وبين الحين والآخر يورد المؤلف نكتة أو نادرة عجيبة، فنجده مثلاً في سنة (1093هـ/1682م) يقول: اتفقت نادرة عجيبة، وهي أن بعض الفقهاء من بني النحوي اشترى بقرة فَحَفتْ من السير، فرأى أن يشتري لها جملاً ويحملها عليه، فأورد الشاعر أحمد بن على الشارح أبياتاً شعرية كثيرة من باب النكتة، مما جاء فيها:
قالوا اشتريت تبيعة
تشكو برجليها خلل
فرثيت أنت لحالها
فربطتها فوق الجمل
وفي معظم الأحيان يورد المؤرخ قصصاً اجتماعية تظهر إيمانه بانتقام الله، إذ كان دائماً يستخلص العظة والاعتبار من هذه القصص، وكان معظم ما يطرحه من وقائع اجتماعية تنبع من وجهة نظر دينية.
وبذلك يكون يحيى بن الحسين قد تابع الكتابة عن الحياة الاجتماعية ولو من وجهة نظر دينية، فكان يتابع الأحداث التي قد تحدث في أي مجتمع، وتعبر عن واقع المجتمع وحركته وديمومته، وقد لا يهتم بها الكثير من المؤرخين، خاصة في الفترة الحرجة، المليئة بالأحداث السياسية الهامة، لكنه لم يغفل هذا الجانب، وسجل الأحداث الاجتماعية الهامة من وجهة نظره، وترجع أهميتها أنه معاصر لهذه الأحداث وقريب منها؛ لأن معظم ما دونه في هذا الجانب كان ما يحدث في صنعاء، إلا ما سمعه من أخبار اجتماعية خارج صنعاء، ووصلت إليه لغرابتها وندرة وقوعها.
واهتم المؤرخ في حديثه عمن كان يترجم لوفاتهم بظاهرة اجتماعية هامة، وهي هجرة أو انتقال طلاب العلم من الريف إلى المدينة، أو المناطق التي تتوفر فيها هجر العلم، وترك المهتمون بالعلم قراهم منصرفين عن الزراعة، واتجهوا إلى الهجر للتفرغ للعلم.
وكانت بعض الأسر تتكفل بإطعام طلبة العلم إلى جانب المقررات التي كان يقررها لهم الأئمة وبعض الولاة. من أمثلة ذلك ما ذكره عند ترجمته للعلامة الحسن بن شمس الدين بن جحاف، الذي ترك أسرته في القرية واتجه إلى صنعاء، وتفرغ للعلم, وقد تكفل بإطعامه أحمد الوادي، كما أمر الحسن بن القاسم ببناء منظرة له.
وأعطانا المؤرخ بعض المعلومات عن صنعاء المدينة من حيث أسواقها ومساجدها وحاراتها، وأسماء الكثير من الغيول بالمدينة مثل: غيل الخندق وغيل العلفي، وغيل الحسين بن المؤيد بالله، وغيل الجراف، وغيل علي بن المؤيد بالله. كما اهتم بذكر المعاصر الخاصة ببعض الزيوت "السليط" وأنواع الزيوت التي كانت تعصر بها مثل: الخردل والخشخاش؛ لأنه يزرع في المناطق الجبلية، أما الجلجلان (السمسم) فلا يصلح إلا في التهائم واليمن الأسفل، لذلك كان يُستورد من هناك كما يجد القارئ معلومات عن بساتين صنعاء التي كانت في كل حارة من حاراتها ولا زالت باقية حتى اليوم.
ومن خلال ما أورده المؤرخ من صور اجتماعية في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة يمكن القول: إنه قد رسم لنا صورة واضحة عن المجتمع الصنعاني خاصة واليمني عامة، وفي الوقت ذاته أعطانا صورة عن مدينة صنعاء في تلك الفترة.
د- الأوضاع العلمية والدينية
أن الأوضاع العلمية والدينية كانت موضع اهتمام المؤرخ فهو ليس مؤرخاً فحسب، لكنه واحدٌ من أبرز علماء ذلك العصر كما رأينا في ترجمة حياته.
ومن الملاحظ أن العوامل الأساسية لازدهار الحياة العلمية في عصر المتوكل قد توفرت، والتي من أهمها: الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي فزاد عدد المدارس، ومن ثم زاد عدد طلبة العلم والعلماء وكان المتوكل يحرص على عقد العديد من المجالس العلمية والدينية لديه.
فتمتع اليمن في تلك الفترة بنهضة علمية واضحة المعالم، وكانت الحياة العلمية أكثر ازدهاراً. وعلى الرغم من أن المؤرخين المعاصرين ليحيى بن الحسين قد أشاروا إلى تلك اللنهضة، إلا أن مؤرخنا تناول الحياة العلمية في اليمن على نحو أكثر شمولاً ودقة فمعظم أوراق المخطوطة -وعلى وجه الخصوص الجزء الأول- تكاد لا تخلو من الحديث عن العلم والعلماء.
غير أن الاهتمام بالعلم والعلماء في الفترة اللاحقة -أعني بعد وفاة الإمام المتوكل إسماعيل- لم تكن واضحة كثيراً، وعلى الرغم من ذلك فقد حرص المؤرخ على تتبع الأوضاع العلمية والدينية حينذاك، فنجده مثلاً قد ترجم للكثير من العلماء، الذين توفوا في فترة تدوينه لهذا الكتاب، وذكر مؤلفاتهم، والعلوم التي اهتموا بها، وناقش في بعض الأحيان أفكارهم واجتهاداتهم سلباً وإيجاباً؛ لأنه يعد واحداً منهم.
وناقش المؤرخ الكثير من المسائل الدينية مناقشة مستفيضة، كما تناول بعض المذاهب الإسلامية، وأماكن وجودها في العالم الإسلامي.
وأورد أسماء الكثير من الكتب في مختلف فروع العلم من حديث وفقه وتفسير وتاريخ وأصول الدين وكتب الطبقات والتراجم وغيرها من المؤلفات التي قد يجدها القارئ في ثنايا الكتاب بأجزائه الثلاثة، مما يُغني تراثنا إذا أردنا التعرف على تراث الماضي.
وخلال تتبعه للحركة العلمية وعلى وجه الخصوص في الجزء الأول رسم لنا صورة تكاد تكون واضحة عن الكتب التي يعول عليها في تدريس هذه العلوم، فذكر مرات عديدة أسماء الكتب التي كانت بمثابة حجر الأساس في التعليم، والتي كان لزاماً على طالب العلم أن يقرأها، بل ويحفظ بعضها، ويفهم فهماً جيداً البعض الآخر.
ولعل أهم تلك الكتب "الأزهار" للإمام أحمد بن يحيى المرتضى، وبعض شروحه الهامة،و "الكافل" للرصاص، و"البيان" لابن المظفر، و"منتهى السؤل" لابن الحاجب وشروحه الهامة، و"المطول" و"المختصر" للتفتازاني، و"الكشاف" وشروحه الهامة للزمخشري و"الشافية"و"الكافية" لابن الحاجب ، و"الأساس" للإمام القاسم بن محمد ، و"غاية السؤل" وشرحه "هداية العقول" للحسن بن القاسم، ومؤلفات أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا.
وقد عرض المؤرخ لبعض الآراء والأقوال الصادرة عن بعض العلماء المعاصرين له وكذلك السابقين، فنجده -على سبيل المثال يورد بعضاً من أقوال "ابن عربي" في وحدة الوجود، ثم يعرض لآراء بعض العلماء السابقين له وأقوالهم عن ابن عربي، مثل: ابن تيمية والذهبي والسخاوي والسيوطي وغيرهم.
واهتم بذكر كرامات بعض الأولياء والصالحين، مما يجعلنا نرجح أنه كان يعتقد بهم، إذ يقول: "وفي اليمن أولياء ومشاهد لم تُعرف في تاريخ ذكرها في هذه البلاد العليا، لعدم اعتناء الشيعة بذكر تاريخ الفضلاء، كما يعتني أهل السنة بهم، ويورد بعضاً منهم ثم يقول: "نفعنا الله بالصالحين". ويهتم بأحمد بن علوان كثيراً، وأن الله كان ينجي فقراء الشيخ أحمد بن علوان من مخاطر كثيرة ببركة هذا الشيخ.
وبذلك يمكن القول إن المتتبع لكتاب "بهجة الزمن" يجده زاخر بالكثير من المواضيع العلمية والدينية التي اهتم بها المؤرخ، وناقش معظمها بعلم ودراية.
هـ- الظواهر الطبيعية والفلكية
لم يكن يحيى بن الحسين هو الوحيد الذي اهتم بتدوين الظواهر الطبيعية والفلكية، فكثير من المؤرخين كانوا يدونون في كتبهم تلك الظواهر، فهي سمة من سمات التاريخ عند المسلمين.
لقد تابع المؤرخ في كتابه بأجزائه الثلاثة ما كان يحدث في اليمن من ظواهر طبيعية وفلكية كل عام تقريباً، مثل: الأمطار، الجفاف، الزلازل، البراكين، الخسوف، الكسوف، سير النجوم، واقترانها، ويهتم بذكر ما ترتب على تلك الظواهر من أضرار وفوائد، فنجده مثلاً يخبرنا عن حدوث براكين فيقول: "ظهرت نار عظيمة في الجبل المقابل للمخا، تلتهب وترمي بالشرر إلى البحر، وتصعد في السماء كالمنارة العظيمة .... وظهر في خلالها نتن في البحر بسبب موت كثير من الحوت المقارب من الجبل، لما حصل من حرة وهجها، وقذف البحر بشيءٍ منها إلى ساحل المخا". ثم تكلم عن وقوع زلازل شديدة في المخا. واهتم بمتابعة الزلازل التي كانت تحدث في ضُوران، وأيضاً زلازل وقعت في بلاد ريمة ووصاب وحراز.
كما اهتم بتسجيل ما كان يحدث في عصره من صواعق في جهات مختلفة من اليمن، وما كان يترتب عليها من أضرار.
ويجد المتتبع لكتاب "بهجة الزمن" وصفاً للمناخ في بعض الأحيان، فيذكر -مثلاً- ما كان يحدث من برد شديد في بعض السنوات وما ترتب على ذلك فيقول: "واشتد برد هذه السنة وقَرِّها وشتاها شدة عظيمة. وكان البرد الشديد يحدث أضراراً بالزراعة".
وتابع ما كان يحدث من رياح شديدة في بعض السنوات وما كانت تحدثه من أضرار، فيقول مثلاً: "فأثارت عجاجاً كثيراً، وتراباً واسعاً، وكسرت بعض الشجر".
أما الأمطار والجفاف فقد اهتم بها كل عام تقريباً والآثار المترتبة عليها سلباً وإيجاباً.
وكان ليحيى بن الحسين معرفة بعلم الفلك، فنجده يهتم كل عام بالفلك وتحول السنين والنجوم وسيرها واقترانها ببعضها، ويتناول ذلك في معظم الأحيان بالشرح، مما يدل على أن لديه إلماماً ومعرفة بعلم الفلك.
وفي بعض الأحيان يربط بين الفلك والظواهر الطبيعية الأخرى، فنجده يتكلم بأنه في آخر شهر صفر عند "استكمال الربيع الأول اجتمعت الكواكب الخمسة: الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ، والذنب في برج الحوت، دليل الأمطار الواسعة"، وأحياناً أخرى يربط بين الفلك والأوضاع السياسية، فنجده مثلاً يذكر أنه كان ابتداء دخول زحل في برج الأسد من المثلثة النارية، ثم يقول: "وهو علامة للحروب، وغلبة بعض الدولة على بعض"، ثم تناول ما حدث باليمن من حروب منذ أيام المماليك إلى عام (1092هـ/1681م) وربط كل ذلك عند دخول زحل ببرج الأسد، وهناك أمثلة أخرى كثيرة.
ويتابع مثل غيره من مؤرخي الحوليات الخسوف والكسوف، ويربط ذلك أحياناً بالنجوم الأخرى.
و- أوضاع العالم العربي والإسلامي
لم يكن كتاب "بهجة الزمن" بأجزائه الثلاثة قاصراً على الأوضاع في اليمن، فقد اهتم المؤرخ بأوضاع العالم الإسلامي، وعلى وجه الخصوص: الدولة العثمانية، والحجاز، وتابع ما كان يجري في العالم الإسلامي من أوضاع سياسية، التي كانت محط الاهتمام الأول للمؤرخ أو اقتصادية، وأهم الأخبار العلمية والدينية.
وإذا ما ألقينا نظرة على الجحاز سنجد أن المؤرخ قد اهتم بتتبع أوضاعها، خاصة أخبار الحج، وكيف كان في كل عام، ومن هو المحمل الأقوى من المحامل الأربعة، العراقي والمصري واليمني والشامي، كما اهتم بتدوين الأوضاع السياسية في الحجاز وما كان يدور من خلافات وحروب بين الأشراف والولاة العثمانيين، وموقف السلطان العثماني من ذلك. وسجل أهم الأوضاع الاقتصادية في مكة، مثل: سنوات القحط، والأسعار في تلك السنوات، أو قد يذكر ما هي المنتجات التي كانت أسعارها مرتفعة والمنتجات التي أسعارها منخفضة، وما السبب في ذلك. ويذكر ما قد يحدث في مكة من أحداث غريبة، فنجده مثلاً يذكر أنه حدث اعتداء على الكعبة المشرفة بالقاذورات.
أما الدولة العثمانية فقد اهتم بها أيضاً، فتابع ما كان يجري بها من أوضاع سياسية، وبحسب ما كان يصل إليه، واهتم بذكر الحروب التي كانت تجري بين الدولة العثمانية والفرنج (على حد تعبير المؤرخ) وما الجهات التي قامت فيها. وتابع محاولات الدولة العثمانية فتح بلاد مالطة والأندلس وما كانت تسفر عنه تلك المحاولات، واهتم بالانتصارات التي كانت تحققها الدولة العثمانية من ذلك قوله: "فاستولى عليهم "أي السلطان العثماني" وقتل منهم قتلاً ذريعاً، وسباهم، واسترد البلاد التي كانوا قد استولوا عليها، ثم عاد استنبول". وأحياناً يتكلم عن وزراء السلطان العثماني والباشوات في مصر ودمشق والعراق، وتابع أخبار السلاطين العثمانيين من حيث اعتلائهم عرش الدولة، أو وفاتهم، أو الصراعات التي كانت تحدث بين السلطان وبعض أفراد أسرته، وسبب اهتمامه بالدولة العثمانية؛ لأنها كانت تمثل مركز القوة في العالم الإسلامي حينذاك، وبها مقر الخلافة الإسلامية، ولا يستطيع أحد إنكار أهميتها وقوتها.
ثم نجده في الدرجة الثانية يهتم بذكر أهم الأخبار عن بعض الأقطار الإسلامية الأخرى، وفي مقدمتها عُمان، اهتم فيها بذكر الحروب التي كانت تدور بينهم وبين البرتغاليين، وبحسب ما كان يصل إلى مسامعه من أخبار، كما اهتم بمتابعة العلاقات اليمنية العمانية السلبية والإيجابية.
ودوَّن ما كان يصل إليه من أخبار عن بلاد الشام والعراق ومصر، وبلاد فارس والمغرب والهند وبخارى وقندهار وسمرقند والصين وغيرها.
ولأهمية الرحلة التي قام بها القاضي الحسن بن أحمد الحيمي إلى الحبشة، والتي دونها في كتاب مستقل أسماه"حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر" أورد يحيى بن الحسين هذه الرحلة كاملة، وحرص على أن يدون كل ما ذكره الحيمي من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية في الحبشة، كما تناول بعض الظواهر الطبيعية وما تمتاز به الحبشة من أمطار وأنهار وأودية وجبال، فأضاف بذلك معلومات هامة عن الحبشة في القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي.
خامساً-منهج المؤرخ
إن وجود عدد غير قليل من المؤرخين اليمنيين في القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي يعد عاملاً هاماً في إثراء المكتبات اليمنية خاصة، والعربية والعالمية عامة، بالمؤلفات التاريخية القيمة، التي يتضح من خلالها المنهج العام لكتابة التاريخ في تلك الفترة، فالمهتم بما كُتب عن تاريخ اليمن الحديث، بل والمعاصر يجد أن المؤرخين اليمنيين كانوا ينتمون إلى ما يمكن أن نسميه مدرسة التاريخ الإسلامي العامة،فالمدرسة اليمنية جزء من مدرسة التاريخ الإسلامي وامتداد لها، حيث التزم هؤلاء المؤرخون بالمنهج العلمي الذي سارت عليه كتابة التاريخ في العصور الإسلاميةويعد يحيى بن الحسين واحد من أعلام هذه المدرسة، فقد تأثر بها وسار على نهجها، حيث كان مهتماً بكتب التاريخ الإسلامي عامة، وكذلك الكتب التي تتناول علم التاريخ، مثل كتاب السخاوي"الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" الذي أشار إليه أكثر من مرة في مخطوطته هذه.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما المنهج الذي اتبعه المؤرخ في خلال تدوينه لأحداث كتابه"بهجة الزمن" بأجزائه الثلاثة؟