وقد استغل الإمام القاسم بن محمد ردود الأفعال تلك، لتدعيم مركزه السياسي المناهض للعثمانيين، حين أمر في السنوات الأولى لدعوته في عام 1007ه/1598م بسك: "الضربة المنصورية، وكانت نصف درهم" من الفضة الخالصة ولأنها كذلك فقد: "انتشرت وأخذها الناس بركة لطيب فضتها".
وشهد الجانب الزراعي -هو الآخر- تدهوراً ملحوظاً، في غالب اليمن -خاصة المناطق الشمالية- انعكس أثره على الأوضاع المعيشية للأهالي، وقد تظافرت عوامل عدة ساعدت في ذلك التدهور، منها: كثرة الحروب بين الجانبين الزيدي والعثماني، التي أدت بالتالي إلى أن ترك الناس الاهتمام بالأراضي الزراعية واستغلالها وزراعتها كنتيجة حتمية لعدم الاستقرار، إضافة إلى الجدب، الذي شهدته غالبية المناطق -خاصة الشمالية- جراء عدم سقوط الأمطار، فانحصرت لذلك زراعة الحبوب -المصدر الرئيسي للغذاء- وضعفت زراعتها في: "المشارق والمغارب" و"قل المدد والتاث الناس"، مما أدى حسب الجرموزي إلى ارتفاع الأسعار و:"كاد الطعام يعدم".
وعموماً فقد كان فقر هذه المناطق -الشمالية- الوعرة اقتصادياً، من أهم العوامل التي زادت من حساسية الأهالي ضد الحكم العثماني، والتي جعلتهم أكثر اندفاعاً إلى الثورة والحرب.
تذمر اليمنيين
كان لسوء التصرفات التي يقوم بها الولاة والعمال وكذلك الجنود العثمانيون -كما أشرنا آنفاً- وقعها الملموس لدى عامة اليمنيين. في ما زادت التصرفات اللا أخلاقية من سخط الأهالي وتذمرهم حين أقبل هؤلاء على ارتكاب المحرمات، فلقد تفشت ظاهرة الزنا في أوساطهم وكما يورد ذلك المؤرخ الجرموزي بقوله: "وأما النسوان ففي كل مدائنهم جوانب معروفة مأهولة للنساء لهذا المعنى، وكل فاسدة تزين نفسها وبابها وتعرض لمن مر عليها". بل وأكثر من ذلك فقد ذهب هؤلاء إلى فرض مقررات مالية، مقابل ممارسة تلك النسوة للبغاء تجبى منهن: "وعلى كل واحدة قبالة يومية وشهرية".
كما أشار الجرموزي أيضاً إلى ظاهرة بيع وشرب الخمور حين قال: "وأما الخمور فظاهرة تدار عليهم في الأسواق، كما يدار بالماء، وربما يتشدد بعض ولاتهم إذا كثر فيقطعه من السوق، ويجعلون له حانات لذلك تباع فيها".
ولم يجد هؤلاء -العثمانيون- غضاضة في التعامل بالربا، كونها تمس بمعتقدات الناس الدينية، وكما يورد ذلك مؤرخ معاصر بقوله: "..وأما المعاملة في الربا فظاهرة غالبة عليهم، ولا يذكر فيه تحريم ولا تحليل، وإنما يسمونه فائدة".
تلك التصرفات اللا أخلاقية أوجدت في أوساط المجتمع ردود أفعال، كونها انتهاك صريح وعلني لتعاليم الدين الإسلامي، حتى أن أحد علماء الزيدية المعاصرين للأحداث عز الدين محمد بن علي الشكايذي، تناول جملة من تصرفات العثمانيين -السابقة الذكر- في قصيدة مطولة .. قال فيها:
والمنكرات على الأشهاد قد ظهرت .... لا يستطاع لها رداً وكتمانا
القتل والصلب والتحريق قد فعلوا .... والشحن للجلد بعد السلخ أتبانا
كذا الربا والزنا والخمر قد شربوا .... جهراً وباعوه في الأسواق أدنانا
ولقد تناقل الناس القصيدة: "ودونت وانتشرت لإصابة المعنى" وكانت القصيدة سبباً في مصرع صاحبها من قبل السلطة العثمانية، كونها تعد تقريراً استشف ودل على جملة الأفعال اللا أخلاقية والتصرفات المشينة التي كان يقوم بها العثمانيون، وعبرت بالتالي عن سخط وتذمر اليمنيين. ويتضح ذلك من خلال المشاركة الواسعة غير المعهودة -حينذاك- في جنازة الشكايذي -صاحب القصيدة- فقد خرج: "في جنازته عامة أهل صنعاء حتى المخدرات". حتى أن سنان باشا -الوالي وقتئذ- علق على ذلك الحدث بقوله: "إذا كان هذا حال جنازته كيف لو خرج علينا وهو حي".
ولعل تلك الأفعال المشينة تؤكد استجابة الأهالي لدعوة الإمام القاسم بن محمد، إلى الثورة والالتفاف حولها، وعدم الخضوع للعثمانيين نظراً لفساد حكمهم وخروجهم عن مبادئ الدين الإسلامي. ففي أحد خطاباته دعاهم إلى إعلان الجهاد ضد هؤلاء الفاسدين والظلمة لأنهم: "أظهروا في الأرض الفساد"، وهو في خطاب آخر يؤكد للناس أن: "رسوم الدين قد عفت .. وأحكام الشريعة قد طمست .. والمحارم قد انتهكت".
أما بالنسبة للجهاز القضائي في اليمن -حينذاك- فقد شكل هو الآخر مصدر سخط وتذمر لدى اليمنيين، حيث أساء العثمانيون إلى الشريعة الإسلامية التي كانوا يحكمون باسمها، وقد تدهورت وظيفة القاضي كما يقول مؤرخ محدث: "عندما تولاها غير مستحقيها ممن يسعون إليها" حيث كانوا: "يشترون ولاية القضاء، وعليهم خراج مضروب ثم يتزايدون في شرائه، ويتحاسدون عليه، ولقد يتولى أحدهم القطر أو المدينة أقل من سنة وقد اشترى ذلك غيره".
أما ظاهرة الرشوة فكانت سمة غالبة بين هؤلاء، يأخذونها على: "ضرب من الاختفاء وقد يظهرونها". مقابل عدولهم عن قول الحق في قضايا عامة الناس. في ما كانوا يتقاضون أموالاً طائلة من ذوي الوجاهات الاجتماعية أو التجار كما يوضح المؤرخ الجرموزي في قوله: "وأما في قضايا الكبراء والتجار والعظماء فلا ينحصر ما يأخذونه في قضاياهم".
وفي الحقيقة فقد أدى ذلك التلاعب في نظام القضاء إلى ازدياد حدة الخلافات في أوساط المجتمع، نتيجة عدم تطبيق تعاليم الشريعة السمحاء بين المتخاصمين، إضافة إلى المماطلة والتسويف في قضايا الناس.
جانب آخر كان له الأثر العميق في نفوس الأهالي، أدى إلى تذمرهم وإلى النفور من الحكم العثماني حين عمدوا إلى تقريب بعض: "اليمنيين لتكوين طبقة تساندهم في حكم البلاد وذلك باعتبارهم غرباء عنها"، وتظهر الصورة واضحة جلية -في ما ذهبنا إليه- حين قام حسن باشا خلال فترة ولايته لليمن على: "إقامة بديل زيدي -عثماني ضمن إطار حكم الولاية المركزي، ضم في نطاقه عدداً محدوداً من الأمراء الزيديين" استمدوا الحق في تسيير شؤون الحكم من توليتهم من قبل الوالي العثماني باعتباره ممثل الدولة العثمانية.
فقد أوكل تسيير الأمور في كوكبان إلى الأمير محمد بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين الذي: "...ظاهرهم ووالاهم وضرب السكة باسم سلطانهم وخطب لهم" وحارب في صفوف قواتهم ضد الإمام الحسن بن علي، في ما تصدر ولده الأمير أحمد بن محمد لمحاربة الإمام القاسم بن محمد. وكان من: "أعوان الأتراك وأعظم أعضائهم". ولقد أقرت رواتب سنوية له ولجنوده مقابل ولائه للدولة العثمانية. إضافة إلى ذلك فقد أوكل إليه جمع الضرائب من المناطق التي كانت تقع تحت سيطرته وهي جهات مسور ولاعة وقراضة وجبل تيس وما يوالي هذه الجهات. باعتباره صاحب التزام الضرائب في هذه الأنحاء.
بينما أسندت مهام الحكم في بلاد الشرف إلى الأمير لطف الله، كذلك تم تنصيب إبراهيم بن المطهر أميراً على حصن ثلا. فيما كان الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن عاملاً على بلاد حجة، أما عبد الله بن المعافا فقد عين حاكماً على بلاد السودة، وامتد نفوذه إلى الأهنوم ووادعة وعذر، وقد: "بلغ مكانة مؤثرة في ظل العثمانيين".
وبالغ الولاة العثمانيون في تكريم أمراء المناطق الشمالية -الموالين لهم- عن طريق منحهم ألقاباً عثمانية: "أمراء أو سناجق". إلى جانب إعطائهم الهدايا، بل وأكثر من ذلك فإن سلاطين الدولة العثمانية أنفسهم كانوا يرسلون لهم: "الخلع والترقيات من استانبول بناء على طلب ولاة اليمن".
وقد أثار ذلك الوضع باقي طبقات المجتمع، وخاصة ذوي المكانة السياسية والاجتماعية في البلاد، إضافة إلى أنه أثقل كاهل الأهالي، الذين تقع عليهم أعباء الامتيازات التي تحصل عليها الطبقة الحاكمة -الآنفة الذكر-.
ومما زاد من تذمر اليمنيين، تلك السياسة التي اتبعها العثمانيون والمتمثلة في ظاهرة جمع الرهائن، من القبائل المناوئة للحكم، وذلك لضمان ولائها وعدم تمردها ضد السلطة العثمانية. وكان غالب هؤلاء الرهائن من أبناء المشائخ، أو أقرب الناس إليهم، وقد أوضح الجرموزي بشكل جلي تلك الظاهرة بقوله: "ومن ذلك أن من خالف أمرهم من الرعية أو مال إلى مُخالفهم من إمام حق أو غير ذلك عمدوا إلى قبض الرهائن، صغيراً كان أو كبيراً من ذكر أو أنثى، من أولاد شيخ البلد المخالفة، أو من كان يعتزي إليه".
إلا أنهم -العثمانيون- أساءوا معاملة هؤلاء الرهائن، حيث كان يتم وضعهم في سجون مظلمة: "ثم يعمرون عليهم العمارة الأكيدة، حتى يهلكوا، كما فعلوا مع كثير من رهائن أرض اليمن". ويؤكد مؤرخ معاصر للأحداث هذا القول، حين يذكر أن زهاء مائتين وخمسين شخصاً -بينهم مشائخ- من أهالي الحيمة، وقرابة نفس العدد من قبائل نهم. تم إيداعهم السجن، وأغلق من جميع الجهات، ولم يجعل له متنفساً، الأمر الذي أدى إلى وفاة جميع من فيه من الرهائن، ولم يعش منهم، حسب الجرموزي: "إلا سبع أنفس".
ولقد كانت ظاهرة الرهائن من النساء، محل استياء وتذمر لدى الأهالي، وأثارت روح العداء ضد العثمانيين، كونها تسيء إلى سمعتهم، لما فيها من انتهاك صريح وعلني لقدسية حرمات المسلمين.
إن سوء معاملة الرهائن أفضى كذلك إلى إعلان حالات التمرد في السجون، وهو الأمر الذي يفسر لنا -حسب مؤرخ معاصر- تمرد وعصيان رهائن سجن قلعة القاهرة في شهر رجب من عام 996ه/1587م. نتيجة أن القائم على سجن القلعة: "قد أتعبهم أشد التعب وكلفهم جمع المحن والمهن والنكد والنصب، وامتحنهم أشد الامتحان، حتى أنه كان يكلفهم على عمل بستانين ومزارع في القلعة مع الضرب الشديد والعمل الدائم المزيد".
وقد تم إخماد ذلك التمرد بصورة بشعة، أثارت معها سخط واستياء الأهالي، حين أمر حسن باشا -والي اليمن حينذاك- بأن يوضع كل سجناء القلعة في أكياس: "ويرمى بهم من رأس القلعة من أرفع مكان عال".
ولعل سوء معاملة الرهائن، كان أحد الأسباب المباشرة لاندلاع عدد من الاضطرابات في بعض أقاليم اليمن، وانقلاب الأهالي -في تلك الأقاليم- ضد العثمانيين،، ويتضح ذلك في ما حدث في سنة (1006ه/1597م) عندما تمرد الأمير علي الشرجبي في الحجرية، فإن أول عمل قام به، هو مهاجمة سجون وقلاع العثمانيين القائمة بين الحجرية ومدينة تعز، لإخراج مئات من الرهائن المحتجزين فيها.
ويتبيّن الأمر كذلك بشكل جلي -في ما ذهبنا إليه- لما حدث في سجن مدينة عدن سنة 1008ه/1600م، عندما تمرد الرهائن المحتجزون فيه على حراسهم، جراء ما قاسوه من سوء المعاملة، حيث استولوا على: "ما كان هناك من السلاح والبارود، وشحنوا المدافع التي فيها" للدفاع عن أنفسهم من مهاجمة الجنود الأتراك، وخوفاً من اتساع حركة تمرد السجناء ونتائجها السلبية على القوات العثمانية في المدينة، فقد رأى حاكم المدينة وكبار مسؤوليه: "أن يعطوا الرهائن والمحابيس الإذن في الخروج، ولا يتعرض لهم أحد". وتحسباً كذلك لأي رد فعل انتقامي من قبائل أهالي الرهائن والمحابيس.
صورة أخرى يتجسد فيها التذمر والاستياء الذي كابده الأهالي جراء ما يفعله العثمانيون، ولعل ذلك يتبين بوضوح في الأفعال التي ارتكبت في حق أسراء الحرب، الذين كانوا يقعون في قبضة القوات العثمانية، فقد عمد العثمانيون إلى إنزال شتى ضروب التعذيب والتنكيل في أسراهم، دون مراعاة لحرمة الأسير كما أوصى بها الدين الإسلامي الحنيف، حيث كان يتم قتلهم أو يودعون في السجون، ويساقون إليها: "كما تساق الأنعام" وكانت عملية سلخ جلد الأسير وهو حي، من أبشع الصور التي مارسها العثمانيون ضد هؤلاء الأسرى، ويورد المؤرخ الجرموزي مثالاً حياً لذلك -عدة مرات- حينما أمر سنان باشا بسلخ جلد عامر بن علي، بعد أن وقع في أيدي العثمانيين خلال إحدى المعارك سنة (1007ه/1598م)، وأن: "يمثل به مُثلة ما فعلها مثله في مثله".
وقد بالغ العثمانيون في تعذيب أسراهم إلى درجة -حسب مؤرخ معاصر- أنه كان يتم: "ركزهم على الخوازيق والتحريق بالقطران والبارود، ومن سهلوا عذابه اجتزوا رأسه ومن أحبوا بقاءه مهاناً زنجروه وزندوه وضربوه وغير ذلك مما لا يفعله مسلم".
وباستقراء لجملة الأوضاع التي أوردناها يتضح لنا جملة من الأسباب التي أدت في نهاية المطاف إلى إعلان الثورة ضد الحكم العثماني، التي جسدها اليمنيون، حين استجابوا لدعوة الإمام القاسم بن محمد للقيام بتلك الثورة، وانخرطوا في صفوف المقاومة ضد الوجود العثماني، وذلك ما سيكون مفصلاً في الفصول التالية من الرسالة.
الفصل الثاني مراحل ثورة الإمام القاسم بن محمد
المرحلة الأولى: (1006-1013ه/1597-1602م)
توطئة
مما لا شك فيه ان العوامل التي مثلت المسببات الرئيسة الداعمة لقيام الثورة ضد الوجود العثماني -كما أشرنا إليها سابقاً- تطلب بشكل أو آخر من القوى المعارضة للحكم العثماني في الشمال الجبلي، كضرورة ملحة إلى قيام إمام حق للخروج على هؤلاء -العثمانيين- كما يذهب إليه المذهب الزيدي. كونهم قد أذاقوا الأهالي العذاب والجور العظيمين وهم بذلك إنما أرادوا التبشير بعودة وشيكة للإمامة الزيدية، قبل بضع سنوات من ظهور الإمام القاسم بن محمد.
وفي حقيقة الأمر فإن الإمامة الزيدية كانت بحاجة ماسة تتطلبها ظروف الحالة القائمة -وقتئذ- لتستعيد بذلك نشاطها السياسي، كي يتسنى لها بالتالي تسنم زمام المقاومة ضد العثمانيين.
ولقد شهدت اليمن خلال حقبة زمنية تجاوزت الأربعين عاماً، قبل إعلان دعوة الإمام القاسم في عام (1006ه/1597م)، مقاومة ضد الوجود العثماني، قاد زمامها المطهر بن الإمام شرف الدين (1547-1572م) وانتهت بوفاته لتبدأ مرحلة أخرى اتسمت بالضعف نتيجة التباين والخلاف القائم آنذاك بين أبناء المطهر إلى أن تمكن حسن باشا -الوالي- من إقامة بديل زيدي عثماني ضمن نظام حكم الولاية المركزي.