ولما سمعت بقية مراكز القوى ما وصل إليه يوسف، ودخول قواته إلى تعز بايعوه وسلموا له الأمر، وهم القاسم بن المتوكل صاحب ثلا، وزيد بن المتوكل. وفي نصف ربيع الآخر سنة (1098ه/ 28/يناير1687م) بايع الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم صاحب عمران يوسف. وفي 16 ربيع الآخر بايعه أخوه الحسن بن المتوكل. كما بايعه صاحب كوكبان وخطب له. وبايعه المحسن بن أحمد بن الحسن الذي كان متولياً للغراس. واستولى زيد بن المتوكل على المخا وخطب فيه لأخيه يوسف.
وبذلك تبلور الصراع في بضعة أسابيع في معسكرين تجمع الأول في ضوران آنس، كان به كل المعارضين والدعاة من أمراء آل القاسم، الذين انطووا تحت قيادة يوسف بن المتوكل في مواجهة معسكر الناصر محمد بن المهدي المتحصن في منصورته، في حين بقي ممن اعترف بالناصر-وهم قلة-في ولاياتهم يرقبون سير الأمور وتطورها بحذر وترقب.
وقرر أعداء الناصر التوجه إليه لإرغامه على التنازل بقوة السلاح، فتجمعوا، وكانوا جموعاً كثيرةً يقودهم أبناء المتوكل إسماعيل وإسحاق بن المهدي وعبد الله بن الناصر، وغيرهم من أمراء بيت القاسم، وحاصروا الناصر حتى لم يبق له من البلاد التي حوله مؤن أو طعام يُرسل إليه، بل أصبح ينفق على من بقي لديه مما كان مخزوناً. والمهم في الأمر: "أن أكثر اليمن قد صار مجيباً ليوسف والتهائم والجيل".
وفي خلال الحصار لصاحب المنصورة كتب إليه القاسم بن المؤيد-وكان موالياً له-يطلب منه أنه يجب النظر فيما يسكن ثائرة الفتنة، فأجاب عليه أنه يريد الاجتماع إلى مكان متوسط للنظر فيما فيه صلاح الإسلام، فلما عرض القاسم جوابه على أبناء المتوكل، أجابوا بأن طلب الاجتماع كنا قد حاولنا فيه وأردناه، فلم يحصل من صاحب المنصورة إليه التفات، وأعرض عنه، وطلب غزو المشرق والتجهيز عليهم من غير نظر إلى اجتماع ولا استشارة. وأما الآن فلم يبق للاجتماع فائدة بعد إجابة أكثر اليمن ليوسف.
ولم يقف الناصر مكتوف الأيدي إزاء الحصار المطبق عليه، بل حاول أن يستميل إلى جانبه بعض قبائل الحجرية، ودفع لهم الأموال الجزيلة ليكونوا عوناً له ضد المعسكر المحاصر للمنصورة، منهم الزَّريقة الذين وعدوه بالقيام معه وإعانته، وأصبح للمنصورة يومئذ منفذ من طريق المقاطرة والزريقة، فكان يجلب إليها ما يحتاجه، وبذلك بدأت معنويات الناصر تقوى، وعلى حد تعبير ابن عامر، حيث يقول: "فكان الإمام الناصر كل يوم إلى زيادة، وهم إلى نقصان لتأثيرهم الاجتماع على الراحة والاشتغال بما لا يجدي، والركون على القوة من حالهم، والإمام الناصر يتطلب الحيلة والخلاص من الخطاط عليه، ويرغب من يرغب، ويجرب من يجرب" . وفي خلال الحصار طلب من المحاصرين له أن يمدوه بالجمال ليخرج مستسلماً، فيسروا له ما طلبه، معتقدين أنه لن يستطيع عمل شيء؛ لأنهم-كما أشار أبو طالب-"كان الكبر قد استولى على كبرائهم والتغفل حف بهم من قدامهم وورائهم. وقد كانوا في الجيوش المتوافرة". بينما الناصر كان يحاول تدبير الحيل وجمع لديه ما يستطيع من قبائل الحجرية، وبذل لهم الأموال الجزيلة، منهم ابن مغلس الذي أمده بالكثير من قبائل الحجرية ليكونوا عوناً له، كما ساعده القدر، حيث هطلت أمطار غزيرة استغلها الناصر بسبب ارتباك المحاصرين له واضطرابهم، ففاجأهم بالهجوم عليهم، ونشبت حرب بين الطرفين في 19 جمادى الآخرة سنة (1098ه/1مايو1687م) تمكن فيها الناصر من هزيمتهم رغم كثرتهم، وتمكن من أسر ابنه عبد الله وأخيه إسحاق، ونهبوا محطتهم. فلما شعر بذلك أهل المحطة الأخرى وهم الحسين بن علي بن المتوكل وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن لم يكن همهم إلا الارتحال، وحمل ما خف من الأثقال، عند ذلك خفقت القلوب من هيبة الناصر، وخرج بعض الأسرى هاربين ليلاً.
واضطر الحسين بن علي بن المتوكل وعبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن أن يعلنوا طاعتهم للناصر، وطلب الشيخ الأحمدي لهما الأمان ودخلا المنصورة، وأرسل الناصر إلى القاسم بن المؤيد وأخيه أحمد يطلب منهما الإخبار بالحادث، وعمل ما يلزم؛ لأنهما كانا مواليين له، فكتب أحمد بن المؤيد إلى الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم صاحب عمران بأن يدخل في طاعة الناصر، وإلا فهو متقدم إليه، ومن هنا اضطرت بقية مراكز القوى من آل القاسم ومن غيرهم إلى الدخول تحت طاعة الناصر للمرة الثانية. وبقي يوسف بن المتوكل في حيرة، وبدأ بإرسال الرسائل إلى إخوته وأبناء عمومته ليقفوا إلى جانبه ضد الناصر، غير أن الخوف كان قد داخل كثيراً من مراكز القوى، فأعلنت ولاءها للناصر، ولم يتبق من المناطق التي كانت خارجة عن طاعته سوى ضوران وصنعاء وذمار، وعاد جميع اليمن الأسفل مجيباً له خوفاً ورهبة.
وهناك أسباب أخرى أدت إلى تفوق الناصر وإعادة معظم المناطق تحت طاعته فعلى الرغم من أن يوسف وأخاه الحسين قد بذلا جهداً كبيراً في تجهيز الجيش لإخضاع الناصر، إلا أن هذا الجيش عندما وصل إلى بعض الطريق ترك بعضهم بعضاً وعادوا إلى بلادهم، ولم يستفد منهم يوسف، بل بذل الكثير من الأموال دون جدوى، على الرغم من قلة ذات اليد لديه، وعلى العكس كان الناصر قد بذل الكثير مما تبقى لديه في خزائنه لقبائل الحجرية ومشائخها، وأباح لهم انتهاب المحطة التي كانت محاصرة للمنصورة.
كما أن معظم المناطق أصبحت تابعة لمراكز قوى جديدة غير أبناء المتوكل، وبسبب ذلك لم يرفعوا رأساً في إعانة يوسف بن المتوكل بجند على الرغم من كثرة مطالبته لهم، وإنما صاروا يواعدونه مواعيد عرقوب. وفي الوقت ذاته كانوا يكاتبون إلى الناصر بأنهم معه ولن يأتي منهم إلى جنابه ما يخشى، وكانوا يجمعون ما يستطيعون من أموال من ولاياتهم لأنفسهم، بينما يوسف وأخوه الحسين كانا لم يبق معهما ما يقومان به من أجل مواجهة الناصر، ونفدت خزائنهما، وقد أشار المؤرخ يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "إن يوسف بن المتوكل قد بلغ في الركة والضعف الحد الذي لا مزيد عليه، وتقالل الناس حوله، ولم يبق له متابع، ولم يبق في يده شيء من المال ولا الرجال" .
ولما رأت معظم القبائل في الشمال ضعف يوسف بن المتوكل وأخيه الحسين أعلنت ولاءها للناصر، منها: بنو الحارث وهمدان الذين أشعلوا النيران في مناطقهم في آخر رجب (1098ه/ بداية يونيو1687م).
وبعد أن تمكن الناصر من إعادة مناطق اليمن الأسفل إلى سيطرته، لم يكن أمامه إلا أن قرر في 18 شوال (1098ه/ 26 أغسطس1687م) التوجه إلى المناطق الشمالية، فتوجه إلى جبلة، حيث جرت حرب قبل دخوله، هُزم فيها أتباع يوسف، ولم يتمكنوا من مقاومته؛ لأنه جاء عليهم بجنود لا طاقة لهم بمواجهتها، كان أغلبهم من الحجرية.
ولا شك أن ذلك سيزيد من خوف يوسف وأخيه الحسين بسبب قلة ما لديهم من المال والرجال.
وبعد أن دخل الناصر جبلة بدأ في بث الرسائل إلى أبناء الإمام المتوكل بأنه لا سبيل إلى الاجتماع والاختيار بعد ما قد جرى من النزاع والحروب، وأنه ليس لديه إلا السيف لمن لم يسلم الأمر، وكان يوسف في المقابل قد جهز زيد بن محمد بن الحسن على رأس عدد من الجند دعماً لمن في جبلة، فلما وصل إلى ذمار بلغه دخول الناصر إليها وهروب عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن وفرحان عنها، فاستقر زيد بمن معه في ذمار، وكتبوا للناصر أنهم مسلمون له الأمر، وكتب أخوه إبراهيم-صاحب ذمار-إليه معلناً طاعته له.
ثم انتقل الناصر بما معه من الأثقال والأهل إلى ذمار، وعسكر خارج المدينة في مخيم كبير، حتى تم له بناء حصن (هران) القريب منها، والذي اتخذ منه مقراً مؤقتاً ليستقر بعد ذلك في مدينة الخضراء، ووصل إليه بعض آل القاسم مبايعين وطائعين.
وكان من أهم أسباب انتقال الناصر إلى ذمار أنه أدرك أن المنصورة-على الرغم من حصانتها-لم تعد المقر المناسب لقاعدة حكمه، فهي بعيدة عن المناطق الشمالية من البلاد حيث يكمن الخطر، ويتيح للأعداء التآمر بعيداً عن رقابته، كما أنها لا تسمح لعلوها في رأس جبال الحجرية للتوسع العمراني، واستقبال الأعداد المتزايدة من رجال الدولة والحاشية والجند، وغيرهم من أصحاب المصالح والحاجات.
ولما استقر في ذمار طلب إليه الفقيه زيد بن علي الجملولي، المنفذ لشؤون ولاية صنعاء، فلما وصل إليه أمر بضرب عنقه، متعللاً بأنه السبب في هذه الحروب والفتن التي جرت، وأن كافة الناس قد اشتكوا من ظلمه.
والمهم في هذه الحادثة أنه كان لإعدامه أثر كبير على كثير من مراكز القوى التي كانت معارضة للناصر، فاشتد خوفها منه، وهرب بعضها إلى صعدة. وقد عبر أبو طالب عن ذلك بقوله: "وبعد قتل الجملولي خفقت القلوب لهيبته وضاقت بآل الإمام المسالك، فكانت صعدة المأوى لهم وإليها تتابع الهُرَّاب من آل الإمام" .
أما يوسف بن المتوكل فقد استدعاه الناصر للقدوم إليه من ضوران، فتوجه إليه وهو في ذمار على رأس قوة كبيرة، فأمر الناصر أن يجتمع به في عدد قليل من أتباعه، وقد هيأ لوصوله مجلساً "أرعد فيه وأبرق، وأمره بالارتحال بأهله إلى صنعاء" . ومن البديهي أن يوافق يوسف على ذلك فبايع الناصر مضطراً؛ لأنه أصبح في موقف ضعيف.
وبعد أن خضع للناصر جميع آل القاسم وبايعوه مكرهين، واتسع ملكه، رأى أنه لا بد من إخضاع ابن العفيف في يافع، وصرف همته إلى الجهات اليافعية، فأرسل السيد صلاح بن محمد في مجموعة من الجند إلى بلاد لحج، ثم تبعها بحملة أخرى إلى طريق رداع وقعطبة. وبدأ يعد العدة لإخضاع يافع، فخرج بنفسه في ذي الحجة سنة (1098ه/1687م) إلى الديلمي، شرقي ذمار، لاستدعاء عمه الحسين بن الحسن صاحب رداع للالتقاء به والتفاوض من أجل يافع، وكان أهم ما طرحه الحسين بن الحسن هو أن المشرق يحتاج إلى الإعداد الكافي جنوداً وأموالاً، ولم يكن لديهم آنذاك ما يكفي للتوجه إلى المشرق، فلم يكن أمام الناصر إلا أن طلب الرؤساء والجند للتجمع لدخول يافع وتأديبهم، وعلى الرغم من عدم رغبة معظمهم في التقدم إلى يافع، إلا أنهم لم يتمكنوا من رفض أوامره خوفاً من بطشه، وأرسل الولاة ما فرض عليهم من الجنود والأموال، منهم: الحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم صاحب عمران والحسن بن المتوكل، والقاسم بن المؤيد، وقاسم بن المتوكل والحسين بن عبد القادر صاحب كوكبان وغيرهم من المراكز الأخرى.
وكان تقدم أول الجند إلى منطقة تسمى (المعسال)، فلما علمت يافع أرسلت كتبها بالطاعة للناصر، فلم يجب عليها، وقال: "لا بد من دخول البلاد، وأخذ ما قد أخذوه على الناس وما جرى منهم سابقاً من العناد".
ولن ندخل في تفاصيل تلك الحروب التي جرت بين الطرفين إلا أن تلك الحروب استمرت بين الناصر وبين قبائل المشرق-التي أهمها يافع-سجالاً، فتارة له وتارة عليه في أغلب الأحوال، ولم يتمكن من استعادة يافع، كما أنه لم يتمكن من استعادتها من جاء بعده من الأئمة وبسبب يافع نشب الخلاف بين الناصر وعمه الحسين بن الحسن، حيث كان الناصر قد وجه اهتماماً كبيراً لحرب يافع-كما ذكرنا-وبالغ في جمع الجند وأرسلهم إلى عمه الحسين، وعينه أميراً عليهم، فاجتمع الجنود في رداع، وكان عددهم كبيراً، وأصبح الحسين فيهم المطاع، فرأى أن هذا العدد الكبير الذي لديه-وجميعهم تحت أمره-يؤهله لإعلان إمامته، وخلع ابن أخيه، فبعث الرسائل إلى المناطق داعياً إلى نفسه بالإمامة، ولما علم الناصر جهز أخاه المحسن لمواجهته، فجرت بينهم حروب كثيرة، تمكن الناصر في نهاية الأمر-بحيلة منه-من القبض على عمه، وأرسله إلى كوكبان، فسجن هنالك في بداية عام(1100ه/1688م) .
وفي العام التالي خرج على الناصر يوسف بن المتوكل بعد أن وعدته قبائل خولان بمناصرته، إلا أنهم لم يبقوا معه، وتمكن عامل صنعاء من القبض عليه وأرسله ومن معه إلى الناصر، ففرقهم في السجون، وأمضى يوسف في السجن سبعة عشر عاماً، حتى أطلقه الناصر.
أما علي بن أحمد فقد انتهز فرصة انشغال الناصر بيافع، فتقدم بقبائل صعدة للإستيلاء على صنعاء في عام (1103ه/1692م) بعد أن جدد دعوته وتلقب بالداعي، وخُطب له في جهةصعدة، وضربت السكة باسمه لكنه فشل أمام صمود قوات الناصر وعاد راجعاً إلى صعدة، وعلى الرغم من انشغال الناصر فقد جهز جيشاً بقيادة بعض أبنائه، تمكن الجيش من دخول صعدة، بعد أن فر أميرها، وقتل كثير من الطرفين. وقد تقلبت الأيام بعلي بن أحمد وجرت حوادث قتل فيها إسماعيل بن الناصر، لكن تمت هيمنة الناصر على المنطقة. وعلى غير عادته فقد سمح برجوع علي بن أحمد إلى مركز ولايته حتى مات بها سنة (1121ه/1709م) .
وبسبب سطوة الناصر وبشطه بمن خالفه اضطر بعض آل القاسم وغيرهم من الأمراء إلى مغادرة اليمن إلى مكة، اتقاءً لشره. منهم: الحسين بن المتوكل والي صنعاء، الذي لم يعد إليها منذ مقتل صهره زيد الجملولي، كذلك أخوه الحسن بن المتوكل الذي كان قد بايع الناصر مضطراً مثل معظم الولاة من آل القاسم وغيرهم، غير أن الناصر كان يطالب بإرسال الأموال للمساعدة في حرب يافع، فسلم ما أمكن واستطاع، ولكن "ما زالت الرسائل تختلف، والطلب يزيد بما لا يمكن تحصيله، لذلك رأى أن يرحل إلى مكة، ويخلي البلاد للناصر"، كما هرب إلى مكة عبد الله بن يحيى بن محمد بن الحسن، ومن كوكبان أميرها الحسين بن عبد القادر، هؤلاء هربوا جميعاً خشية من الناصر. واضطروا بعد ذلك إلى العودة إلى اليمن، وكان لبعضهم جولات معه.
ولم يكن الناصر يتوانى عن مصادرة أموال بعض الولاة والعمال، إن احتاج إلى ذلك، ولعل أبرز مثال على ذلك مصادرة أموال والي عدن حسن بن زيد بن علي بن جحاف، حيث طلبه الناصر إلى المنصورة وصادر جميع أمواله، وخرج منها لا يملك شيئاً مما جمعه حتى مماليكه، كما صادر جميع أموال السيد حسن بن مطهر الجرموزي، والي المخا، أثناء هروبه من المخا يريد التوجه إلى مكة بحراً خوفاً من بطش الناصر، غير أنه أمر من يقبض عليه، وصادر جميع أمواله.
وخوفاً من بطش الناصر فإن كثيراً من الشخصيات الهامة في الدولة من خارج أسرة بيت القاسم قد هربت عندما علمت بتوجه الناصر إلى اليمن الأعلى، وعلى الرغم من أنه كان قد أرسل في طلب كثير من هذه الشخصيات، لكنها كانت تعلم أنه ليس بعد الطلب إلا السجن، إن لم يكن الإعدام، منهم على سبيل المثال: القاضي يحيى السحولي، الناظر على الوقف لما بلغه شدة غضب الناصر عليه بسبب الخطبة التي ألقاها يدعو إلى خلعه ومبايعة يوسف بن المتوكل، فهرب إلى عمران، كذلك القاضي جباري، الذي كان محرضاً ليوسف لإبراز دعوته ومحاربة الناصر، فهرب من ضوران إلى قبة المهدي أحمد بن الحسن بالغراس، يريد أن يستجير به.
وكان الناصر يعين من يشاء ويعزل من يشاء من الولايات دون مراعاة للولاة السابقين، ولكن حسب ما تقتضيه مصلحته هو، ولم يكن الولاة السابقون يجرؤون على الرفض أو المعارضة، فنجده في بداية عام (1099ه/ بداية نوفمبر 1687م) يعزل قاسم بن المتوكل عن بلاد السودة وعفار ويعطيها لقاسم بن المؤيد، كما عزل الأول أيضاً عن بلاد ثلا وأعاد إليها واليها السابق الفقيه حسين بن يحيى الثلائي، وبلاد كحلان كانت تابعة لحسين بن محمد بن أحمد بن القاسم فعزله عنها وعين عليها بعض أولاد الهادي بن الحسن بن شرف الدين. كما عزل أخاه المحسن بن المهدي عن ولايته.
ومهما يكن الأمر فقد مرت مراكز القوى بتطورات سياسية ملحوظة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من خضوع ففي بداية عهد الإمام المتوكل كان بداية نموها وبروزها. كان أبرزها أحمد بن الحسن ومحمد بن الحسن.
وفي عهد الإمام المهدي أحمد بن الحسن ظهرت على السطح مراكز قوى جديدة كان قد بدأ نموها منذ نهاية عهد الإمام المتوكل، واستمرت في تقوية نفسها، وزاد نموها في فترة الإمام المهدي القصيرة، التي لم تتجاوز الخمس السنوات، وكانت في الوقت ذاته تخشى منه وتهابه.
وفي عهد الإمام المؤيد حصلت على الكثير من المناطق والنفوذ الواسع، بحيث أصبح بعضها أكثر قوة ونفوذاً من الإمام نفسه، فلما جاء محمد بن أحمد بن الحسن عمل جاهداً وبكل ما يستطيع على إخضاعها والحد من نفوذها، حتى اضطر بعضها إلى الفرار سواءً إلى مكة أو إلى المناطق البعيدة في اليمن، كما سبق أن رأينا، وقد أشار يحيى بن الحسين إلى ذلك بقوله: "وتمزق أولاد المتوكل ومن كان معهم في الجهات، كل على وجهه متفرقين، ليس همهم إلا النجاة" .
ولعل وصف الإمام الشوكاني لشخصية الناصر يوضح لنا كيف كانت شخصيته تلك وأثرها على التطورات السياسية في اليمن، فيقول: "والحاصل أنه ملك من أكابر الملوك، كان يأخذ المال من الرعايا بلا تقدير، وكانت اليمن من بعد خروج الأتراك منها إلى أن ملكها صاحب الترجمة مصونة عن الجور والجبايات، وأخذ ما لا يسوغه الشرع، فلما قام هذا أخذ المال من حله وغير حله، فعظمت دولته، وجلت هيبته، وتمكنت سطوته، وتكاثرت أجناده، وصار بالملوك أشبه منه بالخلفاء .... وكان سفاكاً للدماء بمجرد الظنون والشكوك" .
وكان متردداً لم يتخذ قراراً إلا ونقضه بعد مدة بقرار آخر، ولعل الألقاب الثلاثة التي تلقب بها خير دليل على ذلك، حيث بدأ دعوته للإمامة بلقب الناصر، واستمر عليه حتى سنة (1107ه/1696م) ثم تلقب بالهادي، ولم يلبث أن غير لقبه في سنة (1109ه/1697م) وتلقب بالمهدي، كما أنه لم يتخذ مدينة واحدة عاصمة لدولته فنجده في (1103ه/1692م) يقرر تأسيس عاصمته الأولى في الخضراء، تقع شمالي مدينة رداع، لكنه لم يلبث أن بدأ في تأسيس عاصمة جديدة لدولته وهي "المواهب" تقع شرقي مدينة ذمار ودخلها في رجب سنة (1111ه/يناير1700م)، تاركاً الخضراء بعد أن أصبحت عاصمة متكاملة، وكان قد تم بناء منازل وقلاع وأسواق وحمامات ومساجد، وتم إيجاد حرف كثيرة كان يزاولها عرب وهنود وأتراك، وبعد أن تركها تحولت إلى أطلال وهدمت.