وروى الإمام الهاد عليه السلام عن محمد الباقر عليه السلام يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يؤتى بأعوان الظلمة فيجعلون في سرادق من نار، ويجعل لهم أظافر من حديد فيحكون بها صدورهم حتى تبدو أفئدتهم فتحرق فيقولون ربنا ألم نكن نعبدك؟ فيقول: بلى ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين)).ولا تقولوا: تدارينا على بيوتنا وأموالنا؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ...} الآية إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ولا تقولوا: إنا قهرنا فصرنا مستضعفين؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من جبى-أي ساق- درهماً إلى سلطان جاير كبه الله على منخريه في قعر جهنم)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سود علينا فقد شرك في دمائنا)). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيكون أقوام لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا يستقيم لهم الغنى إلا بالبخل والفجر، ولا تستقيم لهم المحبة في الناس إلا باتباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك فصبر على الذل وهو يقدر على العز، وصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة في الله وهو يقدر على المحبة لا يريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة أثابه الله ثواب خمسين صديقاً)) .
وأما الذين يطلبون صلاح دنياهم فاعلموا أرشدكم الله أنه بلغنا عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة أنه قال: (ما ترك الناس شيئاً من دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أشد) وقد عرفتم هذه الدولة وعدم وفائها بالعهود وكيف طلبت من القبايل مطالب ثلاث سنين أو أكثر من ذلك، ثم لا يزالون ينقلبون عليهم ويأخذونهم واحداً واحداً، وشيئاً وشيئاً، ويقربون لكم البعيد حتى تقعوا في أيديهم ولولا بركاتنا أيها الناس لقد ساموكم الخسوف، وقتلوا خياركم[ق/14]، ونهبوا أموالكم ووالله يمين قسم لئن لم تتوبوا وتفروا منهم ليسلطنهم الله عليكم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ثم لا تجدون في السماء عاذراً، ولا في الأرض ناصراً مع ما أعد الله لكم لأجل محبتكم لدنياكم، وإيثاركم لها من العذاب الأليم حيث يقول تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} ومعنى طغى: عصى الله بمعاونة الظالمين وغير ذلك من المعاصي، وآثر الحياة الدنيا: يعني على الآخرة، فإن الجحيم هي المأوى، وحيث يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فأفٍ لمن خسر الدنيا والآخرة بتسليط الظالمين عليه بسبب معونته لهم بتسليم الأموال إليهم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
((من أعان ظالماً أغري به وخسر الآخرة بإيثار الدنيا كان كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ})).
فإن اعتذرتم أنا جرنا عليكم بالمطالب والقرضة فقد عرفتم بجهادنا للظالمين، وقد أوجب الله عليكم معاونتنا، قال الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقال سبحانه وتعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} مع ما أعد الله تعالى للمعين والمقرض والساعي من الثواب الجزيل، قال سبحانه وتعالى في النفقة في الجهاد: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} فجعل الحسنة سبعمائة، وجعل الحسنة في غير الجهاد بعشرة أمثالها كما أخبرنا الله تعالى في كتابه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في القرض: ((من أقرض أخاه المسلم قرضاً فله بكل مثقال ذرة من قرضه كل يوم عند الله بوزن أحد...)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أقرض أخاه المسلم قرضاً كتب الله له بكل مثقال ذرة منه كل يوم ألف حسنة)) إلى غير ذلك من الأحاديث بالقرض، وقال تعالى في حق الساعي: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} فخذلتم أهل الحق وأعنتم أهل الباطل مع أنا قد طهرناكم، ودعوناكم إلى الخير فأبيتم إلا ما تستوجبون به نقمة الله وسخطه وعذابه، فإن لم تستغفروا الله[ق/15] وترجعوا إلى الله تعالى فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، وسلام على أهله.
[وصية الإمام لولده أحمد]
ومن عهد له عليه السلام كتبه لولده صفي الدين أحمدبن أمير المؤمنين أيده الله تعالى حين ولاه أعمال صعدة ومخاليفها في شهر رجب سنة سبع وعشرين وألف[يونيو/1618م] :
استخرت الله تعالى وجعلت للولد الأمجد صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين ولاية يقدم بها ويحجم، ويحل ويبرم -إن شاء الله تعالى-في مدينة صعدة المحروسة بالله وبلادها وما ينسب إليها، وفي جميع بلاد خولان،وبلاد همدان، وما والاها من البلاد، يقيم فيها الجمعات، ويقبض الحقوق والواجبات، ويقيم الشرايع المحمدية، ويقسم في الناس بالسوية، وينتصف للمظلوم من الظالم، ويؤدب أهل الجرايم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعظم أهل التعظيم، ويفتقد الأيتام والمساكين ولا تأخذه في الله لومة لايم، ويسير السيرة المرضية المطابقة لطريقة الشريعة المحمدية، ويسهل الحجاب، ويلين الجناب، ويقيم الحدود، وهو مقلد عهد الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوفير الحقوق، وجعلها حيث نأمره بها، والامتثال لما قلنا، والاستفهام لنا فيما التبس عليه من الأمور، وأمرنا أهل هذه الجهات التي ذكرناها والتي لم نذكرها مما شملته الولاية بالسمع له والطاعة، وعدم المخالفة، وتسليم الواجبات، والامتثال لما يأمر به مما يرضي الله، والمعاونة له على البر والتقوى، وعلى إزالة البدع والمنكرات، وعليه العمل بتقوى الله والتواضع، وتقريب أهل الفضل والحث على طلب العلم، وافتقاد المساجد، والمصالح والطرقات، وإقامة الشريعة وتنفيذها وتعميدها، وإبطال الأحكام الخارجة عن الشريعة والله يتولى إعانته، ويبارك
لمن أطاعه في نفسه وولده وماله، فمن أطاعه فقد أطاعنا، ومن عصاه فقد عصانا، ومن ولاه على أمر فقد توصيناه فيه على مطابقة رضى الله، ويسألنا في المهم من الذي نأمره به، والله يوفقه ويسدده ويعينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ثم أوصاه بكلام جعله مسطوراً في رقعة وأمره أن لا يفارقها[ق/16]، فقال عليه السلام: تقوى الله قبل كل شيء والمواضبة على الصلاة في أوقاتها جماعة ولا يترك طلب العلم على سبيل الاستمرار ويجعل لذلك وقتاً، وتقرير [كل] من يرجى خيره أو يخشى ضره على ما قد وضعناه له، المشايخ يصير إليهم عشر المطالب، من طلب تقريراً زائداً فلا يجاب إلى شيء، توفير المطالب لأهل المراتب، وأهل الجهاد المحتكمين، ويجعل للفقراء الذين لا حيلة لهم حصة من الزكاة والفطرة، ولا يجعل للفقراء شيئاً من المعونات والخدمة، ولا يجعل لأحد من الشعراء والشحاذ شيئاً سيما مع حاجة المجاهدين الغفلة من حوايج الناس، وعن إنصاف المظلوم حرام، ويجب عليه أن يتوقف على ما أمرته به، وينتهي عما نهيته عنه، ويجب الاستعانة بالله ويولي أهل الحياء والدين، والعزم والحزم، ولا يولي من يضيع المطالب، ويستشير أهل الرأي ولا يترك الشور في جميع الأمور إن شاء الله تعالى، ولا يكن جلساؤه إلا أهل العلم ومحاسن العرب، ولا يقرب أحداً من الأهماج، ولا يخالط أهل الريبة، ويتعلم الاستخارة ويكثر منها، من كان يتمرد من المطالب فأجمعوا عليه العسكر وغيرهم من القبائل واجعلوا عليهم غنماً وقوتاً لهم، لا يرفعون إلا مخلصين إن شاء الله تعالى، ومن أحب الحرب أحرب حتى يكون نكالاً للظالمين إن شاء الله تعالى إلى آخر ما أوصاه عليه السلام.
[رسائله إلى المجاهدين]
ومن بعض كتبه عليه السلام إلى المجاهدين: كتابنا هذا إلى المجاهدين في سبيل الله أيدهم الله بالنصر والظفر وحماهم ووقاهم من كل شر، وأتحفهم بشريف السلام المتصلة بكل خير عام، إذا عزمتم فتوكلوا على الله واتقوه، وحافظوا على الصلاة، ولا ترضوا منكراً ينصركم الله، وتواضعوا لله، وأيقنوا أن ليس النصر إلا من الله فإذا أظفركم الله بعسكر الظالمين فاقتلولهم على أي حال وجدتموهم، وصونوا القبائل إلا من قاتلكم، والله سبحانه وتعالى يفتح ويؤيدكم، ويمدكم بملائكة، والسلام.
ومن بعض كتبه عليه السلام جواباً على الشيخ شجاع الدين أبي زيد بن سراج السنحاني بخط يده عليه السلام: وما ذكرتم من تناقص المواساة فاعلم يا طويل العمر أنا مقاتلون للدولة الظالمة من العجم مع تحزب جميع فسقة العرب معهم، وصرنا نعاني الأمور ونقاسيها، ونشتري من يقاتلهم معنا من العسكر سراً بالبذل الواسع وهم لا يرضون بذلك، وبالأقوات الواسعة حتى أجحفنا بيت المال، وأجحفنا ببعض القبايل الموالين لنا، وطلبنا منهم الطعام مع إعدامهم[ق/17] وحاجتهم إليه، وتبرأوا منا ونسبونا إلى الجور، وإنما الذي [وقع] تتوهمه بسبب هذا وإلا فمحلكم عندنا غير مجهول، وقد طلبنا من بعض الواجدين في هذه السنين معونة فتغلبوا وتمنعوا مع حاجة المجاهدين، وضرورتنا إلى ذلك فامتنعوا، فتوجهت إلى الله تعالى وبسطت يدي إليه مبتهلاً، وقلت: اللهم امحق عليهم ما تحت أيديهم أكثر مما منعونا من المعونة، فاستجاب الله الدعاء، وإن بعض تجار وادعة دعوت الله عليهم، وكانوا يسافرون إلى المخاء فبلاهم الله بالفقر حتى صار بعضهم يتطلب على الأبواب، ونحن والله قسماً ما نترك ما يتوجه علينا لكم، وما يمنعنا إلا إيثار مدافعة العدو، الله يكفينا شر كل عدو...إلى آخره.
قال السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي: ومن كتبه عليه السلام جواباً علي بخط يده الكريمة وهو في برط بعد خروجه من شهارة: وتحققنا ما ذكرتم من تقلب أحوال الذين يزعمون أنهم مستضعفون وما هم عليه من الرضى بالذل والهوان، فهم كما قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وما ذكرت من حسن حال المستقيمين على طاعة الله سبحانه، فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدايد بعد دنوها، وهطلت عليه البركة بعد إردادها، وكفى بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}.