وقامت علاقات ودية أيضاً بين اليمن والدولة المغولية في الهند، حيث كان الإمام المتوكل على اتصال بالسلطان (أورنجزيب)، ففي عام (1071ه/1661م) أُهديت للإمام خيول من الهند. وفي السنة التي بعدها قام أحمد بن الحسن بإرسال هدية من الخيول العربية الأصلية إلى ملك الدولة المغولية، الذي بدوره أرسل هدية قيَّمة مضاعفة لها. ومرة أخرى في عام (1087ه/1676م) وصلت سفينة إلى بندر المخا حاملة هدية من السلطان (أورنجزيب) للإمام المتوكل، وصدقة لأشراف اليمن.
ولم يقتصر الأمر بينهما على الرسائل والهدايا، بل تعدى ذلك إلى تبادل الكتب المذهبية، حيث كان كل منهما يحاول إقناع الطرف الآخر بمذهبه.
كما قامت علاقات ودية بين الدولة القاسمية والدولة الصفوية في فارس. حيث تم تبادل الرسائل بين الإمام المتوكل والشاه عباس الصفوي (1052-1078ه/1642-1667م). وقد احتوت تلك الرسائل على عبارات تدل على الصداقة والصلات العميقة بينهما.
أما الحبشة فقد ارتبطت معها اليمن بعلاقات منذ القدم. وفي عهد الإمام المتوكل تجددت تلك العلاقات وتم تبادل الهدايا والرسائل بينهما. ولعل البعثة اليمنية التي أرسلها الإمام المتوكل إلى الحبشة برئاسة القاضي الحسن بن أحمد الحيمي، ومعها الرسائل والهدايا للإمبراطور الحبشي (فاسيلا داس) (1042-1078/1632-1667م) دليل على عمق العلاقات بين البلدين. ومهما كان الهدف من هذه البعثة فهي تنم عن الروابط والعلاقات القوية بينهما.
وبذلك يكون الإمام المتوكل قد اهتم بتطوير العلاقات الخارجية بين اليمن وهذه البلدان، بحيث أصبح لها ثقل وأثر كبير في الجزيرة العربية. ونشطت العلاقات التجارية والدبلوماسية وتبادل المراسلات وبعوث الصداقة الرسمية مع تلك البلدان السابقة ذكرها جميعاً.
رابعاً: سياسة الإمام الإدارية
قبل أن نتناول سياسة الإمام المتوكل إسماعيل الإدارية لا بد أن نتطرق بإيجاز إلى التقسيم الإداري خلال الحكم العثماني الأول لليمن؛ لأن هذا التقسيم-غالباً-هو الذي كان متبعاً في فترة دراستنا هذه.
لقد انقسمت الإيالات العثمانية من حيث الوضع القانوني إلى قسمين، فكان هناك إيالات تتبع نظام التيمارات، وأخرى بنظام الساليانات. وما يهمنا هو الأخير، باعتباره كان موجوداً في كافة البلاد العربية. فهناك تسع إيالات على هذا النحو هي: مصر، اليمن، الحبشة، بغداد، البصرة، الإحساء، طرابلس الغرب، تونس، الجزائر.
وهذا النظام تُجمع فيه إيرادات الإياله باسم الدولة، ثم يُصرف من هذا المجموع أجور الجند والإداريين، ويُرسل الباقي إلى خزينة الدولة.
وكانت الإيالة التي تشكل أكبر الوحدات الإدارية لدى العثمانيين تتشكل من مجموعة من السناجق، ومع ذلك فإن تقسيمات السناجق العثمانية لم تبق على حالها دائماً، إذ كان يجري تغييرها من حين لآخر بدرجة يصعب متابعتها.
وكان السنجق وحدة تقسيم أساسية، ذات صفة عسكرية وإدارية.
وكان العثمانيون خلال حكمهم الأول لليمن قد أعدوا نظاماً مالياً وإدارياً من خلال ما ظهر في الدفاتر التي كانت تُقيد بها واردات اليمن السنوية، وعلى وجه التحديد عامي (1599-1600م)؛ إلاَّ أن هذا التنظيم المالي والإداري لم يكن دقيقاً، فقد كان غير مستقر، ويتغير من سنة لأخرى. وغير مرتب ترتيباً مناطقياً دقيقاً، فقد اختلطت قيودات وإيرادات المناطق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. ولعلَّ السبب في ذلك هو الثورات والاضطرابات التي شهدتها اليمن في هذه الفترة، إذ لم تنعم بالهدوء والاستقرار سوى فترات قصيرة، لذلك كان الهدف من تقسيم إيالة اليمن الإدارية هدفاً عسكرياً، حيث قُسمت إلى ستة سناجق: صنعاء، صعدة، حضرموت، جيزان، زبيد، تعز. وقد ورد هذا التقسيم لدى عبد الكريم العزير، بينما يذكر ساطع الحصري والأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم بأنه تم تقسيم ولاية اليمن إلى تسعة ألوية هي: صنعاء، مخاء، زبيد، تعز، صهلة، كوكبان، طويلة، مأرب، عدن. ولعلَّ ذلك الاختلاف يرجع إلى اختلاف الفترات.
وقد ذكر الحصري بأنه اعتمد في هذا التقسيم على أشمل الوثائق التي اطلع عليها عن التقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية، وهي رسالة تركية عنوانها: (قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان). ومؤلفها هو: عين علي أفندي، الذي كان أميناً للدفتر الخاقاني، فكان لهذا السبب مطلعاً على جميع سجلات الدولة المتعلقة بالأمور الإدارية والمالية.
ومن المعروف أن الإيالات كانت تقسم إلى ألوية، والألوية تقسم إلى سناجق. ولكن هنا في اليمن وفي الحكم العثماني الأول إذا ما قورن بالحكم الثاني لم يتضح هل قُسمت الألوية إلى سناجق، أم أن السناجق هي التقسيم الذي اعتمد.
وقد رأى العثمانيون أنه من خلال هذا التقسيم سيتمكنوا من إحكام القبضة على اليمن، وبالتالي يتم جباية الإيرادات العامة من زكاة ورسوم متفرقة أخرى.
وكان كل سنجق يشتمل على مناطق وتقسيمات إدارية كان يطلق عليها اسم (ولاية). ويذكر الدكتور العزير في هامش كتابه (التشكيلات المركزية العثمانية) بأن تلك الولايات وجميعها في جدول محاصيل ولاية اليمن سنة (1000،1007،1008ه/1592-1599-1600م)، قد وصلت إلى سبعة وسبعين تقسيمٍ وولاية، وأصبحت هذه الولايات في الحكم العثماني الثاني قضوات ونواحي.
ويرجح الكثير من المؤرخين أن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بعد استقلال اليمن عن الحكم العثماني الأول سنة (1045هـ/1635م) على يده هو واخوته اتبع النظم المالية والإدارية التي كانت موجودة في خلال الحكم العثماني السابق. كما استعان ببعض القادة العثمانيين، الذين فضلوا البقاء في اليمن بعد خروج العثمانيين منها، فتقلدوا مناصب إدارية هامة، وعين بعضهم ولاة على بعض المناطق، منهم على سبيل المثال الأمير رجب الرومي، الذي كان مرسلاً من الدولة العثمانية دعماً لحيدر باشا، إلاَّ أنه أعلن طاعته للإمام المؤيد، فعينه على بلاد المخادر (تقع شمال مدينة إبّ). وقد مكث والياً عليها حتى توفي في عهد الإمام المتوكل إسماعيل.
وكان الأمير سنبل من الشخصيات القيادية العسكرية العثمانية. تولى قيادة كثير من الحروب ضد الإمام المؤيد، غير أنه بعد ذلك أعلن انضمامه إلى قوات الإمام، بعد المعاملة السيئة من قبل حيدر باشا، فأرسل إلى الحسن بن القاسم خطاباً يعلن فيه طاعته للإمام المؤيد، ويطلب منه الأمان، فرحب الحسن بذلك، وعينه على مدينة ذمار ووصاب، وبانضمام الأمير سنبل إلى معسكر الإمام انضمت الفرق التابعة له في قلعة ذمار وجبل كبريت ورداع ووصاب.
لذلك من المحتمل أن بقاء مثل هؤلاء في اليمن وتقلدهم مناصب هامة كان له أثر في استمرار كثير من النظم الإدارية العثمانية، بحكم خبرتهم السابقة.
ومن المرجح أيضاً أن الإمام المتوكل على الله إسماعيل قد اتبع السياسة الإدارية السابقة له، إذ أن المصادر المتوفرة بين أيدينا لا تشير من قريب أو بعيد إلى وجود تقسيمات إدارية جديدة، ولم تشر حتى إلى ما هي التقسيمات الإدارية التي كانت موجودة حينذاك، غير أن المؤرخ يحيى بن الحسين يتكلم بين الحين والآخر عن الوظائف والألقاب والتقاليد الإدارية الخاصة، فنجده على سبيل المثال يذكر بأن الخيالة الذين مع محمد بن الحسن من الأتراك العثمانيين، ثم يقول: "والعساكر والبيارق والشاوشية والنوبة يضرب طبلها، ويزمر زمرها، ويدق صاحبها، والخيل التي معه كلها باليمن اجتمعت [و] انتظمت على زي عساكر الأروام، وترتيبهم المعتادة تلك الأيام".
وما يؤيد استعانة الإمام المتوكل إسماعيل بالتقسيمات الإدارية السابقة أن يحيى بن الحسين في مخطوطته (بهجة الزمن) كان غالباً ما يذكر ذلك التقسيم على أنه ولايات، فيقول مثلاً: ولاية ريمة، ولاية العدين، ولاية عتمة، ولاية صنعاء. ولا فرق لديه بين المناطق الصغيرة والمناطق الكبيرة.
وهذا كما سبق أن رأينا هو التقسيم الذي اعتمدت عليه الدولة العثمانية خلال الحكم الأول في جمع مستحقات الدولة من تلك الولايات التي قسمتها إلى سبع وسبعين ولاية.
ولم يتضح في المخطوطات المعاصرة لهذه الفترة-خاصة بهجة الزمن، تحقة الأسماع والأبصار-أي تقسيمات إدارية أخرى، غير أن يحيى بن الحسين والجرموزي كانا يذكران (المخلاف) إلى جانب الولاية. وهو تقسيم كان موجوداً في العهد الإسلامي، حيث كان المخلاف الكبير يضم مخاليف صغيرة. هذه المخاليف الصغيرة هي التي اتضحت في مصادر هذه الفترة، فنجد الجرموزي، على سبيل المثال، عندما تكلم عن تقدم الإمام إلى منطقة (الرجو) يقول: "وقد تلقاه أهل تلك المخاليف بالنذور والضيافات" أو يقول: "صعدة ومخاليفها، ونجران وما إليه".
ويصعب لهذا كله الوصول إلى تقسيمات واضحة ومحددة إدارياً لهذه الفترة، لعدم توفر المادة التاريخية لذلك التقسيم في المصادر التي بين أيدينا. وقد اتضح فقط في المخطوطات المعاصرة لهذه الفترة-خاصة مخطوطة (بهجة الزمن) الذي تناول مؤرخها ذلك بشيء من التفصيل-التعيينات التي تمت في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل لتلك الولايات. ولعل السبب في ذلك هو أن هؤلاء المؤرخين كانوا يعتبرون هذه التقسيمات الإدارية معروفة سلفاً، لأنها قديمة، وموجودة من أيام العثمانيين. لذلك انصب اهتمام مؤرخ مخطوط (بهجة الزمن) على التعيينات التي تمت في عهد الإمام المتوكل إسماعيل.
وهنا قد يتبارد إلى ذهن أي باحث بعض من الأسئلة، لعل أهمها: كيف كانت هذه التعيينات من خلال السياسة الإدارية للإمام؟ هل اتبع التعيين والعزل للولاة حسب ما كان يراه مناسباً من حيث صلاحية الولاة والتقسيم الإداري؟ أم كانت سياسته الإدارية متأثرة بالجانب السياسي من حيث إرضاء الأنصار والمؤلفة قلوبهم؟ وهل اتبع سياسة واحدة في كل الولايات أم اختلفت سياسته من ولاية إلى أخرى؟ أم كانت حسب ثروتها الاقتصادية فيعين فيها أهل الثقة من أبناء الإخوة أو العبيد؟ وهل المناطق المفتوحة حديثاً-أي في عهده-زادت من أعباء وغموض السياسة الإدارية والتقسيم الإداري؟ أم أنها ساعدت على تثبيت سلطة الدولة أكثر من ذي قبل؟
يجب في البداية أن نقف عند حقيقة هامة ظهرت في عهد الإمامين المؤيد بالله محمد بن القاسم وأخيه الإمام المتوكل إسماعيل، وهي أنه لم يكن في اليمن نظام يرث فيه أبناء الولاة والحكام بالضرورة المناطق التي كانت تحت حكم آبائهم. ولكن هذا يرجع إلى رغبة الإمام نفسه، وموقفه من هؤلاء الأبناء أو صلاحيتهم. فقد رفض الإمام المؤيد إعطاء مناطق ولاية أخيه الحسن لأبنائه بعد وفاته، قائلاً: "إن بلاد الصنو الحسن رحمه الله ليست ميراثاً حتى تُقسم". وعلى نفس المنهج-تقريباً-سار الإمام المتوكل إسماعيل، كما سنرى لاحقاً.
في بداية الأمر رأى الإمام المتوكل إسماعيل أن تكون عاصمة دولته مدينة ضوران، مخالفاً بذلك لأبيه القاسم وأخيه المؤيد، اللذين اتخذا من شهارة عاصمة لهما. ولم يكن اختياره لهذه المدينة اعتباطاً، أو لأنها كانت ولايته السابقة، بل كان اختياره لها لأسباب هامة وجوهرية. فهي تقع في السفح الشمالي لجبل ضوران. وكان اسمها الحصين، ثم تغلب اسم الجبل على هذه المدينة.
وأهمية هذه المدينة يوضحها لنا المؤرخ يحيى بن الحسين بقوله: "وهذا الحصن من المعاقل العظيمة، والجبال الشامخة العالية المنيعة. أصل أساسه من الملوك الحميرية. وقل أن يوجد في الحصون اليمنية مثله". والأهمية الأخرى، والتي كانت من أسباب اختيار المتوكل ضوران عاصمة له ما ذكره يحيى بن الحسين، فيقول: "وتوسطه باليمن من جميع الجهات ... ومعرفة صاحبه بما جاء وفات، مع أخذه من جانب المشرق والمغرب بأوفر نصيب، واطلاع مالكه على البلاد البعيد منها والقريب"، فإلى الشمال منها تقع القبائل المناصرة والمعقل الأساسي للإمامة، ومذهبها الزيدي، وإلى الجنوب منها تقع الأراضي اليمنية الخصبة، التي تصل منها أكثر عائدات الدولة. وإلى الشرق منها تقع الكيانات اليمنية المستقلة، التي تتجه إليها أنظار الدولة القاسمية في ذلك الوقت.
وقد أدرك الإمام المتوكل إسماعيل أهمية هذا الموقع منذ أن تولاها نائباً لأخيه الحسين، ثم عندما عينه الإمام المؤيد متولياً لها. هذا إلى جانب أنها أصبحت مركزاً سياسياً هاماً في تلك الفترة.
ومن ضوران حكم الإمام المتوكل إسماعيل اليمن حكماً مركزياً، سواءً المناطق التي كانت تابعة للدولة القاسمية من قبل، أم المناطق التي تم إخضاعها بالقوة لسلطة الدولة المركزية-أقصد المناطق الشرقية والجنوبية-حيث كان مركز الدولة على اطلاع مستمر على كافة شؤون الولايات.
وكان ولاة المناطق المختلفة بمثابة المساعدين للإمام، باعتبارهم معينين من قبله، وموكل إليهم إدارة شؤون تلك الولايات، وكانوا على اتصال مباشر بالإمام.
وكان الإمام المتوكل يقوم بالعديد من الجولات التفقدية-إن جاز استخدام هذا التعبير-في العديد من مناطق اليمن، فلم يكن مستقراً في ضوران؛ بل كان عكس أخيه الإمام المؤيد، الذي لم يغادر شهارة حتى وفاته.
وقد أورد يحيى بن الحسين تنقلات الإمام إسماعيل في هذه المناطق باستمرار منها على سبيل المثال صنعاء، التي كان في معظم الأحيان يصل إليها لتفقد أوضاعها، ويبقى فيها فترة قد تصل أحياناً إلى عدة أشهر. وأورد تنقله أيضاً في مناطق أخرى مثل عمران، كوكبان، شهارة، حبور، ذمار، الخارد، الروضة، السودة ...إلخ. ولعله كان يهدف من هذا التنقل تفقد أوضاع تلك المناطق المالية والإدارية عن قرب.
وإذا انتقلنا إلى سياسة الإمام المتوكل إسماعيل في توزيع الولاة على المناطق أو الولايات، وتعيينهم عليها سنجد أنه بدأ في توزيع مناطق اليمن على المراكز الهامة في دولته قبل أن يُحسم أمر الخلاف على الإمامة مع أخيه أحمد، حتى يضمن وقوفهم إلى جانبه، كما سبق أن رأينا. واستكمل بقية التوزيع بعد أن تغلب على أخيه وأصبح الإمام بلا منازع. وبعض الولايات أبقى فيها ولاتها السابقين.
فإذا ما بدأنا بولاية صنعاء سنجد أن المتولي لها عند أن وصل المتوكل إسماعيل إلى الإمامة كان علي بن الإمام المؤيد بالله. وكان والياً عليها من أيام والده، فثبته عليها حتى وفاته. ولكن سياسته تجاه علي بن المؤيد اختلفت عن سياسته تجاه شخصيات أخرى في دولته مثل محمد بن الحسن وأخيه أحمد بن الحسن، كما سنرى، فهو حقيقة قد ترك لعلي بن المؤيد ولاية صنعاء، ولم يعزله عنها لما عُرف عنه من الزهد، فيصفه بعض المؤرخين بأنه: "لا يُعلم أنه عمرحجراً على حجر، ولا توسع كغيره فيما وسع به على المسلمين"، غير أن الإمام المتوكل قد قلص نقوذ علي بن المؤيد، فكان في عهد والده الإمام المؤيد إليه صنعاء وما يتبعها من جهات الحيمة، فلما أصبح المتوكل إماماً عزله عن الحيمة، وجعله والياً على صنعاء فقط، وقلص من نفوذه حتى في صنعاء، فيقول المؤرخ يحيى بن الحسين: "وقبض عليه جمهور المطالب، وما فيه النفع والإمداد في الغالب، ولم يبق إلا القليل"، وجعله والياً على صنعاء فقط. وكانت مدة ولايته على صنعاء أربعين عاماً.
وبعد وفاة علي بن المؤيد عام (1078ه/1667م) مسك زمام أمورها إبن أخيه يحيى بن الحسين بن الإمام المؤيد "مستنداً في التصرف إلى أحمد بن الحسن معتقداً أن الإمام المتوكل سيقرره عليها، ولن يعزله عنها"، لكن الإمام عين عليها إبنه محمد الذي كان متولياً لبلاد آنس وضوران من سنة (1070ه/1660).
ولعل المتوكل قد رأى في وفاة علي بن المؤيد فرصة سانحة ليُثَبِّت ابنه محمد على صنعاء، باعتبارها من الولايات الهامة، ولا بد أن يتولاها أحد أبنائه؛ لأنه من أهل الثقة. وهنا تتغير سياسة الإمام تجاه والي صنعاء الجديد، فلم يجعله والياً على صنعاء فحسب، كما فعل مع علي بن المؤيد، لكنه ضم إلى ولاية ابنه في صنعاء بلاد الحيمة وخولان ونهم وسنحان وحراز وبلاد ثلا وبعض همدان.
ولعل هذا يؤيد بأن سياسة الإمام إسماعيل في التقسيم الإداري لم تكن مستقرة، فنجده أحياناً يقلص من مناطق الولايات، وأحياناً أخرى يوسع هذه الولاية أو تلك، فتشمل مناطق كثيرة، وذلك حسب ما يراه الإمام مناسباً لهذا الوالي أو ذاك، حتى وإن اضطر إلى تقسيم الولاية إلى عدة أقسام.
وإذا ما نتقلنا إلى سياسة الإمام المتوكل تجاه أخيه أحمد بن القاسم الذي نافسه على الإمامة، كما رأينا، سنجد أن أحمد بن القاسم كان متولياً لإحدى المناطق الشمالية الهامة، وهي صعدة وجهاتها. وكانت صعدة من المراكز الهامة للمذهب الزيدي، حيث كانت مقر مؤسس المذهب الزيدي في اليمن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، كما أنها كانت المركز الرئيسي لانطلاق عسكر الدولة إلى المناطق الشمالية الأخرى حتى نجران إذا ما تمردت.
لقد كانت صعدة والمناطق الشمالية التابعة لها حتى نجران تحت ولاية أحمد بن القاسم قبل أن يتولى إسماعيل الإمامة. وبعد أن وصل الأخير إلى الإمامة، وتغلب على أخيه أحمد اتبع سياسة حكيمة تجاه المؤلفة قلوبهم-إن جاز التعبير-فنجده يوافق لأخيه أحمد على الاستمرار في ولايته السابقة، وأعطى ابنه محمد بن أحمد نصف بلاد والده التي كانت له، وهي جميع بلاد البون والمناطق الشمالية إلى خمر، غير أن الإمام إسماعيل في سنة (1080ه/1669م) كان يريد أن يبعد محمد بن أحمد عن ولاية تلك المناطق، فعرضها على أخيه قاسم بن أحمد، إلاَّ أن قاسم رفض تلك الولاية؛ لأنها تابعة لأخيه محمد، قائلا: "كيف يحسن مني منافسته إياها". ولم يتضح سبب رغبة المتوكل في استبدال محمد بن أحمد بأخيه قاسم بن أحمد في هذه الولاية.