ويتضح ذلك، عند سقوط بلاد حجة في أيدي القوات الإمامية حيث سارع حاكمها الأمير عبد الرحيم في جمادى الآخرة سنة 1006ه‍/1597م إلى طلب الصلح مع الإمام، ووصل إليه: "وقد جمع كثيراً من قبائل الأهنوم، وعاهد على الجهاد بين يدي الإمام والنصيحة في السر والعلن". ومع أن الإمام قد قربه إليه وولاه قيادة قواته التي وجهها للاستيلاء على عمران، إلا أنه كان مبيتاً في قرارة نفسه: "أن يجعل لأصحاب الإمام مكيدة لا تبقي لهم باقية". وهو ما تم بالفعل، حينما راسل القائد العثماني الكيخيا سنان وأعلمه بتقدمه على رأس القوات الإمامية إلى عمران لمواجهة العثمانيين هناك، بل وأطلعه إلى ما رمى إليه من خطة للإيقاع بتلك القوات، وكبار أعيان الإمام الذين كانوا في معيتها في قبضة القوات العثمانية، ويتسنى -حينئذ- للكيخيا سنان أن: "يروي من دمائهم الأرض، ويتركهم إلى يوم العرض". إلا أن خطته تلك باءت بالفشل حين فطن إليها رجال الإمام القاسم.
وكان حاكم السودة الأمير عبد الله بن المعافا، هو الآخر بعد سقوط بلاده بيد القوات الإمامية في صفر 1007ه‍/1598م، وإعلان موالاته للإمام، قد انقلب عليه عندما حانت له الفرصة عقب تمكن قوات حسن باشا من استعادة السيطرة في قلب الشمال الجبلي، وذلك في أواخر السنة الثانية -من المرحلة الأولى- من ثورة الإمام القاسم بن محمد.

واصلت القوات العثمانية هجومها على المناطق الشمالية بقيادة الكيخيا سنان مع بداية العام 1007ه‍/1598م، والذي شرع في توجيه هجماته العنيفة إلى مؤيدي الإمام، مستخدماً حيال ذلك كل أنواع البطش والتنكيل، وقد بلغت قسوته تلك حسب مؤرخ محدث إلى: "حد خوزقة عدد من رجال الإمام القاسم، وكذا سلخ عدد آخر وهم على قيد الحياة".
أدرك الوالي حسن باشا أن سيطرة الإمام على منطقة السودة وجعلها مقراً لحكمه سيؤدي إلى ازدياد أعداد المناصرين للثورة وإلى زعزعة الحكم العثماني، لذلك فقد بالغ في أجراءاته القمعية ضد الأهالي في مناطق الشمال الجبلي، بل وشرع في اتباع سياسة موازية للجانب العسكري، تنصب هذه المرة في الجانب الاقتصادي، حين شدد من ضغوطاته ضد الأهالي من خلال فرضه للضرائب العديدة، أثمرت إلى حد كبير في موالاة العديد من قبائل في تلك المناطق للحكم العثماني نتيجة الحاجة والفقر، وكان لها بالغ التأثير على مركز الحكم الإمامي في السودة.
ولم يكتف بتكثيف الحصار على الإمام في معقله الجديد -السودة- بل فتح جبهة أخرى لتفتيت المجهود الحربي للقوات الإمامية، دارت أحداثها في إقليم صعدة، على يد واحد من علماء الزيدية وهو عبد الله بن علي المؤيدي. فقد دفع العثمانيون بالمؤيدي إلى إعلان إمامته وأمدوه بالمال حيث: "جعلوا له جامكية آغا من أغواتهم".

وكما هو متوقع فقد اتجهت دعوته -المؤيدي- إلى معارضة إمامة القاسم حين بدأ يبث رسائله إلى بعض القبائل في جهات صعدة داعياً إياها للانضواء تحت إمامته، وإلى مناصرة العثمانيين. ولقد أزعجت هذه المواقف الإمام القاسم لما يمكن أن تؤدي من إرباك في صفوف الزيديين.
وفي محاولة أخرى كان الغرض منها -أيضاً- خلخلة وإرباك جبهات القتال في صفوف قوات الإمام ساند العثمانيون محمد بن عبد الله المؤيدي -الابن- وكان: "مجاباً وله دهاء وملابسة للسياسة" حين أعلن تمرده في إقليم حيدان ضد الإمام، وقد انظمت إليه بعض قبائل تلك الجهات، وقد وعده العثمانيون بتنصيبه على: "ولاية خولان صعدة .. وأن يكون أميراً من أمرائهم".
خاض المؤيدي -الابن- عدداً من المعارك ضد القوات الإمامية، أدت في نهاية المطاف إلى تقهقره وانهزامه ثم التجائه إلى مقر الحكم العثماني في صنعاء، لكنها في المقابل أحدثت نوعاً من الارتباك في صفوف قوات الإمام، وهو ما كان يؤمله حسن باشا -كما أشرنا آنفاً-.
ولم يكتف العثمانيون بمؤازرة ومساندة السادة والأمراء الزيديين -المعارضين- خلال معاركهم -الآنفة الذكر- ضد القوات الإمامية، بل عمدوا إلى الدفع بأبناء الطائفة الإسماعيلية -الباطنية- المتمركزين في حراز من بلاد الحيمة. وإقليم نجران، والمشهورين بعدائهم التقليدي للأئمة الزيديين للانخراط في صفوف القوات العثمانية في قتالها ضد الإمام.

وفي حقيقة الأمر فقد دل التقارب الذي حدث بين العثمانيين والإسماعيلية على حاجة كل منهما للآخر، وكما يقول مؤرخ معاصر فقد كان: "العثمانيون في حاجة إلى حليف قوي لتدعيم وجودها في اليمن، كما كان الإسماعيلون كذلك في حاجة إلى حليف قوي للانتقام من الإمام القاسم الذي لم يألوا جهداً خلال ثورته في محاربة هؤلاء كونهم مناصرين للأتراك. ووقف كغيره من الأئمة السابقين موقفاً حازماً في وجه الصوفية، وهي إحدى الفرق الباطنية، بل وتهكم بالمتصوفة من الزيدية، ودعا المسلمين إلى: "استباحة دمائهم وأموالهم".
ويبدو حسب مؤرخ محدث: "أن الحكم العثماني أتاح الفرصة لأن تنشط ممارسات بعض الطرق الصوفية في الشمال الجبلي، الأمر الذي رأى فيه البعض من علماء الزيدية تهديداً لمذهب آل البيت، خاصة مع خشيتهم أن تستميل كرامات المتصوفة عامة الزيديين بعيداً عن المذهب الروحي للسادة والمذهب الزيدي". وتجدر الإشارة إلى أن العثمانيين أملوا في جانب عام أن يعمل تبنيهم للطرق الصوفية على أكسابهم نفوذاً روحياً على رعايهم المسلمين.
وكيفما كان الأمر فقد ساندت طائفة الإسماعيلية القوات العثمانية في العديد من معاركها، وخاصة في منطقة مسار من بلاد حراز والتي استمرت الحرب فيها: "ما يقارب ثلاث سنوات وأربعة أشهر". وكان ذلك من بين العوامل الهامة التي شجعت القوات العثمانية على التوسع في أقاليم الشمال الجبلي.

وإزاء الانتصارات المتلاحقة للقوات الإمامية، بل وتهديدها لصنعاء نفسها مركز الحكم العثماني. فقد سارع حسن باشا بطلب النجدة من مصر واستانبول. وكان أن أرسلت السلطنة لحسم الموقف إلى واليها في مصر بتجهيز الإمدادات اللازمة لإرسالها على وجه السرعة إلى اليمن.
وفي خطوة أخرى أيضاً تم استدعاء علي باشا الجزائري أحد القادة العثمانيين -العسكريين- من الحبشة، وكان الجزائري على دراية بشؤون اليمن، كونه كان حاكماً لإقليم ريمة في بداية حكم حسن باشا وخاض بالتالي معه العديد من المعارك في جنوب وشمال البلاد -حينئذ- وعلى أية حال فقد كان استدعائه ضرورة ملحة أملتها الظروف نتيجة تشتت المجهود الحربي للقوات العثمانية، واضطراب أحوال البلاد.
وقد عزز الجزائري عند قدومه إلى اليمن -في رجب سنة 1007ه‍/1598م- القوات العثمانية بقوة عسكرية قوامها ألفان وخمسمائة جندي، وقد عينه حسن باشا حاكماً لإقليمي وصاب وريمة، اللذين كانا قد انظما إلى جانب الثورة، وفي حقيقة الأمر فقد خاض علي باشا عدداً من المعارك ضد القوات الإمامية استطاع خلالها -إعادة السيطرة على تلك المناطق المجاورة للإقليمين- المذكورين إلا أنه لقي مصرعه على أيدي قبائل بني الطليلي من بلاد ريمه خلال إحدى المعارك مع القوات الإمامية في 23صفر 1009ه‍/ 4 أغسطس 1160م.

لم يدم استقرار الإمام القاسم في السودة، فلقد أدرك خلال الأحداث -السابقة- أن الأمور لم تعد تسير كما ينبغي أن تكون حيث بدأ الأمراء الزيديون والعثمانيون يستعيدون قوتهم ثانية، ليبدأ التحول إلى مواجهة الحكم الإمامي الناشيء ورجاله، فلقد تمكن ابن شمس الدين من إضعاف هجمات القوات الإمامية التي تركزت على كوكبان في ما استطاع عبد الرحيم بن عبد الرحمن من السيطرة على حصن مبين من بلاد حجة من جانبها واصلت القوات العثمانية تقدمها إلى أكثر مناطق الشمال الجبلي، خاضت خلالها عشرين معركة مع القوات الإمامية، أدت في نهاية المطاف إلى إحكام السيطرة عليها.
وهكذا لم يمتد الوقت بحكم الإمام القاسم في السودة، فقد أرغم على مبارحتها في صفر 1008ه‍/ أواخر 1599م، على يد تألب واسع لقوى عثمانية وزيدية يقودها الكيخيا سنان، ولعل خروجه من السودة كان مؤشراً على: "البداية الفعلية لإخفاق محاولته المبكرة لإقامة حكم إمامي".
لكن ذلك لم يكن خاتمة المطاف لنفوذ إمامته في مرحلتها الأولى، فقد كانت شهارة -ذات الموقع الحصين، والجبال العالية والمناطق الوعرة- وهي أحد المعاقل الإمامية الهامة، تنضوي تحتها عدد من المناطق الخاضعة لسيطرته، ومنها استطاع أن يمارس مهامه من جديد.

إلا أنه لم تمض أشهر قليلة خلال العام 1008ه‍/1599م، حتى تهاوى المحيط الإمامي، خاصة بعد أن تم أسر عامر بن علي أكبر قادة الإمام العسكريين -عمه- في أواخر جمادى الآخرة سنة 1008ه‍/أكتوبر1599م، على يد الكيخيا سنان، والذي أمر بقتله: "وسلخ جلده". وقد مثّل ذلك نقطة الانحدار التي بعدها تلاشت الفرصة لنجاح الحكم الإمامي المبكر للإمام القاسم. وأخذ العثمانيون يشددون عليه الحصار، ويرسلون الحملات العديدة إلى شهارة، تساندهم قوات الأمراء الزيديين، والإسماعيليين المتعاونين معهم.
ونتيجة لطول الحصار، وقلة المؤن في شهارة، فقد رأى الإمام أنه لا جدوى من الاستمرار في المقاومة. لذا قرر الخروج من شهارة في (شوال 1010ه‍/مارس1602م). كما أكد ذلك المؤرخ الجرموزي على لسان الإمام نفسه: "كان خروجي من حصون شهارة .. لثلاث بقين من شوال سنة عشر وألف، بعد أن طال حطاط الأتراك .. وقل الناصر .. والشحنة".
ولم يكن أمام من بقي من أعوان الإمام في شهارة، حيال محاصرة العثمانيين الشديدة لها إلا تسليم أنفسهم ليصبحوا أسرى في قبضة حاكم كوكبان الأمير أحمد بن شمس الدين. وكان في مقدمة هؤلاء محمد بن الإمام القاسم -المؤيد فيما بعد-.
وهكذا عادت شهارة مرة أخرى معقلاً عثمانياً ومركزاً إدارياً يتبع أمير السودة الزيدي العثماني عبد الله بن المعافا.

اتجه الإمام بعد خروجه من شهارة إلى جبل برط في أواخر سنة 1010ه‍/1600م، ومثّل ذلك بالنسبة له نفياً اضطرارياً، هدفه الحفاظ على شخصه ودعوته إلى حين. وهناك -في برط- بنى مسجداً جعله مقر دعوته، حيث التف حوله: "كثير من أصحابه". من العلماء والفقهاء، وقصده مريدوه من كل أنحاء البلاد لتلقي تعليماته أو لتسليمه الأموال والنذور التي يتبرع بها أتباعه.
غير أن إقامته في برط لم تكن آمنة تماماً، وأن هجرته هذه لا تظهر لها جدوى ويبدو أنه صار قلقاً بالنسبة لمواصلة الاستقرار في معقله الجديد، حين شعر بتبرم أهله من إقامته بينهم خوفاً من بطش العثمانيين بهم إذا ما امتدت أيديهم إلى بلادهم، ويتضح الأمر كذلك حينما أرسل حاكم صعدة العثماني، بعض قواته إلى برط لمحاصرة الإمام والقبض عليه.
حينها قرر الإمام الذهاب إلى إقليم نجران بعد موالاة بعض أهلها، إلا أنه وبعد وصوله إلى هناك، حدثت معارك بين من رافقه من أتباعه وبين قبائل يام الإسماعيلية، فلم يستقر فيها: "لخبث أهله الذين أكثرهم من الباطنية". والمعروفين بعدائهم الدائم للأئمة الزيديين، فعاد مرة أخرى إلى جهات برط ليبقى فيها بعض الوقت بعيداً عن العثمانيين، حتى أتيحت له الفرصة لإعلان الحرب عليهم ثانية، كما سيتبين خلال المرحلة الثانية للثورة -في ما بعد-.

بات على الوالي حسن باشا بعد تحقيق تلك الانتصارات -السابقة الذكر- على القوات الإمامية، وتثبيت دعائم الحكم العثماني في أقاليم الشمال الجبلي، الدخول في مفاوضات لإبرام صلح مع الإمام بالرغم من إخفاق الأخير في مواصلة الثورة. ويبدو أن حسن باشا قد مال إلى ذلك حين رأى أن الضرورة تقتضي وضع حد لدعوة الإمام الذي ما زال يترقب الفرص لمعاودة المواجهة مع العثمانيين، خاصة وأن أمر رحيله عن ولاية اليمن أصبح وشيكاً عقب عزله وتعيين الكيخيا سنان بدلاً عنه في بداية العام 1013ه‍/1604م.

فوَّض حسن باشا أمير كوكبان أحمد بن محمد شمس الدين، أمر القيام بدور الوسيط لإتمام عقد الصلح مع الإمام. وقد وضع أمير كوكبان أهم البنود التي أرادها العثمانيون، والقاضية بأن يصرف الإمام النظر عن دعوته، مقابل منحه عفواً عثمانياً والإفراج عن ولديه محمد وأحمد الأسيرين في كوكبان، وأمامه لقبوله ذلك أحد أمرين: إما أن يتخذ وضع أحد كبار السادة العلماء دون القيام بأي أعمال من شأنها أن تؤدي إلى مناوشة أو مواجهة الحكم العثماني مقابل إعطائه راتباً مجزياً. أو أن يصير أحد الأمراء الزيديين العثمانيين ويكون له سنجقاً وإقطاعا، ولقد بادر الإمام إلى المهادنة السياسية، وأن يسلم بالوجود العثماني في البلاد إلى أجل مفتوح، إلا أنه قد أكد في معرض رده لطلب الصلح على أمرين هامين، أولهما: أنه ما زال يتمتع بمكانته الروحية رغم خسارته لسلطته السياسية. وثانيهما: إنه لم يصل بعد إلى حالة من الضعف كما يتصورها الآخرون، حيث بإمكانه أن يفاوض وأن يضع شروطاً كذلك ويتضح أن الإمام قد وقف من بنود الصلح، موقفاً اتسم بالرفض التام يتجلى ذلك من خلال رفضه لأهم بنوده وهو التخلي عن دعوته حيث أشار إلى أحقية أهل البيت بالحكم وفضله على سائر الناس وهو بالتالي أمر لا تفاوض فيه.

6 / 109
ع
En
A+
A-