ويبدو أن شحة الأمطار في المناطق الشمالية، كانت أن أدت إلى حدوث أزمات غذائية (مجاعات) يتزامن معها بالتالي ارتفاع أسعار الأغذية بجميع أنواعها خاصة منها مادة الحبوب، يتضح ذلك جلياً حينما يذكر الجرموزي أنه في خلال سنة (1015ه/1607م) أدت شحة سقوط الأمطار إلى ضعف في إنتاج محصول الحبوب، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعاره ... حيث يقول: "..وكان الطعام قليل الوجود مرتفع السعر.." وهو في جانب آخر يذكر كذلك أن انعدام الأمطار وشحتها أدت بالتالي إلى حدوث قحط وجدب في غالب المناطق الشمالية عقب صلح (1028ه/1618م) وكادت مادة الحبوب تنعدم في الأسواق نتيجة لارتفاع سعرها...فيقول: "وارتفعت الأسعار، وكاد الطعام يُعدم..".
كما أن مناطق وسط البلاد (ذمار وإب) والتي كانت تمثل على الدوام المخزون الأمني للمواد الغذائية في اليمن قد ضربها هي الأخرى القحط والجدب جراء شحة سقوط الأمطار، ولعل ذلك يتضح جلياً حين ذكر المؤرخ الجرموزي أحوال تلك المناطق بعد زيارته لأهله في بني جرموز (في إب) عقب صلح (1028ه/1618م) وكان حاضراً أحد مجالس الإمام القاسم، وقد سأله عن أمور الناس هناك فقال: "...فلما عدت إليه سلام الله عليه سألني عن المشارق فحملني ما شاهدت من أحوالها أن قلت صالحة من الشمس والريح وأما المطر فلا عهد لها به...".
ومما لا شك فيه أن الأزمات الغذائية، وما يصاحبها من ترد في أوضاع الأهالي، تؤدي إلى معاناة هؤلاء بل وربما إلى تذمرهم أو تولد فيهم حالة من اليأس وهو ما قد ينتج عنه اضطراب أحوالهم، ولعل ذلك يتضح ما جاء على لسان الإمام نفسه عندما كان في وادعة قبيل صلح (1028ه/1618م) وقد أصابها شدة الجدب جراء عدم سقوط الأمطار فخشى الإمام أن يؤثر ذلك على تماسك الأهالي هناك، فسنجده يقول، كما ذكر ذلك الجرموزي: "..خشيت على الناس أنه إذا لم يحصل المطر يقنطون لما قد خالطهم من الشدة..".
إزاء تردي الأوضاع الاقتصادية -السابقة الذكر- ما هي الإجراءات التي اتخذها الإمام القاسم بشأن تلك الأزمة..؟ لعل الإجابة تتبين فيما ذكره الجرموزي أن الإمام قد وضع تجاه مثل هذه الصعوبات والأزمات تدابيراً وحلولاً كفيلة، ولو بصورة مؤقتة لمواجهات تلك الصعوبات، فهو (الإمام) قد واجه الأزمة الاقتصادية التي حلت بأغلب مناطق الشمال الجبلي في عام (1028ه/1618م) بأن طلب من المناطق التي لم يصبها القحط سرعة المبادرة في إرسال الإمدادات الغذائية إلى شهارة لتوزيعها على المحتاجين في تلك المناطق التي تضررت جراء شحة الأمطار وندرتها.. حيث يقول: "واحتاج الإمام عليه السلام إلى المعاون الكثيرة..". كما أنه قام بتوزيع الحبوب على المتضررين من مخازن الحبوب التي كانت ممتلئة بالحبوب في شهارة -والتي كان يتخذها احتياطاً أمنياً خلال حروبه مع العثمانيين. خاصة وقد قدم إلى شهارة كما يذكر الجرموزي: "كثيراً من الضعفاء" من المناطق المجاورة طلباً للغذاء لتأمين معيشتهم، وقد عمد الإمام كذلك بعد أن نفد مخزونه من الحبوب إلى طلب الحبوب من المناطق التي لم يضر بها الجفاف، يتضح ذلك في رسالة بعث بها إلى أحد وجهاء منطقة المداير قال فيها، كما يذكر الجرموزي: "...حصل الخلل العام فأقرضنا ما تجد من الطعام..".
جانب آخر يبين اهتمام الإمام بالمجال الزراعي، يتمثل في استصلاحه للوديان الزراعية لغرض زراعة الأراضي التي تمتد على ضفاف هذه الوديان وهو ما يتضح عندما عمد الإمام إلى إصلاح وادي صومل الواقع إلى الغرب من منطقة عذر القريبة من الأهنوم، وكذلك وادي وعر من أعمال بطنة حجور، ولقد قام عقب عملية استصلاح هذين الواديين بزراعة: "البن والقندر والأرز..".
ب- المجال التجاري:
في حقيقة الأمر لم تذكر السيرة في ما بين دفتيها أي توضيحات تشير إلى الجانب التجاري، ولعل اهتمامات الإمام السياسية والعسكرية خلال مراحل ثورته كانت قد أبعدته إلى حد ما عن إبداء أي اهتمام بالجانب التجاري، نتيجة الحروب القائمة -حينئذ- مع العثمانيين والتي حالت دون تحقيق ذلك.
إلا أننا نلمس أن مؤرخنا قد ذكر بصورة عابرة بعض الجوانب التجارية، أظهرت على ما يبدو -للباحث- اهتمام يذكر للإمام في هذا الجانب، فهو (الإمام) قد أمر ببناء سمسرة في الهجر: "قل مثلها في العمائر.. وهي معلومة فإن أهل النظر في العمائر يقولون إن هذه السمسرة ...من عجائب اليمن...". ويتأكد لنا من هذا البناء البديع كما وصفه الجرموزي أن السمسرة كان الغرض من إنشائها هو استقبال الوفود التي كانت تصل إلى الإمام وكذلك التجار للسكن والراحة فيها.
ولقد أبدى الإمام في جانب آخر اهتماماً ملحوظاً في زراعة البن -كما أشرنا سابقاً في معرض حديثنا عن الجانب الزراعي- وهو من المحاصيل السلعية التي كانت -وقتئذ- تمثل مورداً اقتصادياً هاماً جراء عائداته المالية. كونه يصدر إلى خارج البلاد، ويبدو -للباحث- أن هناك تجاراً اعتمدهم الإمام كوسطاء لشراء هذا المحصول.
ولتدعيم جانبه الاقتصادي فقد أمر الإمام خلال إقامته في السودة في عام (1007ه/1598م) بسك عملة خاصة به، وهي: "الضربة المنصورية وكانت نصف درهم كتب في جانب منها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الجانب الآخر اسمه عليه السلام والتاريخ.." فكان لهذه العملة كما يذكر الجرموزي رواجاً كبيراً حيث تداولت بين أوساط الناس.
الجانب العمراني
اهتم مؤرخنا الجرموزي بذكر الأعمال العمراني التي قام بها الإمام، فهو يشير إلى أن الإمام قام ببناء: "مسجده الجامع في محروس شهارة في رابع محرم الحرام عام خمسة عشر وألف..". وأقام عدداً من الأماكن الخاصة لطلبة العلم بجانب الجامع. كما أنه أنشأ السمسرة في مدينة الهجر شرقي الأهنوم، كنزل للوفود والتجار القادمين إلى المدينة.
3- الأوضاع الاجتماعية
لم يغفل مؤرخنا الجرموزي بين دفتي مؤلفه الحديث عن الجانب الاجتماعي .. فهو قد رصد أوضاع مجتمعه والحياة الاجتماعية السائدة -فهو مثلاً قد رسم صورة واضحة للفئات والشرائح الاجتماعية القائمة -وقتئذ- ويمكن أن نقسمها -كما ذكرها الجرموزي- حسب درجات القرابة والصلات والتعامل العلمي العام إلى طبقات (شرائح) اجتماعية:
الأولى: وهي طبقة الأشراف: "من أهل البيت وشيعتهم الأعلام".
الثانية: فهم: "الذين نبلوا في خلافته وكانوا عيوناً في أيام حياته".
الثالثة: وهم: "الذين عاصروه من كبار رجال دعوته".
الرابعة: وهم: "العيون من أكابر الشيعة".
الخامسة: وهم: "الذين تفقهوا في أيامه وظهر فضلهم ونبلهم في التزام أحكامه".
السادسة: وهم عامة الناس.
كما أنه -الجرموزي- رصد حركات التمرد والعصيان التي حدثت -حينئذ- فهو على سبيل المثال يذكر أن عبد الله بن علي المؤيدي أعلن دعوته ومعارضته للإمام القاسم، وقام بتأليب عدد من قبائل صعدة حوله، وهو الأمر الذي جعل الإمام يسارع إلى وضع حد لما دعا إليه المؤيدي وكبح جماح القبائل التي انضوت تحت تأثيره.
كما أنه رصد حركة أخرى من حركات التمرد والعصيان كانت هذه المرة في إقليم الحيمة حيث دعا ناصر الغرباني لنفسه بالإمامة معارضاً بذلك دعوة الإمام القاسم وجمع حوله عدداً من قبائل الإقليم، وكان ان عمد الإمام إلى إرسال رسائل إلى قبائل الحيمة يحذرهم فيها من تقديم أي دعم أو مناصرة للغرباني، ولم يكتف بذلك بل قام بإرسال قوات عسكرية إلى الإقليم لوضع حد لتمرد الغرباني ولإعادة الاستقرار والأمن هناك.
وفي موضع آخر نجد مؤرخنا يورد التركيبة القبلية لمجتمعه حيث برزت -حسب الجرموزي- في مناطق الشمال الجبلي قبيلتان هما بكيل وحاشد، وظهرت أهميتهما بالعديد من الفخوذ والبطون المتحدة والمتفرعة منهما.
أما في جنوب البلاد (إقليم تعز) فقد برزت مجموعة من قبائل الحجرية مثل قبائل شرجب فيما برزت في أقاليم وسط البلاد قبائل ريمة ووصاب وعتمة ويافع والرصاص.
ولقد دأب مؤرخنا على رصد مجتمعه في كل حركاته وسكناته، كبير أمورها وصغيرها، فهو يصف في موضع تقليداً كان يمارسه كبار رجال إمامة القاسم حيث يذكر لنا طريقة لباس يوسف الحماطي .. فيقول: "كان لباس سيدنا عادت بركاته قطعة من أغلظ ما يكون من غزل أمه وأهله وعمامته قطعة منها لا يزيد ..".
ونلمسه في جانب آخر يرصد نشاطات بعض المذاهب الدينية، فهو يذكر (على سبيل المثال) موقف الإمام القاسم من الطائفة الإسماعيلية ودعوته الناس للتصدي لهذه الطائفة، مخافة أن يتسع محيط دائرتها في أوساط المجتمع. فهو -مؤرخنا- قد دون في مؤلفه العديد من رسائل الإمام خاصة بالمذهب الإسماعيلي. منها (على سبيل المثال) رسالة يحذر فيها الناس من اتباع هؤلاء حيث يقول: "..إنا نحذركم من الفرقة الباطنية..". وقد دعا الإمام إلى حضر نشاطات هذه الطائفة، بل ودعا إلى استباحة دمائهم وأموالهم: "الواجب على المسلمين استباحة دمائهم وأموالهم..".
4- الأوضاع العلمية
رغم الظروف السياسية القائمة -وقتئذ- بين الجانبين اليمني (الإمامة) والعثمانيين والمتمثلة في احتدام الصراع بينهما خلال ثورة الإمام القاسم في مراحلها الأربع، إلا أننا نجد ان المخطوطة قد تناولت بين دفتيها الجانب العلمي -كما يذكر الجرموزي- حيث أولى الإمام العلم والعلماء النصيب الأكبر من اهتماماته ومرجعية ذلك هو أن الإمام نفسه كان أحد علماء زمانه، فقد برع في علوم الدين، وكان واحداً من جهابذته تدلنا على ذلك كثرة مؤلفاته منها (الأساس) في الأصول، و(الاعتصام) في الفقه ..وغيرها كثير.
ولعل ذلك الاهتمام يتضح من خلال رصد مؤرخنا رسالة للإمام إلى ولده محمد (الإمام المؤيد بالله) يحثه فيها على طلب العلم .. حيث يقول: "...عليك بملازمة العلم وطلبه فإنه أكبر من الفرائض... ومما تستعين به على تحصيل العلم ترك حب الدنيا والاشتغال بها ... واعلم يا بني أني لم آمرك بالعلم إلا أنه من أعظم الطاعات لحاجتنا إليه.." وهو في رسالة أخرى يحث ولده أحمد -عندما كان أميراً على إقليم صعدة- على طلب العلم فيقول: "..لا يترك طلب العلم على سبيل الاستمرار.. ويجعل له لذلك أوقاتاً .. ولا يكن جلساؤه إلا أهل العلم ومحاسن العرب..".
وقد رصد مؤرخنا في سيرته قيام الإمام ببناء جامع شهارة وإقامة عدد من الأماكن الخاصة لطلاب العلم بجانب الجامع. وكانت المساجد -وقتئذ- هي مراكز تلقي العلم.
ولم يقتصر ذكر الجرموزي على اهتمامات الإمام بالجانب الديني وحسب، بل تعداه إلى جوانب أخرى كثيرة شملت الأدب، فهو قد ألف الشرح على الحاجبية في النحو، كما كان يقرض الشعر، ولقد أورد مؤرخنا بعضاً مما قاله في إحدى قصائده -عندما أعلن عبد الله المؤيدي إمامته في صعدة- حيث قال:
عجباً لمن يدعي تبحر عالم .... يدعو ليطفي نور رب عالم
إن تأته بشرى العلوج فبشر .... وكأنه قد حاز غنم الغانم
ويقول إن الترك من أعوانه .... في حرب عدل بالإمامة قائم
ولعل اهتمامه (الإمام) بالشعر يفسر تصدر الشعر في العديد من المناسبات التي رصدها المؤرخ الجرموزي في مخطوطته وهي دليل على ازدهار الأدب وبالذات الشعر حيث احتل موقع الصدارة بين غيره من الأجناس الأدبية الأخرى.
وتجدر الإشارة أن المؤرخ الجرموزي قد ضمن بين دفتي مخطوطته ذكر عدد غير قليل من العلماء الذين عاصروا الإمام القاسم بن محمد.
5- الظواهر الطبيعية
لم يقف مؤرخنا في مخطوطته في تناول الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية بل تعداها إلى رصد الظواهر الطبيعية كسير النجوم على سبيل المثال. فهو قد تتبع سير أحد النجوم في سنة (1028ه/1618م) فيقول: "طلع النجم ذو الذنب وصفته أنه طلع نجم مع الفجر له رأس كالسنان المرتفع وله نور يطلع قبله، ثم لا زال يطلع حتى انتهى إلى نحو ثلث السماء أو يزيد، وهو يطلع قبل الفجر نوره كل يوم حتى انتهى إلى ما ذكرناه، ثم طلع بعد أيام نجم أصغر منه من فوقه وطال نوره نحواً من منزله وأقل وبقيت هذه النجوم آية يشهدها العالم..".
هكذا نجد أن مؤرخنا الجرموزي قد استوفى في مخطوطته ذكر وقائع الأحداث لما شاهده أو نقل إليه من أخبارها خلال معاصرته لفترة الإمام القاسم بن محمد، وهو الأمر الذي يبين الأهمية التي اقتضتها الضرورة لدراسة وتحقيق (النبذة المشيرة) لإخراجها إلى حيز الوجود ولأهميتها التي اكتسبتها الفترة الزمنية التي أرخت لها، وهي بالتأكيد واحدة من أهم الفترات الزمنية -كما ذكرنا في بداية الدراسة التمهيدية- في التاريخ اليمني الحديث.