التمهيد:
[وصول الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم إلى الإمامة]
لعلنا نستطيع القول بأن اليمن في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل التاريخ، حيث ورث دولة مستقلة بعد أخيه الإمام المؤيد محمد بن القاسم، بلغت قمة قوتها وازدهارها في عهده.
ومما لا شك فيه أن قوة الدولة في عهد الإمام المتوكل، وعدم وجود قوة منافسة قد هيأ الفرصة لإيجاد نوع من الهدوء والاستقرار السياسي، الذي كان عاملاً مساعداً على الازدهار الإقتصادي من جانب، والازدهار الفكري من جانب آخر. كما كان عاملاً مساعداً-كما يرى بعض المؤرخين-على ازدهار الحياة العلمية في اليمن في تلك الفترة.
وقبل أن نتناول سياسة الإمام المتوكل على الله إسماعيل والدولة القاسمية في عهده، ودور أبناء الأسرة وغيرهم من مركز القوى في دعم هذه الدولة، لا بد من الإجابة على بعض التساؤلات لعل أهمها:
أولاً: ما هو الدور السياسي الذي لعبه إسماعيل بن القاسم في عهد أخيه الإمام المؤيد؟
ثانياً: هل كان من مراكز القوى الهامة والمؤثرة في دولة أخيه الإمام المؤيد؟
ثالثاً: كيف وصل إلى الإمامة؟ وما هي العوامل التي ساعدته على الوصول إليها؟
وسنحاول أن نجيب على هذه التساؤلات بقدر المستطاع فيما سيأتي:
ولد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم في منتصف شهر شعبان سنة (1019ه‍/610م)، أي أنه شهد جزءاً من حروب والده الإمام القاسم مع العثمانيين، على الرغم من صغر سنه، حيث نشأ بشهارة في كنف والده وتحت رعايته في العشر السنوات الأولى من عمره.
وبعد وفاة والده استمر بقاؤه في شهارة، ونشأ بها، وتلقى العلم على أيدي أبرز علماء عصره من فقه وبلاغة وسائر العلوم الدينية واللغوية، وفاق علماء عصره، خاصة في علم الفقه

وله مؤلفات عدة، منها: (العقيدة الصحيحة والدين النصيحة) و(البيان الصريح والبرهان الصحيح في مسألة التحسين والتقبيح) و(تفتيح أبصار القضاة إلى المسائل المرتضاة).. وغيرها.
وعلى الرغم من أن عمره عند خروج العثمانيين من اليمن كان حوالي ستاً وعشرين عاماً، إلاَّ أن المصادر التي بين أيدينا لا تشير إلى أن إسماعيل بن القاسم قد شارك في حروب آل القاسم ضد العثمانيين، بينما نجد إخوته الآخرون شاركوا في ذلك، رغم أن بعضهم كان أصغر منه سناً، منهم على سبيل المثال يحيى بن القاسم، الذي توفي وهو لم يتجاوز العشرين عاماً في (1044ه‍/1634م)، حيث أصابه مرض الحمى في زبيد، خلال اشتراكه في الحرب ضد العثمانيين، وحصار تلك المدينة. ولا تفصح المصادر التي بين أيدينا عن أسباب عدم المشاركة في تلك الحروب. ولعله في هذه الفترة كان متفرغاً للعلم والقراءة في شهارة، التي كانت مقر والده الإمام القاسم.
وقد استقر إسماعيل بن القاسم في شهارة حتى (1047ه‍/ 1637م)، أي بعد الاستقلال بحوالي ثلاث سنوات. وفي هذه السنة اتجه إلى أخيه الحسن بن القاسم وهو بصنعاء يشكو عدم الكفاية له ولمن معه من أصحابه من قبل أخيه الإمام المؤيد، فأعطاه الحسن عطاءً لم يخطر بباله، وزوجه بابنة زوجته في داره، واستمر بقاؤه في صنعاء حتى توفي الحسن بن القاسم، ثم عاد إلى شهارة. وفي سنة (1049ه‍/ 1639م)، اتجه إلى مدينة ضوران مركز ولاية أخيه الحسين بن القاسم، بناءً على طلب الأخير، لغرض إنابته في أعمال الولاية، نظراً لانشغاله بمناطق اليمن الأسفل.
وعلى الرغم من أن محمد بن الحسين كان ينوب عن والده الحسين في مدينة ضوران أثناء تنقله في المناطق، إلا أنه عندما انتقل إسماعيل إلى ضوران لحق محمد بن الحسين بوالده في مناطق اليمن الأسفل. وترك الأمر في ضوران لإسماعيل.

أما الإمام المؤيد فلم يكن قد منح أخاه إسماعيل منطقة يتولاها، لكنه كلَّفه بقبض الأموال في ذمار، وعين معه أميناً للمخازن، وكلفه أيضاً بالإشراف على بعض أمور أهل وصاب وذمار.
وبقي إسماعيل في ضوران منذ أن كلفه أخوه الحسين بأن ينوب عنه بها، وإليه بلاد آنس وسائر تلك البلاد حتى سنة (1051ه‍/1641م)، وهي السنة التي توفي فيها الحسين بن القاسم، حيث كلفه الإمام المؤيد مع أخيه عبد الله بن القاسم بمحاربة أحمد بن الحسن والقبض عليه. نظراً لتمرده على عمه الإمام المؤيد، كما سنرى في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
ولعلَّ إسماعيل كان يريد أن يثبت للإمام المؤيد قدرته على تنفيذ تلك المهمة بحنكة وسياسة متفوقة، فجدَّ في حرب أحمد بن الحسن أكثر من الآخرين، واتجه بمن معه من رتبة ضوران، وعسكر بلاد آنس. وتمكن ومن معه من هزيمة أحمد بن الحسن في (نقيل الشيم) غير أن الأخير تمكن من الخلاص بنفسه حتى وصل إلى القرب من قطعبة.
وعلى ما يبدو أن الإمام المؤيد كان يريد مكافأة أخيه إسماعيل على تلك المهمة التي تكللت بالنجاح نوعاً ما، حيث أن أحمد بن الحسن قد خرج إلى عدن، ثم إلى يافع بعد أن نُهبت منه الأموال والخزينة التي كانت سبب الخلاف مع الإمام المؤيد، فأرسله الإمام متولياً لمدينة تعز في الجنوب، بدلاً من بقائه في ضوران، وهذا الاحتمال الأول.
أما الاحتمال الثاني: فهو أنه يريد أن يتخلص منه في ضوران ليعين عليها متولياً آخراً من قبله بعد وفاة أخيه الحسين.
ومهما يكن الأمر فقد اتجه إسماعيل إلى تعز راضياً أو مكرهاً، ومكث بها عامين، وقد استغل فترة بقائه في تعز، فاهتم بالعلم والقراءة، فقرأ (تيسير الديبع) في الحديث على يد الشيخ العارف محمد بن عبد العزيز الحبيشي المفتي الشافعي، كما قرأ (سنن البيهقي الكبرى)، وأجازه الحبيشي في الحديث.

ولعلَّ إسماعيل أثناء توليه لتعز استمر في المكاتبة لأخيه الإمام المؤيد يطلب منه الموافقة على أن يوليه ضوران وما إليها. يؤيد هذا الرأي ما ذكره المؤرخ يحيى بن الحسين، حيث أشار إلى أن الإمام المؤيد قد أذن لإسماعيل بالطلوع إلى ضوران. ويتضح من كلمة (أذن) بأنه سبقها طلب وإلحاح من إسماعيل إلى أخيه الإمام. وقد تولى ضوران وريمة وعتمة سنة،(1053ه‍/ 1643م)، بعد موافقة الإمام المؤيد على أن يتولاها، بعد عامين قضاهما في تعز.
وفي ضوران ساعدته ظروف هذه المدينة على البروز والظهور، فقد ورث ما تركه إخوته الحسن ثم الحسين من مباني وقصور، وأصبحت له مكانة هامة في تلك الفترة القصيرة، فنجد يحيى بن الحسين يعلق على ذلك-ربما مستاءً- لأنه ورث ما تركه والده-بقوله: "والسكون في ذلك الإيوان، والدُور التي قد بناها له الماضون من الإخوان. حالة مفرغة، ومائدة موضوعة، بغير تعب ولا نصب، ولا جهد فيها ولا وصب. فطلع المذكور إلى ذلك المقر، ونهى فيه وأمر".
وقد أصبحت ضوران مركزاً مرموقاً، التف فيه الأمراء من بيت القاسم، وعدد من العلماء والقادة والوجهاء.
ويبدو أن إسماعيل قد أدار ولاية ضوران بمقدرة وحنكة سياسية، مستفيداً من توليه لها، وإدارة شؤونها في فترة أخيه الحسين، فهي لم تكن ولاية جديدة بالنسبة له. وكان في تلك الفترة أيضاً قد تعرف على علمائها وفضلائها والبارزين فيها، الذين كان لهم دور في مبايعته عقب وفاة الإمام المؤيد، كما سنرى.
ولعلَّ هذا يؤيد بأن إسماعيل هو الذي ألح في الطلب من أخيه المؤيد على أن يتولى ضوران. وما يجعلنا نرجح ذلك أيضاً هو أنه ما أن استقر إسماعيل في ضوران منفرداً في ولايتها حتى أرسل إليه أخوه الإمام المؤيد قراراً بالعزل عنها وعن ريمة وعتمة بعد حوالي عام من توليه لها.

وعلى الرغم من غضب إسماعيل من قرار العزل هذا، إلاَّ أنه كان أكثر تريثاً وتعقلاً من أحمد بن الحسن، فلم يخرج على الإمام؛ بل صرح بأنه لم يبق له متسع في البقاء في اليمن، وأنه يريد التوجه إلى مكة والسكون بها. غير أن الظروف قد ساعدته مرة أخرى، فبعد قرار العزل هذا، وربما بعد مدة قصيرة من إرساله إلى إسماعيل توفي الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم، يؤيد ذلك ما ذكره يحيى بن الحسين، حيث يقول: "فهو في هذا-أي في خلال استعداده للسفر إلى مكة-وجاء خبر وفاة المؤيد بالله".
ولعلَّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا قرر الإمام المؤيد عزل أخيه إسماعيل بعد عام من تعيينه والياً على ضوران؟
إذا سرنا بالأحداث قليلاً، وبالتحديد عند الخلاف الذي دار بين إسماعيل وأخيه أحمد على الإمامة، سنجد أن إسماعيل هو الذي تمكن من الوصول إلى هذا المنصب بسبب وعده لمن بايعه بالعطاء، وأنه سيمنحهم الولايات التي يريدونها، على العكس من أخيه أحمد الذي رفض أن يقر لأحد بعطاء. هذه النقطة تجعلنا نعتقد بأن إسماعيل ربما كان يصرف في ولايته هذه بنوع من البذخ والتبذير من وجهة نظر الإمام المؤيد، الذي كان حريصاً ودقيقاً على أن تصرف الأموال في مصارفها الصحيحة، وحسب الحاجة فقط. وإذا كان قد غض الطرف قليلاً عن الحسن بن القاسم وما أنفق من أموال في مناطق ولايته، فلأسباب كثيرة، لعل أهمها الدور القيادي البارز الذي لعبه في الاستقلال والبناء، فكان على يده فتح الكثير من المناطق، وسقوطها من أيدي العثمانيين الواحدة تلو الأخرى.

إذاً من أسباب عزل إسماعيل عن ولاية ضوران ربما كان مادياً، وربما كان يعد نفسه بأن تصبح له مكانة هامة، خاصة بعد وفاة إخوته الحسن والحسين، أو أنه يريد أن يصل إلى الإمامة بعد وفاة أخيه المؤيد. وهذا الذي لم يكن الأخير يريده أو يتمناه، فقد كان في سياسته وتصرفاته أقرب إلى أخيه أحمد بن القاسم منه إلى إسماعيل، أعني بذلك سياسة الحرص في صرف الأموال في أماكنها، وإعطاء الولايات لمن يستحقها، فالتقارب بين الإمام المؤيد وأخيه أحمد جعل إسماعيل غير مرغوب لدى المؤيد، لذلك ربما لهذا السبب كان يريد إبعاد إسماعيل عن ولاية ضوران؛ لأنها قد تساعده في الوصول إلى الإمامة أكثر من أي مدينة أخرى.
وبذلك نجد أن شخصية إسماعيل بن القاسم وطموحاته غير المحدودة وتطلعه باستمرار إلى الأفضل جعل الإمام المؤيد يأخذ حذره منه، ويعزله عن ضوران بعد تعيينه فيها بسنة واحدة. وقد نجد في المستقبل مخطوطات تكشف لنا أسباب هذا العزل السريع والمفاجئ لإسماعيل.
المهم في ذلك أن إسماعيل بن القاسم قد ساعدته الظروف بوفاة أخيه الإمام المؤيد، فقد عزُل؛ ولكن القرار لم يُنفذ، بل أنه رأى أنه الأحق بالإمامة بعد وفاة أخيه الإمام المؤيد. ولعله صدق حدس الإمام، الذي كان قد استشف من شخصية أخيه إسماعيل بأنها شخصية طموحة، وأنه يريد الوصول إلى الإمامة.
وهنا نصل إلى الإجابة على النقطة الثانية من التساؤلات السابقة، وهي:

كيف وصل إسماعيل إلى الإمامة؟ ومن هم الدعاة الذين دعوا لأنفسهم بعد وفاة الإمام المؤيد؟ وما هو موقف الإمام المتوكل إسماعيل منهم؟
لو عدنا-قليلاً-إلى الوراء سنجد أنه بعد وفاة الإمام القاسم بن محمد أجمع الحاضرون على أن يتولى الإمامة بعده ابنه محمد بن القاسم، واتفق الجميع على ذلك. غير أن الأمر اختلف بعد وفاة الإمام المؤيد، فظهر ثلاثة دعاة من آل القاسم، وهم:
1- إسماعيل بن القاسم كان متولياً لضوران وريمة وعتمة.
2- أحمد بن القاسم كان متولياً لصعدة.
3- محمد بن الحسن بن القاسم، كان متولياً لمناطق اليمن الأسفل.
لقد كان أحمد بن القاسم أول من أعلن إمامته، وكان والياً على صعدة والمناطق الشمالية. وقبل وفاة أخيه الإمام المؤيد توجه من صعدة إلى شهارة مقر إقامة الإمام المؤيد، ولعله أراد بذلك أن يكون قريباً من أهل الحل والعقد الذين في شهارة، وأن تكون بيعته مثل بيعة أخيه المؤيد، حيث بويع بالإمامة قبل إجراء مراسيم دفن الإمام القاسم. فيذكر المؤرخ يحيى بن الحسين توقيت أحمد بن القاسم لتوجهه إلى شهارة قبيل وفاة الإمام المؤيد، فيقول: "قيل أن وصوله كان بحساب وعِدَّة من ذمي كان عارفاً بالنجوم (بحَمِدَة) ولم يحصل له ما كان أمله من الخلافة". وهو ما حدث، فقد سارت الأمور في البداية كما أرادها أحمد بن القاسم، الذي كان حاضراً وفاة أخيه الإمام المؤيد، وعقب وفاته أجمع الحاضرون على مبايعته، وكانوا جمعاً كبيراً من العلماء والفضلاء والأعيان ورجال الدولة، منهم: الحسين بن الإمام المؤيد بالله، وإبراهيم بن أحمد بن عامر، وأحمد بن سعد الدين المسوري، والعالم محمد بن الحسن بن شرف الدين الحمزي، والعالم الحسن بن علي العبالي، والعلامة عز الدين بن دُريب، والقاضي العلامة علي بن سعيد الهبل الخولاني، وغيرهم من العلماء. وبايعوا أحمد بن القاسم خفية، ثم أظهروا أمرهم، وبايع الناس عموماً. وامتدت البيعة نحو ثمانية أيام.

يتضح مما سبق، أن الإجماع في شهارة كان على إمامة أحمد بن القاسم، إلاّ أن المؤرخ الجرموزي هنا يناقض نفسه، فبعد أن أورد هؤلاء المبايعين لأحمد بن القاسم في شهارة وإجماعهم على ذلك، وهم من العلماء والأعيان-كما رأينا-نجده بعد ذلك يقول: "وكنت حاضراً، ولا رأيت لمبايع أو متابع، أو حاضر أو غائب إلى هذه البيعة اعتقاداً، ولا إلى لزومها استناداً. وكان من أمرها، ما سيأتي إن شاء الله من ظهور حجة مولانا وإمامنا ... المتوكل على الله العزيز الرحيم إسماعيل بن أمير المؤمنين".
ولا عجب من موقف الجرموزي هذا، إذا ما علمنا بأنه كان من المقربين للإمام المتوكل إسماعيل، حيث أبقاه متولياً لبلاد عتمة الخصبة حتى وفاته بها.
ويذكر المؤرخ يحيى بن الحسين بأن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري، الذي كان من أبرز القضاة، ومن رجال دولة المؤيد قد بيَّن لهم بأن الأمر المهم النظر فيمن يصلح للقيام، والمبادرة به قبل تجهيز الإمام المؤيد للدفن. وأخبرهم أنه يرى العقد لأخيه أحمد بن القاسم، فهو أكبر أولاد الإمام القاسم يؤمئذٍ، فاستحسن أكثر الحاضرين ذلك، وبايعوا أحمد، ثم جهزوا الإمام المؤيد للدفن.
أما إسماعيل فكان عند وفاة أخيه الإمام المؤيد في ضوران، مقر ولايته. فلما بلغه ذلك الأمر رأى أنه الأولى بالإمامة من أخيه أحمد. ومن هنا بدأت المنافسة ثم الصراع على الإمامة بين الأخوين. وكانت حجة إسماعيل بأنه أكثر علماً من أخيه أحمد، فقد اهتم بتلقي العلم على يد أبرز المشائخ في شهارة وتفرغ له، ثم أكمل ما فاته من علم الحديث في تعز خلال إمارته لها، كما سبق أن ذكرنا، وكأنه كان يهيء نفسه في المدة السابقة لهذا اليوم؛ لأن من شروط الأمامة الأربعة عشرة في المذهب الزيدي، أن يكون الداعي لنفسه، عالماً، مجتهداً.

وقد أوضح ذلك من خلال رسائله التي بعث بها إلى مختلف الجهات، قائلاً: ((أنا الذي في العلم درسته، وفي التحقيق أدرته. وغيري غير صالح لها، بل قاصر عنها)). لذلك وبهذه الحجة اتجه إلى المسجد الجامع بالحصين، في مقر إقامته ضوران، وطلب البيعة من الحاضرين، فبايعه القاضي محمد السلامي والقاضي إبراهيم بن الحسن العيزري، وتبعهما بقية العلماء والقادة الحاضرون في ضوران. وبعد مبايعتهم له أرسل الرسائل إلى مختلف الجهات. وطلب من أخيه أحمد المناظرة، ليتم الحكم حول الأكثر علماً واجتهاداً، غير أن أحمد بن القاسم رفض ذلك محتجاً بكبر سنه وسبق دعوته. فقد كان الفارق بين الأخوين حوالي إثني عشر عاماً، وهذا لعله كان مبرراً لأحمد ليرفض مناظرة أخيه الأصغر منه بكثير، وأن هذا الفارق في العمر يؤهله هو للإمامة أكثر من أخيه إسماعيل. كما أنه قد تمت الخطبة له على المنابر جميعها، إلاّ ما كان في المدن الوسطى من اليمن، التي هي مناطق ولاية محمد بن الحسن، وكذلك ضوران، مقر ولاية إسماعيل.
حقيقة أن إسماعيل بن القاسم، كان عالماً، مجتهداً، وله مؤلفات كثيرة، وقرأ على أبرز مشائخ عصره، إلاّ أن أحمد بن القاسم كان أيضاً قد تلقى العلم على أبرز علماء عصره، كما تلقى العلم أيضاً على يد أخيه الإمام المؤيد، ووضع له ثلاث إجازات. فكان أحمد بن القاسم كما وصفه بعض المؤرخين عالماً نبراساً، رئيساً، جليلاً، مهيباً. من أعمدة المسلمين، ومن أهل الحميَّة على الإسلام. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
والبعض الآخر من المؤرخين يرى بأن صفاتاً كانت لدى إسماعيل تؤهله للإمامة، مثل: الحلم، وكظم الغيظ، وسعة الصدر، والكرم، وغير ذلك. وعلى حد تعبير (الحبسي)، بأن هذه من "الخصال الموجبة له استحقاق الإمامة الكبرى، المبطلة لإمامة من عارضه ممن دعا".

وقد اختلفت آراء الناس حينئذ، فمنهم من قال: الأولى بها إسماعيل، لأجل رسوخ قدمه في العلم، لا سيما الفقه. ومنهم من قال: أحمد؛ لأنه أنهض وأصلح، ولأجل تقدم دعوته. واضطربت الأمور.
إذاً كل من الأخوين كان يرى أن لديه ما يؤهله للوصول إلى الإمامة، إلاّ أن القوة هي التي حسمت الخلاف بينهما، وكانت القوة آخر الحلول التي لجأ إليها إسماعيل، والتي اتبعها من جاء بعده من الأئمة. وإذا كان إسماعيل بن القاسم لديه ما يؤهله للوصول إلى الإمامة، إذ لم تكن القوة فحسب، فإن من جاء بعده من الأئمة لم تكن لديهم إلاّ القوة، كما سنرى في الفصول اللاحقة.
بدأ الإمام المتوكل إسماعيل بالمكاتبة إلى أخيه أحمد يعاتبه على الاستعجال بالدعوة. وكان محمد بن الحسن قد دعا لنفسه بالإمامة باليمن الأسفل- كما ذكرنا- غير أن دعوته تلك كانت مشروطة، أي إذا لم يتقدم إليها من هو أولى منه. وكتب الإمام إسماعيل إلى ابن أخيه محمد بن الحسن يطلب منه الإجابة لدعوته، والتنازل له عن الإمامة، فلم يكن أمامه إلا الموافقة على ذلك. واتفقا على الاجتماع معاً في قفر حاشد، مما يلي عتمة. وجرت المناظرة بينهما، سلَّم بعدها محمد بن الحسن لعمه إسماعيل، وبايعه في مشهد عام، ثم أحمد بن الحسن، ثم من حضر من العلماء والرؤساء والجند والقبائل، ثم عاد الجميع إلى ذمار.
ولما استقر الإمام في ذمار ناظر فقهاءها، وطلب منهم البيعة، وكان قد سبق منهم بيعة لأحمد بن القاسم على يد أخيه عبد الله. ولكن إسماعيل تمكن بذكائه أن يجعلهم يعدلوا عن مبايعتهم لأحمد، وبايعوه هو. ربما لأنه ظهرت لهم حجته كما يرى بعض المؤرخين، وربما ما وعدهم به من البذل والإنصاف كما يرى البعض الآخر.
وبعد ذلك عاد الإمام إسماعيل إلى ضوران، ومحمد بن الحسن إلى اليمن الأسفل، وأحمد بن الحسن بقي في ذمار. ثم وصل محمد بن الحسين بن القاسم إلى الإمام إسماعيل في ضوران وبايعه، وأرسله الإمام إلى صنعاء.

2 / 94
ع
En
A+
A-