ولعل الفترة الزمنية -الآنفة الذكر- قد ساعدت إلى حد كبير في تكوين ملامح وشخصية الإمام القاسم بن محمد، فهو ومنذ نعومة أظافره شهد واقعاً مريراً ومرحلة كفاح ضد الحكم العثماني، بل إن والده نفسه كان أحد عناصر المقاومة في جيش المطهر بن الإمام شرف الدين، وخاض معه حروباً كثيرة ضد القوات العثمانية.
في ما هيأت التغيرات الكبيرة التي شهدتها المناطق الشمالية خلال فترة حسن باشا (1580-1604م)، للإمام القاسم، كما يؤكد مؤرخ محدث: “ظرفاً محلياً مناسباً ليصبح بعد أمد طويل إماماً ذا تأثير"، وليكون من أهم الشخصيات اليمنية التي لعبت دوراً كبيراً في تاريخ اليمن الحديث -حينذاك- عند بداية القرن السابع عشر الميلادي.
مكث الإمام القاسم بن محمد سنوات عدة متفرغاً لطلب العلم، تنقل خلالها بين أبرز مراكز الهجر وتَلَقى العلم، في صعدة وحوث والرجم وكوكبان والحيمة وصنعاء، إضافة إلى الأهنوم، والتي بقي فيها فترة لا بأس بها، ولم يغادرها إلا عندما أسرت قوات حسن باشا الإمام الحسن بن داود سنة (993ه‍/1586م)، ولقد مثلت فترة بقائه في الأهنوم نقطة هامة في مسار تكوين شخصيته وتوجهاته الدينية والفقهية. كما أتاحت له معرفة العديد من شيوخ المذهب الزيدي الذين تجمعوا هناك استجابة للإمام الحسن المؤيدي -حينذاك- إضافة إلى أنها مكنته من الاطلاع على الأوضاع فيها -الأهنوم- كونها أحد المعاقل الهامة في مقاومة الحكم العثماني، اتخذها في ما بعد كمعقل حيوي لإمامته.

واصل الإمام القاسم عقب خروجه من الأهنوم تنقلاته لطلب العلم، حيث كانت هذه المرة صوب جهات الشرف وأتيح له هناك التتلمذ على يد عدد من أشهر علماء الحديث النبوي. انتقل إثرها إلى: "الحيمة وجبل تيس وصنعاء". وكانت حجة كذلك أحد محطاته العلمية حيث: "تلقاه فقهاؤها وعلماؤها وأخذوا عنه علماً كثيراً". ثم حط رحاله في: "جهات الشرف فسكن فيها". وقد أدت تنقلاته تلك إلى ذيوع صيته واشتهار فضله بين أوساط السادة الزيديين، كان لها الأثر الإيجابي عند إعلان إمامته في ما بعد.
حرص الإمام القاسم أن يحيط تنقلاته -السابقة الذكر- بالسرية التامة، وهي مرحلة سبقت مباشرة دعوته، سيما وأن العثمانيين قد شعروا بخطورته قبل ظهور إمامته وحسب الجرموزي فإنهم: "خافوا جانبه" فأخذوا: "يجتهدون في التجسس عليه ومطاردته للقبض عليه دون طائل".
ويبدو أن الإمام القاسم قد اعتزل نطاق الحكم العثماني، حين رأى أن الضرورة تقتضي التواري عن أعين العثمانيين ورجالهم، كونه قد بدأ ينتقل إلى ناشط فقهي وسياسي يتبنى قضية إحياء الإمامة الزيدية. ويتضح ذلك بصورة جلية حينما بدأ يتوجه للأوساط المعارضة للعثمانيين لتبني فكرة الإمامة للتخلص من التسلط العثماني.
ولقد عمد -الإمام- إلى مراسلة أتباعه المنتشرين في العديد من المناطق الشمالية وضح لهم من خلالها خطورة المرحلة والظروف المحيطة بهم، خاصة مع تشديد حسن باشا من إجراءاته القمعية ضد المعارضين لحكمه. كما حرص أيضاً في رسائله على تهيئة الأهالي لأمر الإمامة.

ففي رسالة بعث بها إلى بلاد العصيمات للأمير الحسن بن ناصر أحد كبار أعوان الإمام الحسن بن علي -الآنف الذكر- أكد فيها كما يقول الجرموزي: "أن الجور قد عم والشرع الشريف ادلهم". وفيها دعوة واضحة لمحاربة العثمانيين. مشيراً إلى أن ذلك لن يتم إلا عن طريق إحياء الإمامة الزيدية. وفي إحدى جولاته إلى مدينة صعدة -لهذا الغرض- التقى بكبار "علماء ذمار وفقهاء الظاهر وفقهاء صنعاء". والذين أكدوا على ضرورة القيام بأمر الإمامة.
وفي حقيقة الأمر فقد استغرقت تلك المراسلات والمشاورات واللقاءات التي أجراها الإمام القاسم مع غالب مؤيديه من السادة الزيديين وشيوخ القبائل عدة سنوات، استطاع فيها أن يبلور جملة من المرتكزات الأساسية توخى من خلالها قيام تكتل في الأوساط المعارضة للعثمانيين في المناطق الشمالية، يؤدي بالتالي إلى ظهور الإمامة، في سبيل الخلاص من التسلط العثماني.
ولقد تزامن ذلك مع اتساع رقعة المؤيدين له لتشمل الكثير من السادة والفقهاء -الشيعة- والذين: "كان لهم نفوذ ديني وروحي ذو طابع محلي وأهلي غالباً، ويرتبطون ارتباطاً وطيداً بنمط الحياة القبلية بما في ذلك تقاليده المحاربة".
وهكذا يتضح حسب مؤرخ محدث: "وكان حزباً جديداً للإمامة في دور التشكل". وهو الأمر الذي يتجلى خلال بضع سنوات، حين أصبح الإمام القاسم أهم داعية إلى التوجه الإمامي، والزعيم الأقوى والأجدر على طريق إعادة الإمامة الزيدية إلى الوجود والفعل كما سيتبين -لنا- في ما بعد.

إعلان الدعوة
بدأ اسم الإمام القاسم يظهر قيد التداول باعتباره الإمام الذي توشك دعوته على الظهور. "فلما أظهر الله صيته وانتصرت دعوته تحقق الأولياء صدق الوعد، وعرف الأعداء كلال الحد". وكان في نظر الكثير من رجال الزيدية الأجدر على القيام بمنصب الإمامة، فتقدم إليه المناصرون وطلبوا منه النهوض بالأمر.
وحسب الجرموزي فقد أيده: "رجال من سراة العترة الكرام وبطارقها الهامات من شيعتها". وأعلنوا مبايعته سراً والقيام بتهيئة الظروف لإشهار دعوته بالإمامة.
ولقد أدرك الإمام القاسم عندما تبين أن أخباره قد بلغت إلى العثمانيين بأنهم لن يتركوا أمره، لذلك فقد استشار بعضاً من كبار العلماء والشخصيات بشأن إعلان الدعوة، ويبدو أن الأشد معارضة منهم للحكم القائم قد شجعون على ذلك: أما الأكثر فقد رأوا حسب مؤرخ معاصر: أن الوقت لم يحن بعد: "لما كانوا يرون من قوة الأتراك وتملكهم جميع الجهات من زبيد وصنعاء وصعدة وأبي عريش وصبيا وجميع مخاليف هذه المدن ونواحيها" بالإضافة إلى شدة وطأتهم وقوتهم وكثرة عددهم وعتادهم الحربي.

بقي على الإمام أن يضمن شيئاً من التأييد القبلي، فأشار عليه بعض كبار مستشاريه أن يكون القيام بالدعوة من بلاد سنحان، لما فيه من نصرة القبائل وإلى أهمية موقعها وجبالها الحصينة، ولبعدها عن مركز العثمانيين، إضافة إلى منافذها الكثيرة والآمنة، والتي تتيح له سهولة الخروج إذا ما داهمته القوات العثمانية: "فاستصوب الإمام هذا الرأي". لذلك فقد حل الإمام القاسم قبيل إعلان دعوته في بلاد سنحان من جهة الحقار، حيث جرت هناك على نحو محدود وبسرية تامة مبايعته إماماً، وذلك في أواخر شهر محرم سنة 1006ه‍/1597م.
وعندئذ رأت بعض القوى المناهضة للحكم العثماني ضرورة اختيار معقل آخر لإعلان الدعوة يكون أكثر أماناً، فوقع الاختيار على جبل حديد قارة المنيع والبعيد عن متناول القوات العثمانية. فوصل الإمام إثر ذلك إلى موضع يسمى وادي الحمر بالقرب من جبل قمر، ومنها أعلن دعوته في بداية شهر صفر 1006ه‍/ سبتمبر أكتوبر 1597م، وتلقب بالإمام المنصور. وقد أشار المؤرخ الشرفي إلى ذلك مطلع قصيدة:
ثم ابتدا الدعوة الغراء من قمر .... إمامنا القاسم المنصور في صفر
وكان قبلها قد شيعه إلى جبل قارة أحد كبار مشائخ سنحان وهو الشيخ أبو زيد بن سراج وأعطاه: "بندقين وثلاثة أرطال باروت"، وهي دلالة واضحة لبداية مرحلة جديدة محورها الثورة ومقاومة الوجود العثماني. وتوقع الإمام القاسم أن تؤدي دعوته إلى تعاضد القوى اليمنية بشكل واسع ضد حكم الولاية التي كانت إذ ذاك ناقمة على العثمانيين.

ولعل دعوة الإمام القاسم كانت قد أُيدت من قبل سادة وقضاة وعلماء كان لهم وزنهم المذهبي والروحي، وفي قصيدة ذات مغزى ديني سياسي واضح المعالم، قالها أحد هؤلاء يحث فيها الإمام القاسم في إظهار دعوته:
ضاع الوفاء وضاعت بعده الهمم .... والدين ضاع وضاع المجد والكرم
والجور في الناس لا تخفى معالمه .... والعدل من حوله الأستار والظلم
وكل من تابع الشيطان محترم .... وكل من عبد الرحمن مهتضم
وقراءة متأنية للقصيدة -الآنفة الذكر- تعبر في مدلولها السياسي إلى ما آلت إليه الأوضاع في أوساط الأهالي، وإلى أي حد بلغ الجور والظلم الذي كان يمارسه العثمانيون، بل لقد أساء هؤلاء إلى الدين من خلال أفعالهم -كما أشرنا في الفصل الأول- وهو الأمر الذي أدى إلى اندلاع الثورة ضدهم.
وهكذا يبدو بأن المشروع الإمامي الذي يتزعمه الإمام القاسم، بات بمثابة تحد صريح للعثمانيين يعمل على زعزعة حكمهم في اليمن من جانب، وتعبير عن تطلع إقامة إمامة جديدة من جانب آخر، وبإعلان الدعوة -كما أشرنا آنفاً- تبدأ المرحلة الأولى لثورة القاسم، وتجدر الإشارة إلى أن المؤرخ الجرموزي -كاتب سيرة القاسم- كان قد بيّن مراحل ثورة الإمام القاسم حين قسمها إلى أربع نهضات (مراحل) -انظر المقدمة- أسفرت بين الأعوام (1006-1029هـ/1597-1620م)عن ظهور حكم إمامي في الشمال الجبلي.

رسائل الإمام إلى مشائخ وقبائل المناطق الشمالية
بدأ الإمام القاسم بعد إعلان دعوته في جبل قارة في توجيه نداءاته من خلال الخطابات والرسائل إلى الأهالي ومشائخ القبائل في المناطق الشمالية وغيرهم، لتلبية دعوته ومناصرة ثورته، وكانت هذه الخطابات حسب مؤرخ محدث: "تشبه المنشورات السياسية في الأزمنة المعاصرة"، حيث حملت في طياتها المبادئ التي كان يدعو إليها -الإمام- لإذكاء روح المقاومة لدى الأهالي، وحثهم بالتالي على الثورة وعدم الخضوع للعثمانيين نتيجة فساد حكمهم.
فهو في إحدى رسائله إلى قبائل وادعة الشام، يدعو إلى محاربة العثمانيين، حيث يؤكد: "أن الله قد أوجب قتل هؤلاء الأتراك وأعوانهم من العرب". ويحذر تلك القبائل من موالاة وإطاعة هؤلاء -العثمانيين- كون ذلك يعد خروجاً عن الإسلام ومبادئه.
ولقد أوضح الإمام أن استمرار تسلط الحكم العثماني على رقاب اليمنيين كان نتيجة حتمية، كون بعض القبائل قد استكانت وهادنت هؤلاء، بل أمدتهم بالأموال التي كانت تجبى عليهم دون وجه حق، ويؤكد أيضاً أن عدم الاستجابة للدعوة الإمامية ومؤازرة الثورة، تؤدي إلى تمادي العثمانيين فيما يعتملونه ضد الأهالي من البطش والقوة والظلم، ويبدو أن الإمام قد عمد إلى هذا الأسلوب في بعض خطاباته كجزء من تحفيز القبائل ودفعها بالتالي إلى صفوف الثورة، ولعل ذلك يتبين في إحدى رسائله إلى عامة اليمنيين حين يقول أنه: "لولا مداراتكم وإمدادكم لهم بالمال، والقعود عن نصرتنا ما استقامت لهم راية أبداً".

وفي خطاب آخر يؤكد الإمام -فيه- ضرورة الاستجابة للدعوة الإمامية كونها امتثال لأوامر الله، في وجوب طاعة أهل البيت، أما من يدير ظهره يكون قد خالف أوامر الله، وبالتالي سوف: "يفتح الله عليه أبواب المصائب ويمحقه في دنياه وآخرته". ويتضح لنا ذلك في رسالة وجهها الإمام إلى قبائل الأهنوم، حيث يقول: "فإن الله أوجب عليكم طاعة أئمة أهل البيت، وحرم عليكم مخالفتهم". ويبدو أن هذا الأسلوب الخطابي في قالبه الديني، الذي عمد إليه الإمام القاسم، قد أثمر في غالب الأحيان إلى نتائج أدت إلى انضواء الكثيرين تحت راية الثورة.

ونستقرئ في جانب آخر من رسائل الإمام: استنكاراً شديد اللهجة، لموقف بعض القبائل نتيجة لعدم استجابتها لنداء الدعوة، والجهاد ضد العثمانيين، ففي رسالة بعثها إلى قبائل هجر الظهرين من بلاد حجة يقول فيها: "وأنتم رحمكم الله رأيناكم عن الجهاد مضربين وكأن الله لم يفرضه عليكم". مستدلاً بما ذهب إليه بقوله: "فإنا لم نرَ منكم رجلاً وقف ساعةً في موطن من مواطن الجهاد، وإنكم لم تعتدوا لجهاد الظالمين سلاحاً". إلا أننا نجده -الإمام- مع استنكاره الآنف الذكر يلتمس الأعذار والمسببات التي أدت إلى عدم المشاركة الفعلية لتلك القبائل: "وعذرتكم عن الجهاد بأنفسكم"، حتى ولو لم تكن على جانب من الصواب، فهو في ظرف يستدعي عليه اتباع سياسة المهادنة لاستمالة هذه القبائل، إلا أنه في جانب آخر يدعوهم إلى ضرورة بذل المال لمساندة الثورة والمجاهدين، بل ويفرض عليهم مبالغ مالية واجبة الدفع، حين يقول: "وعيّنا عليكم ستمائة حرف تفترقونها على قدر أموالكم". محذراً إياهم بنقمة من الله في حالة عدم التزامهم بدفع تلك الأموال، كون ذلك يعد معصية لأوامر الله التي فرضها في الجهاد: "ومن لم يمتثل ما في التنزيل فالله حسبه وهو الآخذ له بذنبه".

ولقد حرص الإمام القاسم في بعض رسائله على تأنيب تلك القبائل التي لم تشاركه الجهاد بحجة: "خوفهم على ممتلكاتهم ومناطقهم" من أيدي القوات العثمانية. ولم يكتف بذلك بل عمد إلى رسم صورة واضحة المعالم لسلطة الحكم العثماني، يبين من خلالها ما تعتمله هذه السلطة على أرض الواقع في سبيل إبقاء سيطرتها على البلاد، ويشير إلى أن العهود التي قطعها العثمانيون لبعض القبائل -والمتمثلة في عدم المساس بهم وبممتلكاتهم ومناطقهم طالما بقوا على ولائهم للحكم العثماني- سرعان ما يتم نكثها، إذا ما تضررت مصالحهم: "ولقد عرفتم بهذه الدولة وعدم وفائها بالعهود". وهو مع ذلك لم يغفل على حثهم لمساندته ومناصرة ثورته: "وقد أوجب الله عليكم معاونتنا" مستشهداً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وغالباً فقد ركز الإمام القاسم في كل خطاباته ورسائله، على الطبيعة الدينية للثورة على العثمانيين. نظراً لفساد الأوضاع العامة لحكمهم مشيراً إلى التصرفات المشينة واللا أخلاقية التي يرتكبها هؤلاء.
وهو في جانب آخر يؤكد أن تسلط العثمانيين يعني أن: "رسوم الدين قد عفت، وأعلام الهدى قد طمست، وأحكام الشريعة قد عطلت، والفرائض قد رفضت". وعلى هذا النحو لا يبقى أمام اليمنيين إلا طريق الكفاح المقدس: "البدار البدار رحمكم الله إلى ما افترض عليكم من جهاد عدوكم" في سبيل إرساء دعائم الإمامة والثورة ضد الحكم العثماني.

4 / 109
ع
En
A+
A-