قال السيد أحمد نفع الله به: وكادت طريق اليمن تنقطع إلى صنعاء وذلك أنه أجمع على حرب الأتراك أكثر أهل تلك الجهات كنهم وخولان وبني مطر وأكثر قبائل الحدا وقائفة وأهل المغرب كآنس ومن والاهم، ونفذت أوامر الإمام عليه السلام في أكثر بلاد الأتراك التي بقيت تحت أيديهم كبلاد سنحان والرحبة وغيرها ، فإن الحاج الأفضل سيف الله على أعدائه شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي وهو الذي كان متولياً تلك الجهات كانت أوامره تنفذ في هذه الجهة المذكورة من بلاد الترك بما شاء وكيف شاء؛ لأنه حمى الله مهجته لما كان ظهر له من الإقدام في المواطن والصبر عند لقاء العدو [ق/145]، وما منحه الله من النصر ورزقه من الهمة التي تناطح الفرقدين، والعزم الذي لا يثلم حده أوقع الله له في قلوب الأعداء هيبة أخذت بمجامع أفئدتهم لمثلته بهم في كل مواطنهم حتى لم يكونوا يذكرون غيره، ولقد كان يحكى أنه يطلب ما شاء وكيف شاء من بعض أعيان الأتراك فلا يقدرون على الامتناع مما يطلب، وكانت مطلبته مقدمة على مطالب الأتراك وربما اجتمع عسكره وعسكر الأتراك في القرية الواحدة لسياقة المطالب وقد يجمع بينهم بعض أهل البلاد ويضيفهم جميعاً، وكان أمراء الترك قد عذروا الرعية مما يفعلون لأنهم لا يستطيعون الدفع عنهم فإنه أبقى الله عزته كثير الغزو عظيم الهمة، بعيد المرمى، شديد البطش بمن خرج عن الطاعة، ومع ذلك فهو على أحسن سيرة وأبر عمل من ورع كامل ومراعاة لأمور الشريعة وقيام بالواجبات، ومواظبة على سنن الشريعة، ويحرز عما لا ينبغي فهو أعلى الله شأنه يعد من أهل الزهد، ومن عرفه علم هذا الذي ذكرنا يقيناً فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خيراً فلقد نصر الإسلام حق نصره، وأشجى قلوب الأعداء فكم له من موطن في الجهاد تشهد له السيوف فيها أنه الذي أعطاها حقها، وأهداها من أعناق الإسلام إلى واضح طرقها. انتهى.

[ملاحقة أهل الحدا]
وبعد هذه الوقعة جمع الحاج شمس الدين جموعاً وقصد الحدا، وهم الشيخ زيد ومن إليه إلى زراجة فأخذها وفروا، ثم إنه لحقهم إلى موضع يسمى قاع الصهيد ولم يجدوا منه محيصاً، وكانوا فوق ألف بيت كما أخبرني غير واحد، منهم الوالد رحمه الله، فوصل إليه الشيخ صوال المشخر النصيري الحداي بفرس عظيمة، فلما توسط بها المحطة المنصورة بالله عقرها وترامى عليها وصاح بالأمان، وطلب الرفاقة، فأقبلت الأعيان إلى الحاج شمس الدين رحمه الله يعولون عليه بالقبول فأمنهم بشرط وصول مشائخهم وكبارهم إليه، وعاد الشيخ صوال فلما دنا الليل وسترهم نكثوا وفروا بأنفسهم واستجاروا بقيفة وغيرهم، وكان ذلك خديعة منهم قاتلهم الله.

[محاصرة ذمار]
ثم إنه اجتمع الحاج شمس الدين ومشائخ قائفة وأصحاب مولانا عليه السلام وقصدوا ذمار لفتحها، وفيها أمير من العجم يسمى إبراهيم ذرة ورتبة خيلاً ورجلاً فاجتمعوا إلى نواحي جبل اسبيل، وكان جموع الجميع ما يقرب من ثمانية آلاف أو أكثر، فالحاج وأهل القبلة وخولان والحدا والقاضي علي [ق/146] بن يوسف الحماطي ومن إليه، والشيخ ناصربن راجح ومن إليه من المغارب، ووصل الأمير الحسين بن أحمد وصنوه مقبل بن أحمد القائفي بقائفة للمشورة، فأخبرني الفقيه الصالح عبد الله بن الحاج الشهيد راشد بن محمد أنه شاهد ذلك الجمع وأن مشائخ قائفة لم يدخلوا الملم بل تقدم الشيخ مقبل فقط حتى توسط المجلس فتكلم الحاج شمس الدين وحرضهم على الجهاد، وطلب رأيهم في ترتيب حصار المدينة، قال: فتكلم الشيخ مقبل بكلام حسن فيه عرب وصحة عقيدة بأن قال: يا حاج ما لنا تدبير غير تدبيرك ولا رأي غير رأيك، فإنك وكيل الإمام وقد بايعت الإمام وعرفته أما نحن فتابعون، قال: فتكلم الحاج شمس الدين رحمة الله عليه وقال: قائفة ومن إليهم من جهة عدن وخولان والحدا من جهة المشرق، وأنا وأهل القبلة من جهة القبلة، والحماطي وابن راجح وأهل المغرب من جهة المغرب أو كما قال، ونترك ما بيننا وبين المدينة قدر مبلغ البندق، قال: فلما وصل الحاج رحمه الله إلى هذا القول وإذا بالصائح يقول: قد دخلت المدينة، وقد صار بنو فلان في موضع كذا من المدينة، فحمل الناس على غير تعبئة فدافعهم العجم خيلاً ورجلاً وأهل المدينة، وقتل من الفريقين جماعة ومن جنود الحق أكثر لكثرتهم، منهم الحاج الصالح العابد

راشد بن محمد والد الفقيه المذكور وغيره حتى هزموا العجم وجنودهم إلى الدور من داخل المدينة ودنا الليل فافترق الناس ولم يتمكنوا من استئصال المدينة، ولما انتثر نظام التدبير وتفرق الناس رجع كل من الجنود الإمامية إلى جهاتها إلا قائفة فإنهم دخلوا أسفل المدينة ولزموا بيوتاً، وقال الأمير حسين وصنوه مقبل لا بد لنا من المساء فيها والعشاء والغدا من أهل المدينة، فلما أصبحوا وطلعت الشمس خرجوا على تعبئة حسنة، ولهم حماية ومرافعهم تضرب وراياتهم منشورة ولم يلحقهم من العجم شر، بل قنعوا منهم بتركهم، ثم عاد الحاج جهة المشرق الأعلى وقائفة رجعوا بلادهم وقد يغلبون على طريق اليمن الأسفل ويقطعونها، وقد يغلبهم العجم عليها، وفيما بين ذلك قضايا هائلة وأمور مهيلة في المشرق، منها أنه بلغ الحاج شمس الدين أن الحدا أصبحوا عسكراً من العجم من [ق/147] ذمار يريدون صنعاء خيلاً ورجلاً فقصدهم فمنحه الله النصر وقتل منهم زهاء خمسين رجلاً وهزمهم ،وكان سبب ذلك خروج الواعظ ووقعة أسناف (كما تقدم) .

وقال السيد أحمد نفع الله به: أنه وصل إلى زراجة فندي من الأتراك في جماعة وثمانية أفراس فقصده الحاج شمس الدين وتحصن في بلده ونقبوا جدارات البلد ودخلوا وغنموا ما فيها وقتلوا ثمانية وعشرين رجلاً، وأسروا ثمانية عشر رجلاً وأرسلهم إلى الإمام فحبسهم في شهارة المحروسة، وكان سنان لعنه الله في القبتين في القرب منهم فأغار ولم يدرك شيئاً وخلفه الحاج إلى موضع قريب من محطته الأولى، وطمع بلداً كبيرة وأنعمها ونحو ثلاثمائة زبدي طعاماً، هذا معنى ما ذكره السيد أحمد نفع الله به.
قال الوالد رحمه الله تعالى: إن البلد التي قريب القبتين مقولة وأنه مع الحاج فيها ووصف كثرة الغنيمة في يوم زراجة ومن أهلها غار الباشا علي من الحبشة مدداً للوزير حسن إلى صنعاء واليمن.

[أخبار الباشا علي]
أخبرني الشيخ ناصر بن داود الصمدي العتمي، وكذلك القاضي الأجل سيف الدين بن عبد الغفار البحري وغيرهما عن حي الفقيه جمال الدين علي بن عبد الوهاب السمحي رحمه الله أن هذا الباشا كان والده خواجاً كبيراً كثير المال عظيم الحال عند الملوك في الروم، وأنه أقرض الوزير حسن لما خرج متولياًمن سلطان الروم المسمى مراد بن سليم بن سليمان مالاً كثيراً فأوجب خروجه إلى اليمن، ثم استقر في ذي جبلة وتربى ولده هذا الباشا علي فيها، ثم لما مات والده حفظ منزلته وماله فطمع في الرئاسة فسامح الوزير بنشئ من المال وشرط على نفسه فتح بلاد ريمة الأشابط وريمة الريمي وما إليها، وكانت متغلبة مانعة حصونها لم تفتح حصونها بعد ولاية أولاد الإمام الأعظم المتوكل على الله أمير المؤمنين شرف الدين عليه السلام، وكانت في ولاية ولده الفاضل الكامل شمس الدين رحمه الله تعالى فاتفق في خلال ذلك أنه كان في بلاد وصاب في موضع منه يسمى عمد أمير للعجم يسمى فلان شاوش باشي والياً عليه من جهة الوزير حسن فاسترسل في المعاصي [ق/148] التي تنزه الطروس عن ذكرها، ولا بد من ذكر شيء من أحوال العجم المذكورين في فصل من هذا المختصر إن شاء الله تعالى حتى سام من بعض كبرائهم بناتهم وأمثال ذلك وعرفوا أنه لا ينفعهم من ولاة فإنما هو كما قيل الحجاج بعض حسنات عبد الملك بن مروان لعنهما الله، فبيتوه ليلة وجمعوا عليه جميع العشائر ومخاليف وصاب وقتلوه بعد حرب شديد ودفاع لا عليه مزيد، ثم انتهبوا المحطة ورفقوا من بقي وأتموا على الخلاف فخرج عليهم هذا الخوجا علي بجموع ما رأوا

أمثالها في المغارب فامتنع عليهم أهل وصاب وحفظوا بلادهم نحواً من أربعة أشهر ثم دخلوها عنوة فقتلوا أهلها وأمنوا الباقين، وعذروا بمن لهم عليه ظغائن يقال أن الذي قتل منهم الخوجا بعد الأمان فوق ثلاثمائة رجل أكثرهم صبراً، وكان يرى في السوق الرؤوس معلقة على الشجر ثم حالف تلك الأيام بني الضبيبي من ريمة ودلوه على عورات ريمة وشرط لهم الجبرية وولاية الحصون فيها، ووفى لهم هو ومن بعده من العجم بما شرط وفتح ريمة بعد حروب نحو أربع سنين، فغلظ جنده وعظم جانبه وسموه أميراً سنجقاً، وصار من ملوكهم ثم كثر ماله حتى لقد روي أنه رأى طعاماً مجموعاً ورأى من الناس استكثاره فعجب وقال إن الفلفل من تجارته أكثر منه، وروى من شاهد ملكه أنه رأى أحمال الإبر حق الخياطة ما يستقل بها قوافل فخافه الوزير حسن بعدها وعظم عليه وخافوا أن يتغلب على المغارب وربما يسري إلى النادر فأعطوه اسم الباشا على وولوه صعدة وبلادها إلى جازان ثم الشرفين وما إليها وإلى بلاد عفار وشظب وتلك الجهات، فعظم أمره فخافوه أيضاً، فكتب الباشا حسن [إلى] سلطان الروم في شأنه وأنه يوليه الحبشة يستكفون شره ويخرجونه من اليمن مخرجاً جميلاً، فلما استقر في الحبشة وحصل معهم الخلاف في اليمن استدعوه مدداً لهم وكاتبوهم الوصول إليهم إلى السلطان وإلى مصر، فوصل اليمن واستعاده واستولى على مدائنه فلما طلع إلى ذمار بعد أن استفتح الحجرية وغيرها من بلاد المعافر وولى عليها، ثم غزا من ذمار مشرقاً ومغرباً وعمَّر قصرها المعروف وأخذ الرهائن من غرب اليمن ومشارقه، وعظم جانبه، ثم طلع إلى جهات صنعاء

[ق/149] فلقيه الحاج المجاهد شمس الدين بأهل المشارق وأحربوه في حرمان من أعمال بلاد سنحان حرباً هائلة انجلى على رجوع جنود الحق جهات المشرق، ومن تفصيل هذه الجملة لما وصل علي باشا حرمان أحربه الشيخ المجاهد فخر الدين عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله، ثم وصل الحاج الفاضل سيف الإسلام أحمد بن عواض اليوم الثاني في جموع خولان فأحربوه وقت الظهر إلى الربع الأول من الليل ولم يقتل من المجاهدين إلا رجل واحد وقتل من أصحابه جماعة، ثم تأخر الحاج شمس الدين إلى مسور وجعل أعلاه رتبة مع الفقيه الفاضل صلاح بن مسعود الشدادي ثم قصدهم علي باشا وقتل من أصحاب علي باشا خيلاً ورجلاً، وعاد العجم قبل وصول غارة الحاج سيف الإسلام، ثم انتقل علي باشا إلى مقولة ثم إلى نجد الشيرزة ثم إلى قاع عتمة عند الجعيرا، والحاج حينئذٍ في قروى فتقدم سنان لعنه الله إلى رجام إلى قاع الصلة ولم يزل الحرب بين علي باشا وبين الأمير سنان والحاج أحمد وخولان ،ثم إن سنان بذل المال لطلوع جبل اللوز فيروى أنه أعطى رجلاً يسمى علي بن رياش قدح ذهب أحمر وطلع الجبل، ولما طلع الجبل تفرق جمع خولان وصار الحاج شمس الإسلام رحمه الله إلى بدبدة وجهاتها وكان ما سيأتي إن شاء الله قريباً، هذه رواية السيد أحمد رحمه الله.

رجعنا إلى تمام الرواية الأولى ثم تكاسل الناس وعظم عليهم الأمر وعجزوا عن مقاومته ثم إنه خرج طريق ملاحا من خولان وبني شداد بجموع لا تنحصر وخرج سنان وزير الوزير حسن لا رحمهما الله تعالى، فواجه من خولان بنو شداد ومن إليهم إلى الباشا علي، وبنو سحام ومن إليهم إلى الباشا سنان لا رحمه الله، وطلع سنان وادي عاشر من أسفله إلى أعلاه وهو مكان ضيق لا يعلم أن قد دخله ملك وقد بذل العطاء الواسع لبني سحام.
أخبرني الشيخ العالم الفاضل شمس الدين أحمد بن قاسم الخولاني أنه كان له فرس وكان أخفاه بعض أصدقائه من بني سحام فهو في جانب وفرسه أدخلوه شعباً في جانب الوادي فراحت روائح الخيل فصهلت فسمعها العجم وسمعها الباشا سنان لا رحمه الله فأظهروا أنما رأووا ولا سمعوا من الخوف فلا زالا حتى اتفقا في سوق الحضارم مكاناً يجمع خولان العالية، ووصلهم جميع خولان، والحاج شمس الدين رحمة [ق/150] الله عليه انفرد وتفرق أصحابه عنه وعاد جهات القبلة، وله ولأصحابه في خلالها قضايا وشدائد ومن عنده من عيون العلماء، وقبضت الرهائن من خولان وأدخلوها إلى صنعاء.

[صفات الأتراك]
فصل: نذكر فيه بعض صفات الترك المذكورين في أخبار الإمام عليه السلام فالقليل يدل على الكثير، وضوء البارق يشير إلى السحب المطير، فأما أصول نسبتهم فمعروفة وأكثرهم من سبي النصارى على اختلاف طبقاتهم، فمنهم ملوكهم وولاتهم غالبهم من ذلك السبي، ولقد روي عن كثير من ملوكهم: أن الذين يولونهم الأقطار مثل مصر، واليمن، والعراق، والشام وغيرها يفتخر بأنه قد يحلق لحيته في خدمة السلطان، كذا سنيناً، ثم من بعدهم من طبقاتهم على هذا من أمير، ووزير، وكاتب أو أقل من ذلك لا يستخدم غالباً إلا بمن لا لحية له فيحلقون لحاهم ما داموا في الخدمة فإذا أذن له المخدوم بترك اللحية من الحلق فعل وليمة، وهذا مشهور من حالهم كظهورهم، فلا يقال: هل لا كان لذلك سند كغيرها من خسيس أحوالهم المشار إليها في هذا الفصل.
وأما دخولهم في الإسلام فيناظرون عليه وينصرونه، ويتطهرون به، ويفتخرون بأنهم من خدمة المجاهدين فيه، وعقائدهم على الجبر، والتشبيه، والتصورات الباطلة، فهم جبرية مع الجبرية، ومرجئة مع المرجئة، وصوفية مع الصوفية، هذا حال الديانين منهم.

47 / 109
ع
En
A+
A-