منهج التحقيق
مما لا شك فيه أن الغرض من تحقيق أي مخطوط هو ضبط نصه كما أراده صاحبه. وربما تدخل قلم المحقق في إجراء تصحيحات عليه ليضعها في الهوامش.
ولقد اتبعت، عند تحقيقي مخطوطة (النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة) -موضوع الدراسة- أصول وقواعد المنهج العلمي المتبع في تحقيق النصوص، حيث اعتمدت عند تحقيق المخطوطة ثلاث نسخ كان أن اخترت أفضلها لأسباب بينتها في معرض حديثي عن نسخ المخطوط.
ومن الأهمية بمكان أن أورد بعض الصعوبات التي صادفتني خلال عملية التحقيق، وتمثل ذلك في وجود بعض الكلمات المهملة التنقيط والتي درجت حيالها أن عمدت وتوخياً للدقة والأمانة العلمية بنقلها عن طريق فك رموزها وتقريبها إلى معانيها الصحيحة بعد إجراء المقارنة عليها في النسخ الأخرى. فيما تركت الكلمات التي لم أستطع فك رموزها كما هي برسمها، مع الإشارة إلى ذلك في الهامش بعبارة: (كذا في الأصل).
أما فيما يخص السنوات الهجرية فقد قمت باستخراج السنوات الميلادية المصادفة لتلك السنوات وجعلها بين محصورتين، ومن ثم وضعها بجانب السنوات الهجرية في المتن.

أما بالنسبة للأخطاء النحوية واللغوية، فلم أصحح منها إلا ما كان مخلاً بالمعنى أو اقتضت الضرورة إلى ذلك، على سبيل المثال دأب الجرموزي على إهمال (الهمزة) حيث لم يضعها في مكانها الصحيح مثل: فقاها (فقائها)، وفي مكان آخر عمد مؤرخنا على تخفيف الهمزة حيث كتب بدلاً عنها ياءً كما في كلمة قبايل (قبائل). وهو ما لم أذهب إلى تغييره بل تركته كما جاء في المتن كون هذه الكلمات تعود إلى لغة العصر، وقد أوضحت ذلك في الهوامش مرة أو مرتين مع الإشارة إلى أن ذلك لن يتكرر.
فيما وضعت بعض الكلمات أو المواضع أو التواريخ التي أضيفها من النسخ الأخرى إلى النسخة التي اعتمدت عليها بين محصورتين معقوفتين مع الإشارة إلى ذلك في الهوامش.
أما بالنسبة للكلمات أو العبارات التي سقطت لدى ناسخ المخطوط ووضع إشارة (7) أو (صح) وقد وضعت على جوانب ورقات المخطوط فقد قمت بوضعها مكانها الصحيح مع الإشارة إلى ذلك في الهوامش إلى ذلك قمت بتصحيح الأخطاء الإملائية -بما يتوافق وأسس الكتابة المتداولة في عصرنا- على سبيل المثال عمد الناسخ على رسم بعض الكلمات بالرسم القرآني مثل (صلوات، زكوات) حيث قمت بكتابتها صحيحة فصارت (زكاة، صلاة).
ولقد قمت كذلك بالتنبيه إلى الأخطاء واللحن عند مؤرخنا الجرموزي، حتى لا يظن القارئ، أن ما كتبه المؤرخ هو عين الصواب حيث عمدت في مثل هذه الحالات إلى تصحيح ما تطلبته الضرورة في الأصل مع الإشارة إلى ذلك في الهوامش.

وقد تم وضع تلك العبارات بين حاصرتين معقوفتين من لدينا ليكتمل بذلك المعنى، مع الإشارة في الهوامش بهذه العبارة "وهو لحن وقومناه".
ولما لم يضع المؤرخ أي عناوين في مخطوطته هذه بل وضع عناوين لفصول طويلة فقد قمت بوضع عناوين جانبية ووضعتها بين حاصرتين معقوفتين تسهيلاً للقارئ وجرياً على عادة المؤلفين في التحقيق، مع الإشارة إلى مثل ذلك في الهوامش والتنويه بالعبارة التالية: (العنوان من لدينا) مرة أو مرتين ولن نشر إلى مثل ذلك.
أما بالنسبة لما درج عليه الناسخ من ترك بياض في بعض ورقات المخطوط كان الغرض منها تثبيت أبيات شعر أو رسائل، ولم يتحصل عليها خلال عملية النسخ فتركها (بياض) فهو على سبيل المثال كان يورد مناسبة قيل فيها أبيات من الشعر فإذا ما انتهى من حديثه يورد هذه العبارة: "وما قيل فيها من الأشعار" ولا يأتي بالقصيدة، وهو الأمر الذي أشرت إليه بوضع نقط على السطور أثناء النسخ واضعاً إياها (النقط) بين حاصرتين معقوفتين [.......] لنذكر في الهامش أن ما بين الحاصرتين في الأصل بياض مع الإشارة إلى مقدار ذلك البياض في ورقة المخطوط.
كما أني ضمنت رسالتي تعريف لكل أسماء الأعلام والمواضع والمصطلحات وكذلك تخريج الآيات والأحاديث، تاركاً بعض الأماكن التي لم أجد أي تعريف لها في المصادر، سواء كانت (معجم القبائل والبلدان للحجري)، أو(صفة جزيرة العرب للهمداني) أو (معجم البلدان والقبائل اليمنية، لإبراهيم المقحفي)، ولعل تلك الأماكن قد اندثرت أو أنها أماكن صغيرة أو غير مأهولة بالسكان حالياً، فكان أن أغفلتها هذه المراجع.

أما بالنسبة للآيات القرآنية، فقد أشرت في الحواشي إليها بعبارة (الأية ( ) من سورة ( )) واضعاً رقم الآية أو السورة بين قوسين صغيرين، وفيما يتعلق بالأحاديث النبوية الشريفة فقد اقتصرت على الإشارة إلى أوثق المراجع وأكثرها أهمية.
يلي هذا التحقيق.

نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أسألك الإعانة
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله وعبده، وآله وصحبه من بعده، وبعد:
فلما طالع راقم الأحرف الفقير إلى الله الغني: الحسن بن المطهر بن محمد الجرموزي -وفقه الله بأحسن التوفيق وهداه إلى واضح الطريق- على هذه السيرة الفائقة، والنبذة اللطيفة الرائقة، الجامعة لغرر الأخبار من أخبار الغرر، وسيرة الأخيار أخيار السير، المحيين لما اندرس وعفا من سنن جدهم المصطفى، وآله الكرام الحنفاء، الذين شادوا للدين مناراً، وأظهروا للحق آثاراً، وعمروا من معالم الإسلام ما درس وانهار، وأسسوا للدين بيوتاً تجري من تحتها الأنهار، وطلعت شموس فضلهم في مدلهمات المظالم، فأزالت تلك الحنادس، واهتدى بها من اهتدى فسلم عن موجبات الردى ولبس أفخر الملابس، وصلت سيوفهم في هامات أهل البغي وكبرت، فصغرت كل كبير منهم وعظمت كل صغير من أهل الحق وكبرت.
وصاروا لنار الحرب كالحطب الذي .... تنال فما تزداد إلا تلهبا
وصالت عليهم أسد غاب فحكموا .... بأعناقهم بيض الصوارم والصبا

فخرت أعناقهم لها خاضعين، وما برحت بهم ساجدة، وتلا كل منهم سورة الحشر لما ظلت الأرض به مائدة، وأمطرت عليهم السيوف عذاباً وبيلاً، فقال كل منهم: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً، وجرمت أفعالهم التي ما انفكت على التمييز منصوبة في الماضي، وقطع كل موصولٍ منهم بالماضي، والعزم المضارع للماضي، ومدت إليهم أيدي العوامل قاضب، بقاني دمائهم مخضوبة، وبادت الطير بترخيم أجسامهم المفروضة بالمسنونة فطلت في كل ناد مندوبة، وجمع كل منهم جمع التكسير وجزم السلامة، وألبسوا ثياب التصغير فباءوا بالحسرة والندامة، ولما نزل بهم ذلك الطارق في البلد، قال كل من سدة البلد هذه والرحمن القيامة، وبنى كل منهم على الكسر فلزم السكون، وعلم كل بالفتح والنصر حين ظفر المؤمنون، قرأ أهل الحق حينئذٍ {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ} ولن إن شاء الله بعد غلبهم.

ترجمة مولانا الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام
هو الإمام الحجة إمام اليمن، أبو الأئمة الأعلام: يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، ولد بالمدينة سنة خمس وأربعين ومائتين، وكان قيامه سنة ثمانين ومائتين، وله المؤلفات العديدة: من التفسير، والتوحيد، والفقه، وهي مذكورة تفصيلاً في(الشافي) للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام، وقد وردت فيه الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآثار عن جده الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام منها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يخرج من هذا النهج وأشار بيده إلى اليمن رجل من أولادي اسمه يحيى الهادي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحيي الله به الحق، ويميت به الباطل)) .
ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أشار بيده إلى اليمن وقال: ((سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى، يحيي الله به الدين)).
وروى مصنف سيرته عن بشرى رافع رفع الحديث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام قال: (يا أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، أيها الناس أنا أحلم الناس صغاراً، وأعلمهم كباراً، أيها الناس إن الله تعالى بنا فتح، وبنا ختم، أيها الناس ما تمر فتنة إلا وأنا أعرف سائقها وناعقها -ثم ذكر فتنة بين الثمان ومائتين- فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً...)إلخ.

وروي عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه ما لاذا قتل أهل مصر كبيرهم وظهر، وقد بسط الكلام في سيرته وجهاده مؤلف سيرة الهادي عليه السلام محمد بن عبيد الله، والإمام عبد الله بن حمزة وغيرهما من المؤرخين، وكان وفاته عليه السلام يوم الأحد لعشر بقيت من ذي الحجة سنة ثمانية وتسعين ومائتين، ودفن يوم الإثنين قبل الزوال....في عدي المسجد بصعدة، وقبره مشهور مزور.......................يوماً لاثنين................

المنصور بالله القاسم بن محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
[ق/4] الحمد لله الذي خلق الخلق ليتفضل عليهم، وجعل خلقه لهم إظهاراً لقدرته من غير حاجة إليهم، وألهمهم معرفته بما ركبه من العقول الفارقة فيهم، وأرسل إليهم رسله الكرام بالمعجز الذي هو الدليل عليهم، وجعل الإمامة للنبوة خلفاً لبلاغ ما استحفظه لديهم، وأراهم محلها بما جمع من الفضائل في أهل بيت نبيهم، وأبان الدلالة على صاحبها بما جعل فيه من الخلال المأثورة عن أبيهم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم.
أما بعد: فإني كنت سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا، ووسيلتنا إلى ربنا، الإمام الأعظم، والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم: المنصور بالله القاسم بن محمد بن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فأخذ النسيان أكثره، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن مما بقي، وأجعله في هذه الأوراق اليسيرة توقيعاً لما أمكن من الجمل، وأما الإحاطة بها فما أبعدها، والتفصيل لها أبعد من نيل النجوم وعدها؛ لطول المدة وتأخرنا عنها، ولتفرق الوقايع والقضايا، والبعوث والسرايا، في أقطار اليمن فإنه عليه السلام قام واليمن كله مجتمع للعجم، ولا مخالف لهم فيه من مكة إلى عدن، وكذا كثير من الأقاليم الخارجة عنه، ولايعلم أن ملك اليمن قد اجتمع قبل أوان قيامه عليه السلام على عادل أو جاير، كاجتماعه لهم من أيام الملقب بالرشيد إلى التأريخ المذكور، ومن تأمل السير والأخبار وجد صحة ذلك فكانت سيرته[ق5] عليه السلام كما قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

فإن سيرت سيرتي باليقين .... كانت لعمرك خير السير
فصل: ولنذكر نسبه الشريف، ومولده، ونشأته، وحليته، وخصايصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وتدبيره، وسخاه، وشفقته على الأمة، وصبره ونبذاً من مواعظه، ورسايله وكراماته، ونبذاً من أشعاره، ويسيراً مما امتدحه به أهل الإجادة، وتعداد عيون العلماء من أهل عصره، ودعوته وحروبه، ونهضاته، ووفاته وموضع قبره سلام الله ورضوانه على روحه الطاهرة.

22 / 109
ع
En
A+
A-