ولكن من سوء الطالع أن يتزامن انتقال المهدي محمد بن أحمد بن الحسن إلى عاصمته الجديدة بحادثة ظهور فتنة إبراهيم بن علي المحطوري في منطقة الشرف من بلاد حجة، الذي كان بارعاً في السحر وعلم الطلاسم، فسفك الدماء ونهب الأموال وتزايد أتباعه، واستمرت فتنته حوالي أربعة أشهر، تمكنت قوات المهدي محمد بن أحمد بن الحسن من القضاء على أصحابه. وأفتى العلماء بقتله، فأعدم في ذي القعدة سنة (1111ه/إبريل1700م) .
وبعد القضاء على فتنة المحطوري استقرت الأوضاع السياسية في اليمن، وتوافدت إلى الإمام المهدي في عاصمته المواهب الوفود من خارج اليمن، من فارس والحجاز، كما وصلت بعثة فرنسية إلى بلاد الإمام في المواهب. وزاد دخل الدولة من المخا الذي كان الميناء الرئيسي لتصدير البن إلى خارج اليمن، وازدهرت تجارته في هذه الفترة.
وعلى الرغم من أن الناصر قد تمكن من القضاء على العناصر القوية في دولته، غير أنه بعد أقل من عقدين وبالتحديد في سنة (1127ه/1716م) أعلن الحسين بن القاسم بن المؤيد في شهارة إمامته، مستغلاً الاستياء والتذمر الذي ساد الكثير من المناطق اليمنية بسبب السياسة المالية الجائرة، والمتمثلة في فرض مطالب مختلفة، مخالفة للشريعة الإسلامية، فتمكن الحسين بن القاسم من كسب الكثير من المناصرين له والمؤيدين، واضطر صاحب المواهب عند ذلك أن يطلق سراح ابن أخيه القاسم بن الحسين بن أحمد بن الحسن من السجن لمساعدته ضد الحسين بن القاسم بن المؤيد، غير أن القاسم بن الحسين دخل في خلاف مع صاحب المواهب فبايع الحسين بن القاسم، واستولى على عدد من المدن باسم الأخير، وفي نهاية الأمر حاصر صاحب المواهب، الذي اضطر أن يطلب الهدنة، معترفاً بإمامة الحسين بن القاسم الذي تلقب بالمنصور، وخلع صاحب المواهب نفسه "بعد حروب شديدة، ومحاصرة عظيمة" .
غير أنه في نهاية عام (1128ه/1716م) نكث القاسم بن الحسين بمبايعته للمنصور الحسين بن القاسم وأعلن إمامته، وتلقب بالمتوكل، وكان قد أصبح إليه صنعاء، واستولى على عدن والمخا وموانئ تهامة وحجة وكحلان، كان يعني ذلك سيطرته على إيرادات الموانئ، وعلى النقيض من ذلك كان المنصور الحسين بن القاسم، الذي لم يكن له إلا شهارة وبعض المناطق المجاورة.
ومن البديهي أن يرفض صاحب المواهب مبايعة ابن أخيه القاسم بن الحسين، متعللاً إنه إنما تنازل عن إمامته للمنصور الحسين بن القاسم، فدارت معارك بين الطرفين انتهت بمحاصرة صاحب المواهب، واشتدت وطأة هذا الحصار على من بها من منتصف شهر شعبان سنة (1130ه/13يوليو/1718م) حتى الأسبوع الأول من رمضان/ يوليو، حيث توفي صاحب المواهب في 5 رمضان، وكان عمره ثلاثة وثمانين عاماً. وكان في وفاته فرجٌ على أهله ومن معهم بداخل المواهب وفرج على المحاصرين للمواهب.
وهكذا سارت عجلة التاريخ في هذه الحقبة كما استعرضناها، قوة وازدهار في عهد الإمام المتوكل، وتوسيع لحدود الدولة حتى هابها القريب والبعيد، وازدهار اقتصادي وما تبعه من ازدهار فكري علمي.
وكانت فترة الإمام المهدي أحمد بن الحسن امتداداً للفترة السابقة لها، وسار على نفس خُطى الإمام المتوكل تقريباً، واستقرت الأوضاع إلى حد ما بسبب ما تمتع به الإمام المهدي من قوة شخصية وهيبة.
وبدأ التدهور السريع وسوء الأوضاع الإدارية والمالية في عهد الإمام المؤيد محمد بن المتوكل. وزادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً.
أما الإمام الذي اتخذ الثلاثة الألقاب وهو محمد بن أحمد بن الحسن، فكانت شخصيته مختلفة عمن سبقه من الأئمة، ولعله اتبع سياسة الغاية تبرر الوسيلة-إن جاز استخدام هذا التعبير-وعلى الرغم من سيطرته على زمام الأمور وإخضاع مراكز القوى فإن الأوضاع الاقتصادية قد تدهورت بسبب الحروب الكثيرة التي دارت بينه وبين المعارضين له. غير أنه في نهاية الأمر تغلب على الجميع، وزادت عائدات الدولة المالية بسبب ازدهار تجارة البن، وطالت فترة إمامته إلى أكثر من ثلاثين عاماً، إلى أن مات محاصراً في المواهب، كما أسلفنا.
ولكن تجدر الإشارة هنا أنه على الرغم من أن مخطوطة بهجة الزمن قد توقف قلم صاحبها في بداية عام (1099ه/ 1686م) إلا أن الباحثة قد حاولت بقدر المستطاع إكمال فترة صاحب المواهب الإمام محمد بن أحمد بن الحسن باقتضاب لرسم الخطوط العريضة لهذه الحقبة الهامة من تاريخ اليمن الحديث.
الفصل الثالث
المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم، ومخطوطته
(بهجة الزمن في تاريخ اليمن)
أولاً: ترجمة المؤلف
لقد تناولنا في الفصلين السابقين الظروف السياسية التي كانت محيطة بالمؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم، والتي تناولها المؤرخ نفسه في كتابه (بهجة الزمن في تاريخ اليمن). ولعله قد اتضحت في هذين الفصلين وفيما ورد في كتابه السابق ذكره الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة حينذاك، والتي كانت من العوامل المساعدة في تكوين شخصيته وبروزه في الكثير من علوم عصره.
فمن يحيى بن الحسين؟ وكيف كانت نشأته وتعليمه؟ وما العوامل التي ساعدت على تكوين شخصيته وبروزه في عدد من العلوم؟
أ- أسرته وتعليمه
ينتهي نسب يحيى بن الحسين إلى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، فهو "يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب الأشل بن الإمام القاسم بن الإمام يوسف بن الإمام يحيى بن الناصر أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين".
أما تاريخ مولده فلم نجد فيما بين أيدينا من مصادر تأريخاً دقيقاً للشهر والسنة التي ولد فيها. وقد أورد بعض المؤرخين تأريخاً تقريبياً، ومنهم محمد بن علي الشوكاني، الذي يقول: "ولد تقريباً سنة (1035هـ1625م). ولعل التأريخ التقريبي الذي أورده الشوكاني صحيح، إذ يذكر أحد أحفاد يحيى بن الحسين في الورقة التي قبل ورقة عنوان الجزء الأول من كتاب (بهجة الزمن) أن مولد يحيى بن الحسين كان في سنة (1035هـ/1625م) مستنبطاً تأريخ مولده من بعض الأحداث التي ذكرها المؤرخ في الجزء الأول من كتابه (بهجة الزمن).
ومما لا شك فيه أن يحيى بن الحسين قد نشأ وترعرع في أسرة جمعت بين العلم والسياسة ابتداءً من جده الإمام القاسم بن محمد، الذي كان عالماً مجتهداً، وله العديد من المؤلفات، أصبحت مرجعاً لمن بعده، لعل أهمها كتابه (الأساس) في أصول الدين، و(الاعتصام) في الفقه، وغيرها من المؤلفات في علوم عصره.
وكان الحسين بن القاسم والد المؤرخ يحيى بن الحسين يعد من أبرز علماء عصره، فقد ترك لنا مؤلفات ذاع صيتها، وأصبحت من أهم الكتب التعليمية حينذاك، وفي الفترات اللاحقة. وكان أهمها كتابه (غاية السؤل في علم الأصول) وشرحه (هداية العقول)، الذي يصفه الشوكاني بقوله: "الكتاب المشهور، الذي صار الآن مَدْرَس الطلبة، وعليه المعول في صنعاء وجهاتها". ومن الملفت للنظر أنه قد ألف كتابه هذا وهو في ساحات القتال مع العثمانيين، فظهر مؤلفاً أطنب الكثير من العلماء في وصف أهميته.
ولم يكن الحسين وحده الذي اهتم بالعلم، وبرز فيه، بل إن إخوته كان لهم باع طويل في ذلك ابتداءً من الإمام المؤيد محمد بن القاسم إلى الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم.
ومما لا شك فيه أن بيت العلم والحكم قد ترك أثراً واضحاً على نشأة يحيى بن الحسين وسلوكه وتربيته، لهذا فليس غريباً أن نجد من المؤرخين من يصفه بأنه "سليل بيت علم وسياسة، وانعكس هذا في غزارة علمه وقوة شخصيته".
وهناك عامل آخر كان له أثر في بروز يحيى بن الحسين وثقافته وعلمه، وهو مشائخه الكُثر، الذين تلقى العلم على أيديهم، فمن المؤكد أنه قد تلقى العلم على أيدي مشاهير علماء عصره، بوصفه حفيداً للإمام القاسم وابناً للحسين، ولاستعداده الشخصي، فقد أبدى اهتماماً بالعلم، حيث كان شغوفاً بتحصيله، فدرس في علم الحديث والتفسير وأصول الفقه وأصول الدين وغيرها من العلوم.
وقد أطنب يحيى بن الحسين في مدح مشائخه في الجزء الأول من كتابه (بهجة الزمن) وترجم لهم ترجمة كاملة، وذكر مؤلفاتهم والعلوم التي اهتموا بها، وكيف كانوا مشائخ للكثير من طلبة العلم من أترابه، ولعل أهم هؤلاء العلماء الشيخ المحدث عبد الرحمن بن محمد الحيمي (ت1068هـ/1657م) والقاضي العلامة أحمد بن صالح العنسي (ت1069هـ/1658م) والسيد العلامة شمس الدين أحمد بن علي الشامي (1071هـ/1660م).
ونال المؤرخ العديد من الإجازات من علماء بارزين في عصره، من أقطار مختلفة من العالم الإسلامي، خاصة في علم الحديث، ومن هؤلاء العلماء الشيخ عبد الرحيم اللاهوري الهندي الحنفي، الذي انتقل من مكة إلى اليمن ولازم الإمام المتوكل إسماعيل، وكاتب الشيخ زين العابدين بن عبد القادر الطبري المكي الشافعي في مكة، وطلب منه إجازة في جميع ماله من المرويات وكُتُب السنة، فأجازه في ذلك سنة (1074هـ/1663م) حيث كان إسناد زين العابدين الطبري أعلى الأسانيد في عصر يحيى بن الحسين، وأجازه القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين المسوري سنة (1058هـ/1648م) في مجموع الإمام زيد بن علي. كما نال إجازة عامة من القاضي العلامة الحسن بن يحيى حابس في جميع مروياته.
ولعل فيما سبق دلالة واضحة على أن المؤرخ قد عاش في بيئة علمية واسعة، مما كان له أثر في حياته وتكوين شخصيته وغزارة علمه، وانعكس على مؤلفاته.
وكان للاستقرار السياسي الذي تميز به حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل-كما سبق أن رأينا-أثره الواضح في الازدهار الفكري والعلمي. وبرز في هذه الفترة عدد من العلماء ومنهم يحيى بن الحسين، الذي كان يحرص على الالتقاء بالكثير منهم، وكان هناك علاقة متينة بينه وبين معظم علماء عصره، مما كان له أثر في توجهه العلمي. والتقى المؤرخ بالعديد من العلماء المسلمين الذين كانوا يفدون إلى اليمن من أقطار مختلفة من العالم الإسلامي، وكانت تجري بينهم العديد من المناقشات دوَّنها المؤرخ في كتابه (بهجة الزمن) بأجزائه الثلاثة، وكان هؤلاء العلماء من الحنفية والشافعية والإثني عشرية وغيرهم، وكان يستفيد منهم، كما استفادوا منه، ومن هؤلاء العلماء على سبيل المثال العالم المُلا محمد بن حسن الحساوي الحنفي، الذي التقى به المؤرخ كثيراً، واهتم المؤرخ بذكر العلماء الذين كانوا يفدون إلى اليمن ويلتقي بهم، وتدور مناقشات مذهبية فيما بينهم، ومن هؤلاء العلماء مثلاً: الشريف العارف إسماعيل بن إبراهيم الحنفي الحسيني، ومحمد بن أحمد كزبر الدمشقي، وغيرهم.
واطَّلع المؤرخ على الكثير من الكتب سواءً الموجودة باليمن أو التي كانت تُرسل إليه من أقطار العالم العربي والإسلامي، واهتم بإبداء ملاحظاته عليها بالنقد والتحليل لما ورد فيها سلباً وإيجاباً.
وكان من بين العلماء الذين كانوا يجيبون على الأسئلة والاستفسارات التي كانت تُرسل إلى اليمن من بعض الأقطار الإسلامية، حول بعض المسائل الدينية، بالإضافة إلى بعض المسائل الدينية التي كانت تُثار داخل اليمن وكان يجيب عليها العديد من العلماء من بينهم يحيى بن الحسين.
نخلص من ذلك إلى أن عصر يحيى بن الحسين-خاصة الموازي لعصر الإمام المتوكل إسماعيل-كان واحداً من العوامل التي ساعدت على بروز شخصيته العلمية وكثرة مؤلفاته وتنوعها، ومع كل ذلك فإننا لا نستطيع إنكار العامل المادي، الذي كان له أثر في تفرغ يحيى بن الحسين للعلم، فهو من أسرة حاكمة تتمتع بالاستقرار المادي، الأمر الذي مكَّنه من التفرغ للعلم واقتناء العديد من الكتب القيمة والنادرة.
وكما يروي يحيى بن الحسين بأنه كان مع أسرته مستقراً في مدينة صنعاء، قرب حارة "الأبهر"، وفي فصل الخريف من كل عام ينتقل مع أسرته إلى "بير العزب" غربي صنعاء، حيث كان لهم هناك بيت وضيعة بها أعناب.
هذا الاستقرار ساعد على اهتمامه بالعلم والانتاج الغزير للكثير من المؤلفات.
ويذكر القاضي محمد الحجري أن من مآثر يحيى بن الحسين مسجد القضاة في "بير العزب". وبناؤه لهذا المسجد لدليل على اهتمامه بالعلم والعلماء، إذ كانت المساجد دوراً للعبادة والعلم في الوقت ذاته.
ب- تفرغه للعلم والتأليف
سبق أن تناولنا العوامل التي ساعدت في تكوين شخصية يحيى بن الحسين العلمية وبروزه بين علماء عصره، وهنا لا بد أن نجيب على بعض الأسئلة منها: كيف تفرغ للعلم؟ ولماذا أطلقنا عليه موسوعياً؟ وما العلوم التي اهتم بها وألف فيها؟
لقد أعطى يحيى بن الحسين العلم جُلَّ وقته، وتفرغ له، يتضح ذلك من خلال ما أورده في ثنايا كتابه (بهجة الزمن)، ومن خلال من ترجم له من المؤرخين المعاصرين واللاحقين، ومن خلال المؤلفات التي تركها لنا، وهي متنوعة في عدد من علوم عصره.
فعلى الرغم من التنافس الذي كان قائماً بين مراكز القوى من أبناء الأسرة وغيرهم، سواءً كان على الإمامة أو على تولي بعض المناطق الهامة، ،إلا أن يحيى بن الحسين كان بعيداً عن هذا التنافس، ولم يدخل في شيء من ذلك، واهتم بالعلم مكتفياً بالوظيفة التي أوكلها إليه عمه الإمام المتوكل إسماعيل، وهي جباية جزية اليهود في صنعاء، حيث لزم هذه الوظيفة حتى وفاته.
وكان عمه الإمام المتوكل قد عرض عليه أن يتولى المناطق التي كانت في ولاية أخيه محمد بن الحسين بعد وفاته، غير أنه قد أشار إلى ذلك بقوله: "فاعتذرت إليه من ذلك، ولم أدخل في شيء مما هنالك". ولعل الإمام محمد بن أحمد بن الحسن (صاحب المواهب) قد طلب منه مبايعته عند إعلان إمامته، وربما عرض عليه منصباً يتولاه، فاعتذر عن ذلك، يتضح ذلك من خلال الرسالة التي أجاب بها يحيى بن الحسين على صاحب المواهب، مما قال له فيها: "وعرف منا ذلك المتوكل فيما مضى، فعذر وارتضى، وكذلك والدكم، وكذلك محمد بن المتوكل. كلهم سايرونا على ما نحبه من عدم تعلق أمر ولا تكليف ولا محاضر ولا مجامع، وإعذاراً مما لا يخفاكم".
وكان يرى أن على الإنسان أن يتفرغ للعلم والعبادة؛ لأن الملك والحكم زائلان، لذلك كله فقد ساعده هذا التفرغ على التحصيل في علوم كثيرة، ألَّف فيها الكثير من الكتب.