بينما أكد في معرض رده بشأن ولديه المأسورين أنه لن يترك أمرهما، حين أقسم بأنه سيواصل حروبه وتأجيج المقاومة ضد الوجود العثماني كما يشير المؤرخ الجرموزي على لسان الإمام نفسه بقوله: "وأقسم بالله لأبلغن في حربكم وفكاكهم كل مبلغ". وقد أكد الإمام في جانب آخر أن الجبايات التي فرضها على أتباعه إلى جانب النذور التي يتبرعون بها تؤمن معيشته بالإضافة إلى المنضويين تحت دعوته القائمين على أمر الثورة وهو بالتالي ليس بحاجة لما قرره العثمانيون في بنود الصلح مقابل التنازل عن أمر الدعوة.
وقد أبدى الإمام تعجباً للبند الثاني من بنود الصلح -الآنف الذكر- حين أراد العثمانيون أن يصير أميراً عثمانياً وهو حسب تعبيره: "يجسد الإمامة" وأنه: "أحق بها كما كان صلى الله عليه وآله وسلم أحق بها من سائر الناس" إلا أن الإمام القاسم أبدى استعداده، للتوقف عن التحريض على الثورة، مقابل أن يترك له العثمانيون: "شهارة وبلادها ووادعة وبلاد خولان وجبل رازح مع برط"، وأن يتم ذلك في إطار صلح يتم تحديد فترته الزمنية.
ويبدو أن الإمام قد أراد حسب مؤرخ محدث بشروطه تلك أن يكون للإمامة الزيدية نصيبها من الوجود دون أن يشكل هذا تعارضاً مع نفوذ العثمانيين وأمرائهم الزيديين. وفي حقيقة الأمر لم تجد شروط الإمام -السابقة الذكر- استجابة لدى مركز الحكم العثماني في صنعاء، ولعل الظروف لم تكن مواتية لعقد الصلح خاصة مع مغادرة حسن باشا اليمن. إلا أن ذلك الأمر -الصلح- ستتضح معالمه خلال المرحلة الثانية من ثورة الإمام القاسم كما سيتبين في ما بعد.
هكذا انتهت المرحلة الأولى من ثورة الإمام القاسم، بعد حروب دامت قرابة خمس سنوات، استطاع خلالها أن يبسط سيطرته على غالب أقاليم المنطقة الشمالية، ثم عاد فخسر كل هذه الممتلكات ولجأ إلى برط. ليبقى في معقله الجديد بعض الوقت بعيداً عن العثمانيين، حتى أتيحت له الفرصة لإعلان الحرب عليهم ثانية ولتبدأ بذلك المرحلة الثانية من ثورته.
الفصل الثالث المرحلة الثانية لثورة الإمام القاسم
(1013-1020ه/1604-1611م)
بقاء الإمام في برط
لم يستطع حسن باشا إزاء تطورات الأوضاع المتلاحقة من عقد صلح كان يتوخاه مع الإمام القاسم -كما أشرنا في الفصل الثاني- لوضع حد لدعوته، خاصة مع رحيله الذي أوشك عن ولاية اليمن، وتعيين خليفته سنان باشا.
في ما بقي الإمام القاسم في منفاه -الاضطراري- في برط، يتواصل معه بعض من أتباعه ومريديه لمؤازرته. وقد أخفق خلال محاولات عدة، كان الغرض منها الدفع بقبائل برط لمعاودة المقاومة، ويبدو أن موقف تلك القبائل من الإمام كان نتيجة لما أصابها حسب مؤرخ محدث: "من تعسف العثمانيين عند مساندتهم -الإمام- السابقة له". بل إن بعضها كانت على استعداد لمواجهته عند محاولته اللجوء إلى مناطقها مثل قبائل وادي الشام التي أعلنت ذلك بصراحة.
ورغم تنقلات الإمام في غير جهة من إقليم برط النائي ليصبح بعيداً عن متناول العثمانيين. إلا أن القوات العثمانية كانت قد عززت من تواجدها تحت قيادة القائد العسكري في صعدة -قُرَّأ جمعة- وإحكام حصارها على أماكن عدة في الإقليم. وفي حقيقة الأمر لم يكن بمقدور الإمام مواجهة تلك القوات لكثافتها البشرية والعسكرية، ولافتكاره لقواته التي كان قد أصابها الضعف والوهن في المرحلة الأولى من الثورة -كما أشرنا سابقاً-.
وفي محاولة عمد إليها الإمام كان الغرض منها صرف النظر عنه من قبل القوات العثمانية ولو لبعض الوقت ليتمكن من إعادة لملمة قواته، فقد حاول فتح جبهة ضد العثمانيين في حصن مسار بجبل حراز خاصة مع مناصرة الأهالي هناك لدعوته، وبالفعل فقد كان لتلك المحاولة ردود فعل إيجابية، حين سحب سنان باشا غالب قواته المحاصرة للإمام في برط لمواجهة المقاومة التي اندلعت في جبل حراز.
ويبدو أن سنان باشا قد أدرك أهمية حصن مسار الاستراتيجية بالنسبة للإمام، كونه يشكل مؤخرة قواته، ويستطيع من خلاله كذلك تلقي الإمدادات البشرية والغذائية في معقله ببرط -كما أشرنا في الفصل الأول-، لذلك فقد شدد سنان باشا من حصاره للحصن، واستطاع بعد أمد ليس بالقليل من السيطرة عليه. وحسب مؤرخ معاصر فقد دام حصاره للحصن: "قرابة ثلاثة أعوام وأربعة أشهر".
وفي واقع الأمر فقد كان وراء إخفاق القوات الإمامية في الحصول على نصر يذكر في جبهة حراز عاملان هامان: أولهما: كثافة القوات العثمانية البشرية والعسكرية. وثانيهما: القوات الإسماعيلية والمتمركزة في الأساس في جبل حراز، والتي كانت تشكل حلفاً رئيسياً يدعم ويساند الجانب العثماني.
لم تثن محاولات الوالي العثماني سنان باشا -الآنفة الذكر- وما اعتمله من بطش وقوة وتنكيل بالأسرى من قوات الإمام أو ضد مؤيديه ومناصريه، الإمام عن مواصلة مجهوداته الحربية فقد أصدر تعليماته إلى علي بن يوسف الحماطي، أحد كبار قادته العسكريين، بفتح جبهة أخرى ضد القوات العثمانية، كان موقعها هذه المرة الحيمة، والتي كانت تشكل أهمية استراتيجية بالنسبة له، فهي مصدر إمداد بشري وغذائي ساندت الثورة في مراحلها الأربعة.
ويبدو أن الإمام قد عمد إلى فتح تلك الجبهات أمام خصومه العثمانيين، وإن لم يحرز انتصارات تذكر، لإدراكه بأنها ستؤدي إلى تشتيت المجهود الحربي لتلك القوات وهو ما كان يؤمله.
وعلى أية حال فإن محاولة فتح جبهة الحيمة لم يكتب لها النجاح، حيث سارع سنان باشا إلى إرسال أعداد كبيرة من قواته، تساندها القوات الإسماعيلية، وقوات الأمير أحمد بن محمد بن شرف الدين، لمواجهة مقاومة قبائل الحيمة ضد سلطة الحكم العثماني، وما تقدمه بالتالي من دعم ومناصرة للثورة.
ولقد عمد العثمانيون من خلال إجراءات عسكرية مشددة، إلى رصد تحركات الإمام في مناطق عدة منها: "بلاد بكيل وحاشد وخمر والصرارة وعمران والهجر من الأهنوم والسودة .. وغيرها". كان الغرض منها القبض على شخص الإمام، أو عدم إتاحة الفرصة أمامه لإعادة لملمة قواته، وإلى ذلك فإنها أحدثت إرباكاً وتخوفاً لدى القبائل في تلك المناطق، والتي تسانده -الإمام- وتناصره، من خلال عمليات البطش والقوة التي استخدمتها القوات العثمانية ضد الأهالي في تلك المناطق.
وإزاء تلك التطورات المتسارعة، وشدة الحصار الذي ضُرب على الإمام القاسم، وموقف أهالي برط من شخصه، وعدم رغبتهم في بقائه بينهم -كما أوضحنا آنفاً- لم يجد أمامه سوى مغادرة برط، واللجوء إلى بلاد سفيان، ليواصل من هناك تأليب مؤيديه، وما تحت يده من قوات لمقاومة الوجود العثماني.
وفي حقيقة الأمر، فقد أخفق الإمام خلال تحركاته تلك في العثور على المناصرين، رغم ما بذله من جهود لتحريض القبائل على ذلك.
ويبدو أن إحكام الحصار من قبل القوات العثمانية على غالب المناطق الشمالية، ومساندة الأمراء الزيديين العثمانيين، وأبناء الطائفة الإسماعيلية لتلك القوات كانت عاملاً مهماً أدى إلى إضعاف روح المقاومة في صفوف القوات الإمامية. ولعل سنان باشا حسب مؤرخ محدث: "قد أراد بذلك عزل الإمامة والثورة في البلاد، لاستقرار حكمه، ولمنع الإمام من ممارسة تأثيره على الأوضاع في الولاية".
وسط تلك الأوضاع تقدم الإمام القاسم في شهر جمادى الأول من سنة 1013ه/ سبتمبر 1604م. إلى وادعة الظاهر رغم تردد شيوخها في إجابة الدعوة، فقد كانوا بين الرجاء والخشية من سنان باشا.
ويبدو أن ترددهم ذلك كان مرده إلى ما تعتمله القوات العثمانية من عمليات البطش والتنكيل ضد مؤيدي الإمام من جانب، ومن جانب آخر تخوفهم على مصير رهائنهم لدى العثمانيين.
إلا أن الإمام حاول التخفيف مما ذهبوا إليه، حين أكد لهم حسب الجرموزي "إن كنتم راهنين رهائن فأولادي .. وأصحابي رهائن في كوكبان" ولعله أراد بذلك تفويض مصيره هو وأبنائه ورجاله الذين معه إلى وادعة وهكذا أخذت الأمور تتغير لصالحه بعد أن وجد مكاناً ورجالاً تسانده وتحميه في منطقة وادعة، حين اجتمعت إليه قبائلها ووعدت بالمناصرة.
أدرك سنان باشا أن اختيار الإمام لمعقله الجديد وادعة، ومناصرة أهلها، ستؤدي بالتالي إلى إعلان الثورة ثانية ضد العثمانيين، لذلك فقد عمد إلى الدفع بمزيد من قواته إلى وادعة، تساندها قوات الأمير الزيدي عبد الله بن المعافا. لإحباط ما كان يؤمله الإمام، ولتفادي زعزعة الحكم العثماني. ولقد خاضت القوات الإمامية معارك ضارية في وادعة أدت إلى هزيمة القوات العثمانية.
توسيع نفوذ الإمام في المناطق الشمالية
مما لا شك فيه أن تلك الانتصارات -الآنفة الذكر- والتي حققها الجانب الإمامي ضد العثمانيين كان لها أثرها الهام على الإمام وأتباعه، حيث أدت إلى تعزيز الثقة مرة أخرى وعودة الأمل بإمكانية هزيمة قوات سنان باشا، بعد أن ساد لديهم الاعتقاد بعدم قهرها.
وكان لذلك النصر أيضاً رد فعل لعدد من القبائل المحيطة بوادعة، حين تجرأت على رفض السيطرة العثمانية، وأعلنت موالاتها للإمام القاسم، الذي بدأ يوسع من دائرة نفوذه من جديد.
وهكذا انطلق الإمام من معقله الجديد -وادعة- يعد ثانية قواته لمواجهة أشد مع القوات العثمانية، حيث عمد إلى إرسال أعداد منها إلى المناطق المجاورة مثل خمر، شاطب، وجبر.. وغيرها، وقد ساعده على ذلك عاملان اثنان أديا بالتالي إلى تقوية جانبه المعنوي والمادي.
أولهما: وفاة الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين في الحادي عشر من شوال سنة 1013ه/31يناير1605م. الذي كان يعد أكبر مساند للقوات العثمانية لانضواء قبائل عدة تحت إمرته، وبوفاته فقد العثمانيون نصيراً قوياً وداعماً فعالاً في صفوف جبهاتهم القتالية.
ثانيهما: موالاة الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن المطهر -الذي ظل في خدمة العثمانيين- مرة أخرى للإمام، حيث أرسل إليه يعتذر عن موقفه السابق، وأعرب له عن استعداده للوقوف ثانية إلى جانبه.
ولقد وجد الإمام القاسم في الأمير عبد الرحيم، الذي أعلن انشقاقه عن الإدارة العثمانية مع بداية العام 1014ه/1605م، حليفاً جديداً وقوياً خاصةً وأن نفوذ عبد الرحيم كان قد شمل إقليم الشرف أثناء المواجهة السالفة للثورة والإمامة.
هكذا نشط الإمام ورجاله في مكاتبة القبائل وشد عزائمهم للإنضواء تحت راية الثورة والمقاومة، فتوسعت بذلك جبهة الإمام ومناصرته وهو الأمر الذي جعله أكثر إصراراً وعزماً على مواصلة القتال ضد العثمانيين، بعد أن كان قد بلغ به الأمر حد اليأس.
ويبدو أن الإمام صار يرى أن وضعه الجديد، قد يمكنه من إعادة صياغة علاقته بالسيطرة العثمانية. ساعده في ذلك تذمر اليمنيين من سياسة الاعتصار الاقتصادي التي عمد إليها سنان باشا لإرضاء السلطنة وأدائها باليمن.
وفي حقيقة الأمر فقد بدأ الإمام يوسع من دائرة نفوذه خاصة مع تلك الانتصارات التي حققها حليفه الأمير عبد الرحيم، عند إخراجه للقوات العثمانية من مناطق إدارته، والضغط على جيرانه من الأمراء الزيديين الآخرين وتهديد نطاقات نفوذهم. وتمكن كذلك بمساعدة أخويه أحمد والمطهر والقوات الإمامية من تحقيق انتصارات ضد الجانب العثماني في إقليم الحيمة، وبلاد مسور وحصونها وبلاد شظب وغربان والسودة.
وفي جانب آخر خاضت القوات الإمامية تساندها قبائل شيخ إقليم آنس علي بن يوسف الحماطي معارك ضد الجانب العثماني، استطاع خلالها من إعادة بسط السيطرة على آنس والمناطق المجاورة لها. وتمكن كذلك من إعادة النفوذ الإمامي على مناطق الشاحذية وجبل تيس والأهجر، التي كان العثمانيون قد سيطروا عليها خلال المرحلة الأولى لثورة الإمام القاسم.
أدرك الإمام مع مد نفوذه وسيطرته على غالب مناطق الشمال الجبلي، ضرورة تأمين خطوط الجبهة القتالية في إقليم صعدة، كونها كانت أحد الأسباب التي أدت إلى انحصاره في جبل برط -خلال المرحلة الأولى للثورة- لذلك فقد وجه قوة عسكرية تحت قيادة ابنه علي إلى صعدة. وفي واقع الأمر فقد كان أمام هذه القوات أن تخوض معارك أشد ضرواة من سابقاتها في إقليم الشمال الجبلي، خاصة وأن غالبية مناطق هذا الإقليم كانت تدين بالولاء والطاعة للعثمانيين، في حين لم تمتد إليها يد الإمام خلال المرحلة الأولى للثورة، كونه قد انشغل مع بداية ثورته في تثبيت دعائم دعوته في محيط المناطق الشمالية -كما ذكرنا آنفاً- لذلك فقد أدت المعارك التي شهدتها المناطق الواقعة في إطار هذا الإقليم وهي حيدان وبني ذؤيب وخولان ورغافة وقطابر إلى تشتيت المجهود الحربي لقوات الإمام، وهو الأمر الذي لم يؤد إلى أي نصر يذكر لهذه القوات ضد الجانب العثماني، سوى إلحاقها هزائم في صفوف قوات عبد الله بن علي المؤيد، الذي كان حليفاً قوياً ومسانداً للقوات العثمانية -كما أشرنا في الفصل الأول- وأجبرته على الفرار من المعركة التي شهدها مركز نفوذه في حيدان واللجوء إلى صنعاء