دور القوى الوطنية في إرساء دعائم ثورة الإمام القاسم وتوسيع نفوذه
استطاع الإمام القاسم من خلال رسائله -السابقة الذكر- أن يضمن شيئاً من التأييد القبلي لدعوته، حيث وجدت استجابة كبيرة من قبل الأهالي الذين رأوا فيها تعبيراً عن تذمرهم من سياسة العثمانيين وسوء تصرفاتهم.
ولا غرابة أن تعتبر دعوة الإمام -حينذاك- بمثابة ثورة ضد الحكم العثماني وأن هذه الثورة كانت ذات مضمون اجتماعي لأنها كما يقول الدكتور سيد مصطفى سالم: "كانت تحارب فساد الحكم العثماني وتطالب برفع الظلم عن اليمنيين".
ولقد كان استجابة القبائل لهذه الثورة، أسرع من وصول الجيوش العثمانية إلى تلك المناطق. ويبدو أن العديد من السادة والفقهاء الزيديين كانوا مهيئين لتأييد ما حدث، بل وكما يقول مؤرخ محدث قد: "سارع البعض منهم إلى الالتحاق بمركز الدعوة".
واصل الإمام القاسم توسيع نطاق دعوته، من خلال تحريضه لمشائخ تلك القبائل على مناصرته، رغم المحاولات التي قام بها حسن باشا -الوالي- لإسكات صوت معارضيه.
ولم يمض سوى قليل من الوقت حتى توالت انتفاضات أقاليم المناطق الشمالية، بل وامتدت شرارة الثورة ضد الحكم العثماني إلى غالب أرجاء اليمن.

ولم يكتف الإمام ببعث رسائله أو بعوثه، بل قام بتحركات أحيطت بالسرية التامة إلى عدد من المناطق الشمالية، كجبل شاطب، وهجرة حوث وحيدان، أدت بالتالي إلى استجابة قبائل تلك المناطق للدعوة، وأعلنت ولائها للإمام، "وأشعلت النار في قمم جبالها" إعلاناً بتأييدها للثورة. كما سارعت قبائل الأهنوم والشرف -والتي شكلت العمق الاستراتيجي لدعوة الإمام- في أول ربيع الآخر 1006ه‍/9يناير 1598م، للانضواء تحت راية الثورة، إضافة إلى قبائل ظليمة وعذر.
وفي هذه الأثناء كانت قبائل الحيمة هي الأخرى قد أعلنت ولائها: "وجعلوا الحل والعقد إلى عم الإمام"، عامر بن علي.
أما قبائل بلاد لاعة جميعها ومسور والمغارب، فقد أمدت الإمام بالأموال والرجال لشد عضد الثورة، حتى أن الجنود الذين التحقوا بمركز الدعوة، كما يقول الجرموزي: "قد تكاثرت لديه والأمور الإمامية على يديه في تلك النواحي انتشرت" وقد وجد الإمام أيضاً ترحيباً بدعوته من قبائل حاشد وبكيل، أكبر القبائل اليمنية.
ولقد خاضت تلك القبائل معارك ضارية ضد القوات العثمانية كانت الغلبة إلى جانبها، رغم عدم امتلاكها إلا القليل النادر من الأسلحة النارية -نتيجة أن الولاة العثمانيين كانوا يجمعون الأسلحة من الأهالي لإضعاف قدرتهم على الثورة- إلا أنها -القبائل- استطاعت أن تعوض عملية نقص الأسلحة عقب قيام الحرب بينها وبين القوات العثمانية، وذلك من خلال استيلائها على ما بأيدي العثمانيين منها.

ولم يمض النصف الأول من سنة 1006ه‍/1597م، إلا وقد أصبح الإمام القاسم صاحب الأمر في شهارة، التي تدافع إليها العديد من: "الوفود من كل ناحية، وكثر الناس لديه كثرة عظيمة". وهكذا فلم يعد أمر الإمام ودعوته خافياً على أحد، وكما يقول المؤرخ الشرفي فقد: "شاع ذكره، وارتفع صيته من مكة إلى عدن، إلى غيرهما، وقصده أهل الأطراف والآفاق ما بين متوقد ومتعرف على حاله، وداخل في ولايته".
دفع الإمام القاسم بكبار مؤيديه الذين أسندت إليهم قيادة الانتفاضات في المناطق الشمالية، وكان هؤلاء قد قاموا بأدوار أساسية أثناء الإعداد للدعوة، وكذلك في مناصرتها ومد نطاق تأثيرها. إلى حث الأهالي للإنضواء تحت راية الثورة ضد الحكم العثماني. ولقد عمد في محاولة لتوطيد دعائم حكمه إلى تولية هؤلاء على المناطق التي افتتحها وانتزعها من أيدي العثمانيين، حيث ولّى -على سبيل المثال- على الأهنوم وعذر عبد الله بن محمد بن علي المحرابي، فيما أوكل إلى إبراهيم بن المهدي بن جحاف بلاد شظب وظليمة، وأسند إلى الحسن بن شرف الدين الحمزي بلاد ثلا، أما بلاد الحيمة فقد ولاها عمه عامر بن علي.
ولم يكن أمر الثورة منحصراً على القوى الزيدية لوحدها، فقد استعرت حمى الثورة، كذلك في أقاليم شافعية المذهب -كما أشرنا في الفصل الأول- مثل الحجرية، ويافع، ريمة ووصاب وعتمة. وقد اتصل ممثل الدعوة الإمامية بوسط البلاد، القاضي يوسف الحماطي، ببعض القوى في جنوب الولاية لحثها على تصعيد الكفاح ضد العثمانيين. وغالباً فقد ساندت تلك الانتفاضات ثورة الإمام القاسم في مرحلتها الأولى.

انتقل الإمام بعد أن صار يسيطر على أهم المناطق الواقعة بين صعدة وصنعاء إلى السودة، والتي سقطت في يده في شهر صفر 1007ه‍/1598م واتخذها مركزاً لحكمه. ولقد جاء اختياره للسودة نظراً لموقعها الآمن -وقتئذ- كونها على ذروة جبل مما يجعلها شديدة التحصن، إضافة إلى أنها غير بعيدة عن إقليم الحيمة حيث قاعدة أكبر قادته -آنذاك- وهو عامر بن علي. والتي تعد أيضاً مركزاً هاماً للإمدادات في حال مهاجمة القوات العثمانية لمركز حكمه.
وخلال بقائه في السودة عمد -الإمام- إلى مما رسة مهامه التنفيذية والقضائية، وقد أراد بذلك حسب مؤرخ محدث: "أن يسبغ على نفسه السمات التقليدية للإمام الزيدي الحاكم". حيث شرع في متابعة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرته، وإلى حث ولاته على جباية الزكاة، وإنفاذ الأحكام الشرعية وتهيئة المقاتلين، وإعدادهم لمحاربة القوات العثمانية. كما أنشأ إدارة مالية (بيت مال)، تتولى جمع الضرائب من المناطق الواقعة تحت سيطرته. بالإضافة إلى تجهيز وإرسال قواته إلى عدد من المناطق التي لم تنضو بعد تحت راية الثورة لانتزاعها من أيدي العثمانيين، وضمها إلى دائرة حكمه.
ولاستكمال مظاهر الحكم أصدر عملة فضية: "كانت نصف درهم". تداولها الناس، وأدت بالتالي إلى تثبيت جانبه الاقتصادي.

موقف العثمانيين والقوى اليمنية المعارضة للدعوة
وجدت دعوة الإمام القاسم وثورته ضد العثمانيين استجابة من قبل العديد من القوى اليمنية سواء منها الزيدية أو الشافعية، ولا شك أن ذلك يرجع إلى التذمر العام الذي ساد اليمن في تلك الفترة. في ما واجهت هذه الثورة قوى أخرى -شاركت في رسم الخارطة السياسية لليمن حينذاك- حاولت إخمادها وقمعها في مهدها الأول.
يأتي في مقدمة هذه القوى العثمانيون أنفسهم، والذين رأوا في الثورة بمثابة انتزاع السلطة من أيديهم، وفي حقيقة الأمر كانوا قد شعروا بخطورته قبل ظهور إمامته، وبدأوا بملاحقته للقبض عليه. بينما مثلت القوى الثانية، بقايا الأمراء الزيديين من أسرة الإمام شرف الدين، إضافة إلى أصحاب النفوذ والعلماء من أهالي الأقاليم الجنوبية، والذين انضموا صراحة إلى جانب العثمانيين لارتباط مصالحهم بوجود هؤلاء -العثمانيين- وبقوة سيطرتهم.
أما القوى الثالثة فقد كانوا أتباع المذهب الإسماعيلي، والمتمركزين أساساً في بعض جبال حراز إلى الغرب من صنعاء، وفي نجران بأقصى شمال اليمن، وكان هؤلاء يمثلون -حينئذ- أقلية شيعية، كما كانوا على عداء دائم مع الزيديين.

ولقد اتضح التعاون بين العثمانيين وبين حلفائهم من اليمنيين عند ظهور دعوة الإمام القاسم، حيث حمل بقايا أبناء المطهر العبء الأكبر في محاربة الإمام ومحاولة القضاء على دعوته. ويأتي في مقدمة هؤلاء عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن المطهر حاكم حجة وأقاليمها الذي كان أول من حارب الإمام، بل وأول من سارع إلى إبلاغ الوالي حسن باشا بقيام الدعوة الإمامية، وطالب بإشعال: "سعير الحرب ضد الإمام". وهذه البداية من جانب عبد الرحيم هي التي أشعلت فتيل الحرب ضد القوات الإمامية. ودفعت بالتالي حسن باشا إلى التحرك السريع، واتخاذ الاستعدادات اللازمة للقضاء على هذه الدعوة في مهدها.
ولم يكن باقي الأمراء الزيديين -المعارضين- من أسرة آل شرف الدين بمنأى عن الأحداث، فلقد سارعوا بدورهم إلى الانظمام إلى التحالف -الآنف الذكر- مثل مطهر بن الشويع، وعلي بن المطهر بن الشويع، وأخوه عبد الله، ومحمد بن شمس الدين حاكم كوكبان، وعبد الله بن المعافا حاكم السودة، وحسب الدكتور سيد مصطفى سالم فقد قام هذا التحالف: "على أساسين رسمي وواقعي فمن الناحية الرسمية كان هؤلاء الأمراء بمثابة عمال عثمانيين لانخراطهم في خدمة سلطة الحكم العثماني في اليمن، أما من الناحية الواقعية، فقد كانت وحدة المصلحة التي تربط بين عناصر الطبقة الحاكمة، هي التي تدعم أواصر هذا التحالف وتبقي عليه".

وكان الإمام في حقيقة الأمر قد شعر بمدى خطورة هذا التحالف، ودعا إلى مقاومته، حين أشار في إحدى خطاباته، التي وجهها لليمنيين: "وبعد فإن الله قد أوجب عليكم قتل هؤلاء الأتراك، وأعوانهم من العرب على أية حال ولو خلية في الطرقات والمساجد".
بدأ حسن باشا يركز اهتمامه على الحيلولة دون تحقيق الثورة القائمة إلى زعزعة الحكم العثماني في اليمن. حيث دفع بقواته، إضافة إلى قوات المتعاونين معه من الأمراء الزيديين إلى جبل قارة، لمحاصرة قوات الإمام هناك.
ولم يكتف بذلك بل عمد إلى إرسال بعض الأمراء الزيديين إلى المناطق ذات العمق الاستراتيجي، من ناحية موقعها وبعدها عن مركز الحكم، قد تكون بالتالي ملاذاً آمناً يلجأ إليها الإمام للتحصن بها. إضافة إلى أنه أراد بذلك بسط السيطرة العثمانية في تلك المناطق، التي لم تصلها أيدي قواته بعد. ولهذا الغرض فقد وجه علي بن المطهر بن الشويع إلى بلاد الظاهر، وتم تجهيز الأمير عبد الله بن المعافا لمحاصرة المناطق المحيطة بالأهنوم، في ما أرسل الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن: "وجميع من في الجهات الشرقية من عسكر". الأتراك لمواجهة قوات الإمام في قارة.
أما حاكم كوكبان الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين، فقد توجه في لفيف من قواته لمساندة القوات العثمانية في منطقة حضور. ولم يغب عن بال حسن باشا بإجراءاته تلك أن الإمام القاسم قد بقي في مناطق صعبة المنال، بينما الثورة تنشر الخطر والاضطراب في أكثر الأرجاء.

ولمزيد من إحكام السيطرة والحصار ضد القوات الإمامية في منطقة الحيمة وهي المعقل الاستراتيجي الهام لأكبر قواد الإمام ومنفذ خططه العسكرية عامر بن علي وتشكل من الناحية البشرية قوة ضاربة بيد الإمام، ومن ناحية أخرى كانت المصدر الريئس للتموين الغذائي لتلك القوات. فقد تم إرسال الكيخيا سنان على رأس قوة عسكرية كبيرة لتنفيذ ما أشرنا إليه آنفاً. وكان قبلها قد عمد حسن باشا إلى الاستيلاء على حصن ثلا الاستراتيجي الموقع لأهميته العسكرية والأمنية، لتأمين مؤخرة جيشه خلال توجهه إلى محاصرة الحيمة.
وإزاء تلك الإجراءات العسكرية، والحصار الشديد من قبل القوات العثمانية وانتشارها في غالب المناطق الشمالية، ارتفع الإمام إلى منطقة برط المنيعة والبعيدة المنال على أيدي العثمانيين، إلا أنه وخلال بقائه هناك قرابة الشهرين فقد قام القائد العسكري العثماني في صعدة قُرَّأ جمعه، بعدة محاولات كان الهدف منها الإيقاع به، لكنها باءت بالفشل أمام المساندة القوية لقبائل برط للإمام.
وأمام الحصار الشديد وعمليات البطش والتنكيل التي ترتكبها القوات العثمانية ضد الأهالي في مناطق الشمال الجبلي، أصدر الإمام تعليماته بفتح جبهة جديدة لمناوشة العثمانيين، دارت أحداثها هذه المرة وسط البلاد، وتحديداً بلاد ذمار والمناطق المجاورة لها. وقد توخى الإمام بذلك صرف النظر ولو بعض الوقت لترفع تلك القوات يدها عن المناطق المحاصرة في الشمال الجبلي، وليتسنى له أيضاً من إعادة انتشار قواته من جديد هناك.

وفي حقيقة الأمر فقد استطاع الحماطي، أحد كبار قواد الإمام فتح تلك الجبهة، حينما توجه في جمادى الأول سنة 1006ه‍/1597م إلى منطقة آنس ومنها إلى بلاد ذمار، وعقد سلسلة من اللقاءات مع عدد من مشائخ القبائل في مناطق رداع، الرصاص، يافع، ونقيل سمارة، أوضح لهم خلالها مبررات قيام الدعوة الإمامية واندلاع الثورة في أقاليم الشمال الجبلي، كانت أن أدت إلى تكوين حلف من القبائل الآنفة الذكر، انضوى تحت راية الثورة، وأصبح مصدر إزعاج وقلق للسلطة ولم يكن أمام حسن باشا إزاء التطورات الخطيرة والمتسارعة تلك إلا أن استدعى غالب قواته من المناطق الشمالية بقيادة الكيخيا سنان وأرسلها على وجه السرعة إلى ذمار لمواجهة القوات الإمامية وحلفائها الجدد هناك. خاصة وأن الحماطي قد قطع الطريق من ذمار إلى صنعاء: "ومنع العابر والمار" إليها.
وكان من الأهمية بمكان بالنسبة للعثمانيين إرسال تلك القوات لمنع توسيع رقعة التأييد والموالاة للإمام في المناطق السابقة الذكر، وكذلك خوفاً من قطع الإمدادات العسكرية والبشرية القادمة من السلطنة إلى السواحل اليمنية والتي تصل بالتالي إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء عن طريق تعز ذمار.

ولعل ما كان يخشاه حسن باشا في امتداد رقعة الثورة إلى وسط وجنوب البلاد، كان قد جسد على أرض الواقع، حين طالت الاضطرابات مناطق ريمة ووصاب وعتمة -المحاذية لذمار- وكذلك ثورة الأهالي في يافع في رمضان سنة (1006ه‍/1598م)، ضد العامل العثماني هناك. ولم تكن منطقة الحجرية -الواقعة جنوب البلاد- بمنأى عن الأحداث فقد تمرد شيخها علي الشرجبي في نفس المدة ضد العثمانيين -كما أشرنا في الفصل الأول- ولقد أدت تلك التمردات إلى إحداث إرباك في صفوف القوات العثمانية، وتشتت مجهودها الحربي.
وفي حقيقة الأمر فقد أدت الخطة العسكرية -الآنفة الذكر- التي عمد إليها الإمام القاسم إلى نتائج إيجابية على الصعيد العسكري، حيث استعادت القوات الإمامية سيطرتها من جديد على العديد من المعاقل والمناطق الشمالية، التي باتت تحت السيطرة العثمانية، في الفترة ما بين جمادى الآخرة 1006ه‍/1597م وبداية العام 1007ه‍/1598م.
وقد أجبرت انتصارات الإمام القاسم المتسارعة، بعض الأمراء الزيديين الموالين للعثمانيين، على موالاة الإمام، والدخول في طاعته، يأتي في مقدمة هؤلاء، عبد الرحيم بن عبد الرحمن، وعبد الله بن المعافا، في ما تحصن البعض الآخر في قلاعه القليلة المتبقية في أيديهم وخاصة حصن كوكبان والطويلة. وبقي هؤلاء على ولائهم للعثمانيين طوال امتداد قوة الإمام وسيطرته، ثم بدأ هذا الولاء يتأكد بشكل جلي عندما انحسرت هذه السيطرة.

5 / 109
ع
En
A+
A-