغر المتوكل إسماعيل بأن الأخير هو حاكم البلاد المطلق، والإمام غير مُنازع أو مُنافس.
لذلك نجد أن إبراهيم المؤيدي بعد أن رأى أنه لا فائدة من دعوته تلك، وأن رسائله لم تلق قبولاً بدأ يراسل الإمام المتوكل إسماعيل ويوهمه بأنه معترف أنه دخل في أمر يعلم قصوره فيه، وإنما يريد معرفة الوجه الذي يحصل به التسليم له. إلاّ أنه- كما ذكر كثير من المؤرخين- يقرب تارة ويبعد أخرى. ثم أنه في سنة (1056ه/ 1646م)، ادعى أنه الإمام الواجب اتباعه على جميع الأنام، فأرسل إليه المتوكل ابن أخيه محمد بن الحسين على رأس مجموعة من الجنود، فقبض عليه، وأُحضر إلى الإمام وهو بصنعاء، فبايعه أمام أعيان الناس، الذين كان الإمام قد جمعهم ليشهدوا على مبايعته له. لكنه عندما اتجه إلى المناطق الشمالية اتجه إلى برط، فالتقى بالقضاة آل العنسي ومشائخ تلك الجهة، وقال لهم: أنه لم يتخلص من الإمام إلاَّ بالبيعة، أي أنه أُكره على مبايعة الإمام. وطلب منهم مساعدته، فرفض الجميع ذلك الطلب، مما اضطره إلى التوجه إلى بلاده.
وفي خولان صعدة دعا لنفسه مرى أخرى. وبدأ يستميل قبائل تلك الجهة، إلاَّ أن الإمام المتوكل لم يسكت على ذلك، فقد قام بإرسال ابن أخيه أحمد بن الحسن، الذي وصل إلى بوصان (بلد من أعمال صعدة). ولما علم إبراهيم المؤيد هرب إلى بلاد قُراظ (هجرة في بني جماعة بصعدة)، وطالب بالصلح، وأنه مبايع للإمام. وكتب رسالة وقرأها في باقم من قُراظ على ملأ من الناس، كان من ضمن ما جاء فيها: "سلَّمت ما كنت تحملته من الأعباء الثقيلة تسليم راض، لا شبهة فيه ولاحيلة لوليه وابن وليه الإمام المذكور المتوكل على الله إسماعيل. إلى أن قال فيها: فليعلم من وقف على مكتوبي هذا ما التزمته من إحكام الطاعة للإمام".
ولكنه في سنة (1061ه/ 1651م)، عاد إلى حالته الأولى، حيث رأى أن الفرصة سانحة له بالتضامن مع الشيخ يحيى بن روكان، الذي خرج وتمرد على الإمام إسماعيل أكثر من مرة، كما سنرى لاحقاً. وهنا تعلل إبراهيم المؤيدي بقضية ابن روكان، وأنه صدر إلى جانبه من أصحاب الإمام ظلم وعدوان، كما أضاف إلى ذلك أن الإمام أهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن دعوته سبقت دعوة المتوكل، وأنه إنما سلم للإمام وبايعه المرة الأولى والمرة الثانية مكرهاً. فأرسل الإمام إليه عدداً من الجنود، فأظهر الندم على مافعل، ووصل بنفسه إلى الإمام يعتذر له، فقبل عذره "وأسعده فيما طلبه من الإقطاع وما رام، وزلجه بأحسن زلاج. وأقطعه بلد رُغَافة (قرية مشهورة شمال صعدة) وما حولها، وجميع ما يحتاج".
ولم يترك إبراهيم المؤيدي ادعاء الإمامة، إلاَّ بعد أن رأى استحالة منافسة الإمام المتوكل، بسبب قوته وتغلبه عليه أكثر من مرة، وهذا التصرف منه يدل على غفلة كبيرة، فإذا لم ينجح في أول دعوته وبداية أمره مع آل العنسي في برط وأنصاره في صعدة بدعوى الأهلية والكفاءة فأنَّا له الأمر بعد ست سنوات أخرى، وقد أصبح الإمام المتوكل إسماعيل أكبر مكانة وأكثر خطراً. إلاَّ أن المؤيدي هذا كان يشكل مصدر إزعاج وقلق للإمام المتوكل، خاصة أنه كانت له رسائل كثيرة في الطعن في الإمام المتوكل والاعتراض عليه، مما اضطره إلى الإجابة على أكثرها، وأجاب على الباقي بعض علماء عصره.
ومما يؤكد حب إبراهيم المؤيدي للرئاسة والزعامة والإلحاح على طلبها بأي طريقة كانت ما ذكره يحيى بن الحسين: بأنه لما بلغ السيد إبراهيم المؤيدي وفاة إسماعيل بن محمد بن الحسن بن القاسم، التبس عليه الأمر، بسبب تشابه الأسماء، واعتقد أنه الإمام إسماعيل، فخرج من صعدة في الحال ومعه بعض المناصرين له، حتى استقر ببلد العشة ورغافة. وطلب من أصحابه الحاضرين البيعة، ثم تبين له أن الذي توفي ليس الإمام إسماعيل، فتراجع عما كان قد نوى على فعله. وكان ذلك قبل وفاته بثلاث سنوات فقط، سنة (1080ه/، 1669م).
ومن الملاحظ أن الإمام المتوكل إسماعيل كان صبوراً في تعامله مع إبراهيم المؤيدي. ربما أراد أن يستميله إلى جانبه، ولا يريد أن يكون في المناطق الشماليه عدواً له، خاصة أن أسرة المؤيدي كان لها مكانة كبيرة في صعدة وما حولها. وكان منهم أئمة وعلماء، كما كان والد المؤيدي من أنصار الإمام القاسم وفتح له مدينة صعدة الهامة، كما أسلفنا.
ب - السيد عبد الله بن عامر بن علي الحسني
هذا السيد هو ابن عم الإمام القاسم بن محمد. وقد دعا لنفسه بالإمامة سنة (1054ه/ 1644م)، أيضاً. وكان في حوث، ثم توجه إلى وادعة الطاهر، وأعلن إمامته هناك، وأخذ منهم بعض الواجبات، ومال إليه بعضهم. إلا أن الإمام المتوكل إسماعيل جهز عليه ابن أخيه محمد بن أحمد بن القاسم، وهو في خمر، فتمكن من القضاء على دعوته تلك. واضطر إلى الهرب ليلاً عائداً إلى بلاده شاطب، ولم يعد إلى ذلك. ولم تكن دعوته ذات أهمية، وقُضي عليها في مهدها.
ج - السيد محمد بن علي الحيداني
كان السيد محمد بن علي الحيداني قد أعلن إمامته في عهد الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم، في بلاد حيدان، ثم قُضي على دعوته تلك، واستقر في حيدان حتى سنة (1061ه/ 1651م). وفي هذه السنة خرج من بيته إلى بلاد برط، ثم نزل منه إلى بلاد خولان صنعاء، ومنها إلى بلاد قايفة.
وأظهر في تنقله في تلك المناطق بأنه المهدي المنتظر، وأن عنده صحة إمامين في عصر واحد. وقد صرح بذلك عند إعلان إمامته في عهد الإمام المؤيد.
ولما وصل إلى بلاد قايفة طرده أهلها عنها، ووصل أحمد بن الحسن لمحاربته والقضاء على دعوته خوفاً من أن تغتر به القبائل هناك، فُطرد، وانتهبت القبائل حاجاته وكتبه وحصانه، فعاد من حيث أتى هو وأصحابه، واستقر في بلده حيدان، ورجع عما كان يريده مكرهاً.
وهذه الدعوة أيضاً لم تكن ذات أهمية، وقُضي عليها في مهدها. ولم تشكل خطراً على الإمام المتوكل، الذي كان قد توسعت دولته، وازدهرت بشكل ملحوظ.
د - السيد محمد بن علي الغرباني
لقد جاءت دعوة محمد بن علي الغرباني القاسمي متأخرة، فلم يعلن إمامته إلاَّ في سنة (1075ه/ 1665م)، حيث كان ساكناً بصنعاء، وخرج منها إلى بلاد برط. وطلب من أهلها البيعة، إلاَّ أنهم رفضوا إجابة دعوته، وأرسلوه إلى الإمام، فأعلن توبته وعاد إلى صنعاء.
وفي سنة (1077ه/، 1666م)، اتجه إلى برط مرة أخرى، وأرسل برسالة إلى الإمام فيها اعتراض عليه، ولم يجب الإمام على تلك الرسالة. وكان الغرباني هذا من تلامذة الإمام المتوكل.
وقد استقر في برط ربما ليكون بعيداً عن مركز الدولة، مثل من سبقه من الدعاة. وعلى الرغم من أن أهل برط قد رفضوا إجابة دعوته، لكنهم ووفقاً للقواعد القبلية السائدة ما دام قد استجار بهم، فلا بد من إجارته. وتعهدوا لأحمد بن الحسن عندما تقدم لمحاربتهم بأنه لن يصدر شيء من جانب محمد الغرباني ما دام عندهم، فأخذ أحمد بن الحسن ضمانات من مشائخهم على ذلك.
إذاً كان السيد محمد بن علي الغرباني آخر من ادعى الإمامة في عهد الإمام المتوكل إسماعيل. وعندما رأى عدم مقدرته على الاستمرار في ذلك نحا منحاً آخر، وهو محاولة إظهار مساوئ دولة المتوكل، وأنه يجب الخروج عليها. وأنه لم يتوقف عن إعلان إمامته إلا لعدم القدرة. وكان يجيد الشعر، فلجأ إلى كتابة القصائد المنددة بدولة المتوكل، مبيناً فيها وجوب الخروج على دولته.
ولعله خلال بقائه في برط، وعدم مقدرته على أن يدعو لنفسه بالإمامة، كان منتظراً لخلاف قد يحدث بين برط والدولة القاسمية، فيستغل ذلك لصالحه، ويعلن إمامته، خاصة أن برط كانت دائمة التمرد والخروج على الدولة، وفي عام 1083ه/ 1672م، عاقبت الدولة آل عمار بسبب قيامهم بالنهب في باب صعدة، فخرج جماعة من دهمة في برط على الدولة وبايعوا محمد الغرباني، ففرح بذلك؛ لأنه كان منتظراً لأي فرصة تلوح له لإعلان إمامته. مع أنه كان قد كتب قصيدة باعتقاده إمامة إسماعيل، وعدم الخروج عليه، إلاَّ أنه كان مضمراً في نفسه استغلال أي فرصة لإعلان إمامته، ولما اعتُرِضَ عليه في ذلك، قال: إن مذهبه هو صحة إمامين في وقت واحد.
ومما لا شك فيه أن ذلك يدل على غفلة من السيد محمد بن علي الغرباني كما سبقه إبراهيم المؤيدي، لأن دولة الإمام المتوكل إسماعيل أصبح لها مكانة كبيرة، وازدهرت وتوسعت حدودها، حتى وإن فُرض ضعف الدولة نوعاً ما في أواخر عهده، فإن أولاد أخوته لم يكن ليسمحوا لأحد أن ينتزع منهم الإمامة، خاصة أحمد بن الحسن، الذي أصبحت له مكانة كبيرة، فهو الرجل الثاني في الدولة القاسمية.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن علي بن أحمد بن القاسم-والي صعدة-كان قد أعلن إمامته في أواخر عهد الإمام المتوكل إسماعيل محتجاً بمرضه، وأنه لم يعد قادراً على القيام بأعباء ومهام الإمامة. لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الإمامة، كما سنرى لاحقاً.
وكان من الطبيعي أن يواجه الإمام المتوكل إسماعيل معارضين لدعوته وحكمه، أو خارجين عن طاعته، فتلك كانت نظرية الحكم للمذهب الزيدي، وطبيعة الحياة السياسية في البلاد في العهود السابقة واللاحقة. وكان الخلاف أو الصراع غالباً ما ينشب أو يتطور بمجرد وفاة إمام وقيام آخر.
ولعلَّ (بليفير) كان مخطئاً عندما رأى أن عرش اليمن وراثياً، وأن الإبن البكر للإمام هو الذي يخلفه عند الوفاة، وذلك برضى عام. ومما لا شك فيه أن هذا القول أو الرأي يتنافى مع نظرية الإمامة في المذهب الزيدي، التي لم تكن تجيز الوراثة في الحكم. ولم يكن من حق الإمام أن يوصي بمن يخلفه، ولكن من رأى في نفسه الأهلية فليدعو لنفسه بالإمامة، حتى وإن كان الإمام القائم يعد ابنه الأكبر للإمامة، فإنه لا يستطيع إعلان ذلك صراحة. ولو أن الابن الأكبر هو الذي يخلف الإمام المتوفى لكان الأمر محسوماً، ولم تنشأ تلك الصراعات على الإمامة بين الدعاة، الذين يرى كل منهم أنه الأصلح لها والأحق بها.