مركز الحكم العثماني.
وكيفما كان الأمر فقد دامت المعارك التي شهدها إقليم صعدة بين الجانبين الزيدي والعثماني فترة تقارب السنتين -رمضان 1014ه - رجب1016ه/يناير 1606م-أكتوبر1607م- لم تستطع خلالها القوات الإمامية من إحكام سيطرتها هناك للأسباب التي ذكرناها آنفاً.
بدأ الإمام القاسم مع انتصاراته ومد نفوذه إلى غالب إقليم الشمال الجبلي، يتوق إلى استعادة شهارة من أيدي العثمانيين، فهي إلى جانب موقعها الاستراتيجي، فإنها المعقل الأول لدعوته واندلاع الثورة في مرحلتها الأولى، وهي مركزه العلمي التي اعتصر منها خلاصة علمه.
ويبدو أن العثمانيين قد أدركوا الأهمية التي تمثلها شهارة بالنسبة للإمام، لذلك فقد عمدوا إلى إحكام السيطرة عليها من خلال تعزيز تواجدهم العسكري فيها بمائتي جندي عثماني، تحت إمرة أحد قادتهم، بالإضافة إلى أنهم عمدوا إلى تعيين شيخين من مشائخ قبيلتي حاشد وبكيل ينخرط تحت إمرتهم عدد غير قليل من أفراد تلك القبيلتين. ولعلهم أرادوا بذلك إضفاء مزيد من الحماية عليها. ولاعتقادهم كذلك بأنه إذا ما هوجمت المدينة فإن أعداداً غير قليلة من فخوض وفروع القبيلتين سوف تتوافد وتسارع لتخليص أفرادها ومشائخها المساندين للقوات العثمانية في شهارة وتمنع بالتالي من سقوط المدينة في أيدي القوات الإمامية.
لم يلق الإمام بالاً إلى ما اعتمله العثمانيون من إجراءات عسكرية لإحكام السيطرة والدفاع عن شهارة. فقد دفع بحليفه عبد الرحيم لتوجيه قواته إلى محاصرة شهارة تسانده أعدا كبيرة من أتباعه -الإمام- ومؤيديه.
ويبدو أن الإمام قد أدرك أن المواجهة مع القوات العثمانية وحلفائها لن تجدي، بل ستؤدي إلى نتائج وخيمة في صفوف قواته؛ نتيجة تفوق الجانب العثماني البشري والعسكري، لذلك فقد رأى أن حصار شهارة هو الأصوب في هذه الحالة. خاصة مع درايته التامة أن المدينة لن تصمد طويلاً إزاء حاجتها الضرورية للمؤن الغذائية عند نفادها، لما هو قائم -وقتئذ- من الأعداد الهائلة للقوات العثمانية وحلفائها، بالإضافة إلى سكان المدينة. خاصة وأن المؤن التي اختزنها العثمانيون لمواجهات محتملة مع قوات الإمام، لم تكن بالقدر الكافي، نتيجة الحالة الاقتصادية السائدة -حينئذ- في شهارة نفسها، والمناطق المجاورة لها، لافتقارها إلى مادة الحبوب جراء شحة الأمطار التي أدت إلى نقص كبير في المردود الزراعي لهذه المادة، بالإضافة إلى ترك الأهالي لأراضيهم دون زراعتها جراء الحروب القائمة بين العثمانيين والإمام -كما أشرنا في الفصل الأول-.
ولعل الحصار الذي تعرض له الإمام وقواته، خلال المرحلة الأولى من ثورته، في شهارة، من قبل القوات العثمانية، وأدى إلى تسليمه المدينة، كان مرده النقص الشديد في المؤن الغذائية -كما أشرنا في الفصل الأول- وهو ما أدركه -الإمام- على أرض الواقع حين عمد إلى فكرة حصاره لشهارة بدلاً من المواجهة كما سيتبين في ما بعد.
بدأ الأمير عبد الرحيم يطبق حصاره الشديد على مدينة شهارة، والذي دام قرابة العام، حينئذ لم يجد عبد الله بن المعافا سوى إعلانه بتسليم المدينة خاصة وقد أصبحت تعاني من نقص شديد في مخزونها الغذائي، مما زاد من شدة معاناة الأهالي فيها، حتى بلغ بهم الأمر إلى حد أنهم، حسب الجرموزي: "أكلوا الكلاب ولحوم الدواب". وكان ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط شهارة في يد الإمام بعد حصار استمر زهاء العام في شهر شعبان من سنة 1015ه/ديسمبر1607م.
وكان عبد الله بن المعافا قد راسل الإمام بشأن تسليمه المدينة دون عبد الرحيم الذي كان يكن له عداءاً شديداً، خاصة وأن عبد الرحيم تربَّص شراً به، حين أكد كما يذكر الجرموزي: "لئن ظفرت بابن المعافا ليكونن من المثلة التي لا يفعل إلا هو". ولقد استصوب أهل الأهنوم رأي ابن المعافا لكراهتم لعبد الرحيم.
وفي حقيقة الأمر فقد كانت شدة غلظة وقسوة عبد الرحيم أحد الأسباب التي أدت إلى نفور الناس منه، وهو الأمر الذي جعل مؤرخ معاصر يقول: "إن عبد الرحيم سيء الظن بمن حواليه سريع المبادرة ملولا عظيم السطوة لا يراعي حق في الأغلب، وكانت هذه الأمور هي أعظم أسباب انحلال أمره، وإن الصديق والعدو كان بمنزلة واحدة في الخوف منه، مع عدم وفائه بالعهود، واستهانته بها".
وفي قراءة دقيقة لمجريات الأحداث -الآتية الذكر- سيتبين أن مواقف عبد الرحيم العدائية، لم تكن في حقيقة الأمر تشكل من الأهمية بمكان بالنسبة لابن المعافا، ولم يكن ما ذهب إليه الأخير -ابن المعافا- السبب وراء طلبه تسليم المدينة للإمام، بل كان يدرك أن بُعد المسافة بين شهارة ومحل إقامة الإمام في ذيبين ستؤدي إلى تأخر قدومه لاستلام المدينة، وفي هذه الأثناء تكون قد وصلته الإمدادات العثمانية لنجدته، ورفع الحصار عن مدينة شهارة.
فطن الإمام إلى ما كان يضمره ابن المعافا. ويبدو أن مواقفه السابقة -ابن المعافا- مع الإمام خلال المرحلة الأولى لثورته -كما أشرنا في الفصل الأول- كانت وراء توخي الإمام الحذر والحيطة في معاملاته مع الأمراء الزيديين العثمانيين، لذلك فقد سارع إلى إرسال قوة عسكرية تحت إمرة ابنه الحسن لمساعدة المطهر بن عبد الرحيم -أخو عبد الرحيم- لإنهاء الحصار واستلام المدينة من جانب، ومن جانب آخر فإنه بما عمد إليه يكون قد قطع على حليفه عبد الرحيم ما كان يؤمله في قرارة نفسه، من غدر بالإمام لبسط سيطرته على المناطق التي حقق انتصارات فيها. كما ذكرنا آنفاً.
هكذا استقرت الأمور بالإمام القاسم في معقله الجديد شهارة، ليبدأ منها مواصلة جهوده السياسية والعسكرية، لمد نفوذه وسيطرته إلى غير منطقة في إقليم الشمال الجبلي، تسانده في ذلك القبائل الموالية لثورته، في مرحلتها الثانية ضد الوجود العثماني.
وكان قبل ذلك قد أصدر عفواً عاماً لكل القبائل التي ساندت ابن المعافا والقوات العثمانية خلال حصار شهارة، أمل الغرض من ورائه إلى استمالة هؤلاء إلى صفوف قواته لمؤازرة ثورته، إلا أنه أبقى على إبراهيم بن المعافا -أخ عبد الله- ليفدي به ولديه المأسورين في كوكبان عندما حوصر في شهارة -كما أشرنا في الفصل الأول- سنة 1009ه/1600م.
ويبدو أن الإمام قد عاد هذه المرة حسب مؤرخ محدث ببرنامج مختلف نوعاً ما إذ سعى إلى مناشدة جميع القبائل بوجه عام، وقبيلتي حاشد وبكيل على وجه الخصوص لمناصرة إمامته، ويتضح -ما ذهبنا إليه- في رسالة وجهها مع بداية العام 1016ه/1607م إلى مشائخ القبيلتين يذكرهم فيها بمواقف آبائهم المناصرة للأئمة الزيديين منذ قيام الإمام الهادي الرسي، حين أشار إلى ذلك بقوله: "وإن لكم سوابق في الأولين، ولواحق في الآخرين". ولم يكتف بذلك بل دعاهم إلى مساندة ثورته ضد الحكم العثماني قائلاً حسب الجرموزي: "فنحب منكم أبقاكم الله أن تعودوا لعاداتكم وتقتدوا بأسلافكم".
ودعم قوله ذلك بتأكيد المواقف السابقة للقبيلتين في قصيدة جاءت على لسانه مطلعها:
يا حاشداً وبكيلاً إن عادتكم .... نصر الأئمة لا تبتغوا بديلا
آباؤكم نصروا أباءنا وسقوا .... أسيافهم نهلاً من بعده عللا
ولم يغب عن بال الإمام في رسالته -الآنفة الذكر- من تحذير وجهه إلى تلك القبائل التي والت العثمانيين، وانخرطت في صفوف قواتهم لمحاربته طمعاً في ما يقدمونه لهم من المال نظير ذلك:
لا تطمعوا طمعاً من فاسق خبثت .... أعماله ولكم قد أعمل الحيلَ
مؤكداً لهم أن جانب العثمانيين لا يؤتمن لما يتصفون به من نقض للعهود إن تضررت مصالحهم. ولقد عمد الإمام في خطاباته على التأكيد على الهوية المتميزة لدعوته حين راح يدفع بأنصاره لتوسيع نطاق ثورته.
صلح (1015ه/1606م) بين الإمام القاسم والوالي سنان باشا ونتائجه
إزاء التطورات المتلاحقة التي شهدها الشمال الجبلي، مع بداية المرحلة الثانية لثورة الإمام، وبسط نفوذه في عدد غير قليل من المناطق الشمالية، وموالاة العديد من القبائل له. أدرك الوالي سنان باشا -خاصة مع علمه بقرار عزله عن ولاية اليمن- ضرورة وضع حل لامتداد سعير هذه الثورة التي من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة مركز الحكم العثماني في البلاد -صنعاء- خاصة وقد بدأ الإمام بداية غير محمودة العواقب بالنسبة للجانب العثماني كما ذكرنا آنفاً.
وفي حقيقة الأمر فقد خشي سنان باشا أن يجتاح الإمام القاسم بقواته خلال مرحلة تسليم الولاية للوالي الجديد جعفر باشا عند قدومه إلى صنعاء مركز الحكم. وهو أمر جد خطير إن حدث، سيمثل منعطفاً لامتداد السيطرة العثمانية في اليمن.
لذلك لم يكن أمام الوالي سنان باشا خاصة وقد أصبح أمر رحيله قاب قوسين أو أدنى سوى اللجوء إلى طلب الصلح مع الإمام. حيث عمد إلى إرسال أحد مبعوثيه وهو: "الحاج التاجر أحمد الوادي". الذي كان يمثل أحد الوجاهات الاجتماعية في صنعاء -وقتئذ- ليعرض على الإمام الصلح لمدة عام أو أكثر.
وقف الإمام حيال طلب الصلح موقفاً اتسم بالحيطة والحذر، فهو لم يكن يتوقع طلباً كهذا من سنان باشا، خاصة ومواقفه من شخص الإمام وثورته اتصفت -خلال المرحلة الأولى للثورة- بالمكايدة وبما قام به من عمليات بطش وتنكيل ضد أتباعه، إلى جانب إدراكه بأن القوات العثمانية بشقيها البشري والعسكري باتت تمثل قوة لا يستهان بها وهي بالتالي ليست محل مقارنة لما بين يديه -الإمام- من قوات.
وقد تبادر إلى ذهن الإمام أن يكون طلب الصلح مناورة سياسية عمد إليها سنان باشا للإيقاع بشخصه أو لتقصي الحقائق لمعرفة أموره السياسية والعسكرية. لذلك فقد استدعى أحد كبار مستشاريه -حينئذ- وهو القاضي علي بن أحمد بن أبي الرجال لتدارس الأمر. ولمعرفة حقيقة الأمور الداعية إلى عقد الصلح، قبل أن يقرر قبوله أو رفضه. ويتضح حرص الإمام -هذا- حين قام بإرسال أبي الرجال إلى الأمير علي بن مطهر بن الشويع أحد المقربين للوالي سنان باشا لتقصي الحقائق بشأن الصلح.
عاد المبعوث الإمامي -أبو الرجال- بعد زيارة اتسمت بالسرية التامة برد من الأمير ابن الشويع. يؤكد حقيقة طلب الصلح من قبل سنان باشا موضحاً أن الأسباب التي أوجبت أمر الصلح تتمثل في خشية الوالي الفتنة مع رحيله عن اليمن بعد قرار عزله، وقدوم الوالي جعفر باشا.
أدرك الإمام -حينئذ- ضرورة المسارعة إلى عقد الصلح خاصة وقد تأكد له رحيل سنان باشا عن الولاية، وهو ما كان يؤمله.
وقع الإمام مع الوسيط العثماني أحمد الوادي على عقد الصلح في أواخر سنة1015ه/1606م. والذي نصت بنوده على:
1- تكون مدة الصلح لمدة عام واحد.
2- يكون للإمام بموجب الصلح ما تحت يده من المناطق في إقليم الشمال الجبلي وهو: شهارة، الأهنوم، الحيمة، السودة، وادعة، شاطب، الشاحذية.
ولم يتجاهل الإمام حليفه عبد الرحيم في أمر الصلح، ويبدو أنه كان يرغب من وراء إشراكه أن يضاعف من ثقله أمام العثمانيين. إلا أن موقف الأخير -عبد الرحيم- اتسم بالرفض التام لهذا الصلح، بل واتهم الإمام بالعجز والضعف أمام العثمانيين، ولاعتقاده بأن الانتصارات التي شهدتها جبهة الإمام كانت بفضله هو، وأنه على استعداد وبدون الإمام الاستمرار في الثورة ضد العثمانيين، فتركه الإمام وشأنه معهم. وهذا ما سنتبينه في ما بعد.
ولقد بادر سنان باشا قبل رحيله عن صنعاء إلى تجديد الصلح: "والزيادة فيه إلى عشر سنين". ولعله أراد بذلك تأكيده للسلطنة في إقرار الأمور واستقرار أوضاع اليمن، وأن يمحو الصورة القاتمة التي رسمها اليمنيون له خلال فترة بقائه في البلاد.
وكيفما كان الأمر فقد نتج عن الصلح بين الجانبين:
1- اعتراف صريح بالإمام القاسم من قبل الدولة العثمانية كحاكم …فعلي لما تحت يديه من إقليم الشمال الجبلي.
2- اعتراف ضمني بمكانة الإمام الدينية.
3- أن مركز الإمام صار أفضل حالاً يمكنه أن يترك التحالف مع …الأمير عبد الرحيم.
4- يوضح الصلح مدى حاجة الجانبين له.
5- أدى الصلح إلى استقرار الأوضاع في المناطق الشمالية ومركز الحكم العثماني في صنعاء خاصة مع رحيل سنان باشا وقدوم الوالي الجديد جعفر باشا -كما سنتبين في ما بعد-.
صلح (1016ه/1607م) بين الإمام القاسم والوالي جعفر باشا ونتائجه
تسلم الوالي الجديد جعفر باشا(1607-1616م) ولاية اليمن بعد عزل سلفه سنان باشا وأموره مضطربة نتيجة الحروب التي دارت رحاها في غير منطقة، خلال تولي سنان باشا -كما أشرنا آنفاً- ولقد أدرك بأن فتح الحرب في جبهتين مع الإمام ومع عبد الرحيم ستؤدي إلى إضعاف فعالية القوات العثمانية، وستقلل بالتالي من فرص نجاحه في إدارة الولاية، خاصةً مع جهله بشؤون اليمن.
لذلك فقد سعى بعد قدومه إلى تعز إلى مراسلة الإمام لعقد صلح ليتسنى له في ما بعد -كما سنتبين- من الانفراد بعبد الرحيم، خاصة وأن سلفه سنان باشا كان قد أكد عليه ضرورة عقد صلح مع الإمام، لتستقر بذلك أموره في مناطق الشمال الجبلي المتوتر.
من جانبه لم يتردد الإمام في عقد الصلح، حيث وافق عليه، لعلمه بأن مناصريه قد أرهقتهم طول الحرب. وإن: "المصلحة الظاهرة" تحتم عليه ذلك، خاصة وأنه قد رأى أن العديد من القبائل أعلنت موالاتها للعثمانيين، لما يدفعونه لهم من الأموال نظير ذلك. نتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية السائدة -وقتئذ-، ولإدراكه كذلك أنه أصبح يحارب في أكثر من جهة ضد العثمانيين وحلفائهم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تشتيت مجهوده الحربي.
وبعد فترة مفاوضات، انعقد الصلح بين الجانبين -الزيدي والعثماني- وذلك في شهر ذي الحجة سنة 1016ه/مارس /إبريل 1608م. وكانت أهم بنوده:
1- عقد هدنة لمدة عشر سنوات.