ولقد أضفت قصائده التي تخللت ورقات مؤلفه (النبذة المشيرة) بعداً أدبياً وجمالياً حاكت أبياتها الشعرية (في كل القصائد) في إيقاعات جزيلة المعنى أحداث ذلك العصر ... مثل قوله:
العيد أنت فما الأعياد والجمع .... ما لم تكن والليالي كلها شرع
والدهر ما دمت عيد كله ولنا .... من جُود كفك مصطاف ومرتبع
وكيف لا وبك الإسلام منتصرٌ .... والعدل منتشر والحق متبعُ

أهمية المخطوطة ومحتوياتها
(أ) أهمية المخطوطة
مثلت المرحلة التي عُنيت بها المخطوطة فترة تاريخية هامة من تاريخ اليمن الحديث، حيث رسمت الخارطة السياسية للبلاد -وقتئذ- في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين وجملة الأحداث التي أفرزتها الظروف السياسية نتيجة الصدام بين العثمانيين والإمام القاسم بن محمد، مكنته من خوض حروب خلال ثورته ضدهم. أدت في نهاية المطاف إلى خروج العثمانيين الأول من اليمن في عام (1635م) كما أبرزت المخطوطة الميزات الهامة والفريدة لهذه الفترة والتي تمثلت في الحنكة السياسية والشخصية القوية للإمام القاسم بن محمد والذي يعتبر من أهم الشخصيات اليمنية في تاريخ اليمن الحديث لدوره الكبير في إرساء دعائم الدولة القاسمية، والتي استطاعت (فيما بعد) على يد ولديه الإمام المؤيد بالله محمد والإمام المتوكل على الله إسماعيل انتزاع الاستقلال عن الدولة العثمانية، بينما كان معظم العالم العربي يرزح في هذا الوقت تحت سيطرتها.

وفي حقيقة الأمر فإن المخطوطة تكتسب أهميتها من أهمية الفترة التي أرخت لها، كونها قد غطت بين دفتيها جميع الأحداث التي دارت وقائعها -وقتئذ- بين الجانبين الإمامي والعثماني، وهو الأمر الذي لم يتطرق إليه أي من المؤرخين المعاصرين لها ممن كتب عنها بالشكل الذي تناولته هي. أمثال المؤرخ عيسى بن لطف الله في مؤلفه (روح الروح)، والمؤرخ أحمد بن محمد الشرفي في كتابه (اللآلئ المضيئة)، وكذلك المؤرخ يحيى بن الحسين في مؤلفه (بهجة الزمن في حوادث اليمن)، ويضاف إلى هؤلاء بعض من الدارسين والباحثين المحدثين مثل الباحثة السعودية أميرة المداح وكتابها (العثمانيون والإمام القاسم).
ولعل معاصرة مؤرخنا الجرموزي لوقائع تلك الفترة الزمنية، وجمع أخبارها من مصادرها ممن شارك أو اتصل بالأحداث في حينها، قد أظفى قدراً كبيراً من الأهمية على المخطوطة.
ولقد تطرقت المخطوطة بشكل ملحوظ إلى دعوة الإمام القاسم بن محمد وثورته التي خاضها ضد الجانب العثماني في مراحلها الأربع (كما أشرنا لها في موضوع الرسالة) والأهم من ذلك كله ما جاء من تناول مؤرخنا لأدق التفاصيل ولكل صغيرة وكبيرة ممن شاهد تلك المعارك التي خاضتها قوات الإمام في الشمال الجبلي ضد العثمانيين لبسط نفوذه عليها.
وتبرز أهمية المخطوطة كونها قد تطرقت إلى تلك العلاقات التي كانت قائمة -وقتئذ- بين الإمام وبعض الأقطار العربية، حيث اهتم الجرموزي بتوثيق الرسائل التي تبودلت بين الإمام القاسم وأشراف مكة.

فيما نلمس أهميتها كذلك في أنها تناولت الجانب الاقتصادي، من خلال تدوين (المؤرخ) لما حدث من جدب ومجاعات في الشمال الجبلي، وارتفاع للأسعار كمظهر لتردي وشحة الموارد الاقتصادية، كما أنها (المخطوط) تناولت الجانب الاجتماعي يتضح ذلك من خلال تطرق المؤرخ الجرموزي للعادات والتقاليد التي كانت سائدة في مجتمعه.
وجانب آخر يكتسب قدراً من الأهمية، ألا وهو الجانب العلمي، يتضح ذلك في ذكر المؤرخ لعدد كبير من العلماء والفقهاء الذين عاصروا الإمام القاسم، وتدوينه للعديد من الرسائل التي كان يبعثها الإمام إلى أولاده حاثاً فيها إياهم بضرورة طلب العلم.

(ب) محتويات المخطوطة
1- الأوضاع السياسية
يعتبر الإمام القاسم بن محمد من اهم الشخصيات اليمنية في تاريخ اليمن الحديث، حيث برز كشخصية سياسية مع بداية القرن السابع عشر الميلادي، الذي شهد منعطفاً تاريخياً هاماً تمثل في احتدام الصراع بين اليمنيين (الإمام القاسم) والعثمانيين.
اهتم المؤرخ الجرموزي بالتطرق إلى دعوة الإمام القاسم للإمامة، والصعوبات التي واجهها قبل إعلان دعوته، كما حرص على الإسهاب في تناول ثورة الإمام في مراحلها (نهضاتها) الأربع، والعوامل التي أدت إلى قيامها، ويشير الجرموزي إلى كيفية استغلال الإمام فساد الأوضاع العامة في ولاية اليمن جراء السياسة التي انتهجها العثمانيون في كل جوانب الحياة، خاصة الاقتصادية منها والاجتماعية، لكسب ولاء وتأييد الأهالي في مناطق الشمال الجبلي للإنضواء تحت راية الثورة. وبيّن السياسة التي اتبعها الإمام مع هؤلاء من خلال الرسائل العديدة التي بعثها إلى زعماء القبائل، والتي حملت في طياتها المبادئ العامة لثورته، ولإذكاء روح المقاومة لدى الأهالي وحثهم على الثورة ضد العثمانيين.

ثم عمد الإمام القاسم إلى اتخاذ شهارة مقراً لدعوته لأهمية موقعها الاستراتيجي وليوجه منها كذلك رجال إمامته وقادته العسكريين إلى غالب مناطق الشمال الجبلي لبسط نفوذه، وكان هؤلاء قد لعبوا أدواراً أساسية أثناء الإعداد لدعوته ومد نطاق تأثيرها، ولقد أوضح الجرموزي أن الإمام قد تنقل بعد حصار العثمانيين لشهارة بين عدد من مناطق الشمال الجبلي خلال سنوات ثورته وهي السودة وبرط ووادعة إلى أن استقر في نهاية الأمر مرة أخرى في شهارة وقد مثلت المناطق الآنفة الذكر مواقع استراتيجية لمد نفوذه.
وأشار مؤرخنا كذلك إلى موقف القوى اليمنية المعارضة لدعوة الإمام القاسم، وهم غالباً من بقايا الأمراء الزيديين من أسرة الإمام شرف الدين، وأتباع المذهب الإسماعيلي، وتحالفهم مع العثمانيين في سبيل القضاء على الدعوة وإخماد الثورة. كما تناول السياسة التي عمد إليها الولاة العثمانيون الذين عاصرهم الإمام القاسم خلال سنوات ثورته، لإضعاف صفوف المقاومة الإمامية والقضاء عليها، وبين مؤرخنا أيضاً السياسة التي انتهجها الإمام في مفاوضاته مع الجانب العثماني لعقد عددٍ من اتفاقيات الصلح خلال مراحل ثورته، وهي صلح سنة (1015ه‍/1606م) مع سنان باشا، وصلح سنة (1016ه‍/1607م) مع جعفر باشا، وصلح سنة (1025ه‍/1616م) مع جعفر باشا وانتهاءً بصلح سنة (1028ه‍/1617م) مع الوالي العثماني محمد باشا. والذي أفضى إلى الاعتراف به كحاكم فعلي من قبل السلطنة العثمانية لمناطق الشمال الجبلي التي تحت نفوذه.

وقد رسم الجرموزي صورة متكاملة عن الكيفية التي عمد إليها الإمام القاسم لإخماد حركات التمرد والعصيان التي قامت ضده، فيذكر لنا مثلاً أن الإمام أرسل قوات إلى إقليم صعدة للقضاء على عبد الله بن علي المؤيدي الذي أعلن لنفسه الإمامة. كما أنه دفع بقواته إلى إقليم صعدة كذلك لإخماد التمرد الذي قام به محمد بن عبد الله المؤيدي، وكانت إجراءاته تلك ضرورة حتمية أملتها الضرورة -وقتئذ- حتى لا تحدث تلك التمردات خلخلة وإرباكاً في صفوف مؤيديه وأنصاره، بالإضافة إلى قواته خلال ثورته ضد العثمانيين، ولقد اتبع الإمام السياسة نفسها لإحباط تمرد ناصر صبح الغرباني الذي أعلن الإمامة لنفسه في إقليم الحيمة قبيل وفاة الإمام بقليل، ويتضح ذلك من خلال الرسالة التي وجهها إلى قبائل الحيمة حذرهم فيها من اتباع الغرباني ولم يكتف الإمام بتحذيراته تلك بل أرسل قوة عسكرية إلى الحيمة للقضاء على تمرد الغرباني وإعادة الاستقرار والهدوء إلى مناطق نفوذه في إقليم الحيمة.
ويذكر لنا مؤرخنا نموذجاً آخر من أشكال التمردات، تمثل في موقف الطائفة الإسماعيلية، وهي أقلية تمركزت في بعض جبال حراز إلى الغرب من صنعاء، وفي نجران بأقصى شمال اليمن. وكان هؤلاء يمثلون بمواقفهم العدائية للأئمة -على طول تاريخ الأئمة في اليمن- مصدر إزعاج وقلق لسلطة الإمام ونفوذه، وقد استخدم الإمام ضد هؤلاء وسائل التهديد والوعيد لدعاة هذا المذهب، يتضح ذلك جلياً من خلال رسائله التي كان يبعث بها للأهالي.

أما بالنسبة للناحية الإدارية، فقد نالت جانباً من اهتمامات الإمام القاسم، فمن الواضح أن تسيير أمور الأقاليم والمراكز الإدارية التابعة لنفوذه، لم تكن تخرج عن دائرة سلطته الإمامية، يساعده في ذلك أبناؤه وكبار رجاله، والذين أوكل لهم (الإمام) إدارة شئونها، وكان هؤلاء على اتصال مباشر به من خلال ما يصلهم من أوامره وتوجيهاته التي يحثهم فيها على رعاية مصالح الأهالي وتسيير شئون حياتهم.
وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن الجيش، سنجد أن السيرة لم تشر إلى قيام جيش منظم بالمعنى الصحيح، بل كان عبارة عن فرق عسكرية من القبائل بالإضافة إلى تلك الفرق القبلية التي كانت تبادر إلى الانخراط في صفوف القوات الأساسية عند الحاجة إليها، ويتضح أن الإمام كان هو السلطة المطلقة على الجيش، فيما أسند مهمة قيادة وتنظيم وصرف رواتب الجنود إلى أبنائه وكبار رجال إمامته.

ب- السياسة الخارجية
للحديث عن السياسة الخارجية، يمكن القول أن السيرة -كما لمسنا في مطالعتنا لها- لم تشر إلى إقامة علاقات بين الإمام والدول العربية والإسلامية -حينئذ- سوى علاقة مع أشراف مكة و"جيلان وديلمان" يتضح ذلك من خلال الرسائل المتبادلة بين أشراف مكة والإمام القاسم. حيث ذكر الجرموزي أنه في سنة (1007ه‍/1598م) قام الإمام بإرسال رسالة إلى الشريف حسن بن نمي وإخوته يشرح له فيها تطورات الأحداث في بلده -وقتئذ- الصراع مع العثمانيين بشكل عام، وتمرد عبد الله المؤيدي، الذي أعلن لنفسه الإمامة والفتنة التي حدثت جراء ذلك في صفوف الأهالي في إقليم صعدة، وقد ضمن الرسالة مناشدة لشريف مكة لمؤازرته ضد الداعي المؤيدي.. حيث قال: "...ثم إنّا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله، وإلى جهاد أعداء الله، وإحياء سنة رسول الله، وإماتت بدعة أعداء الله".

2- الأوضاع الاقتصادية
لم يغفل المؤرخ الجرموزي تناوله الحالة الاقتصادية في البلاد، فهو قد تقص الزراعة ومواسم الأمطار وحالات الجدب والقحط التي شهدتها غالب أقاليم اليمن، حيث حوت السيرة بين دفتيها مادة لا بأس بها عن هذا الجانب.
ولتوضيح ما ذهب إليه المؤرخ الجرموزي، نورده من خلال المجالات التالية:
أ- المجال الزراعي.
ب- المجال التجاري.
ج‍- الجانب العمراني.
1- المجال الزراعي:
من خلال استقرائنا للسيرة -موضوع الدراسة- يتضح لنا أن المؤرخ الجرموزي، استوفى إلى حد ما تناوله عن الجانب الزراعي. ونستطيع القول أن الحروب التي شهدتها مناطق الشمال الجبلي كانت سبباً رئيساً في تدني الموارد الزراعية خاصة مع ترك الأهالي الاهتمام بمدرجاتهم الزراعية أو الاعتناء بها نتيجة لعدم الأمان والاستقرار جراء احتدام الصراع بين الجانب الإمامي والقوات العثمانية خلال مراحل ثورة الإمام القاسم. لكن هذا لا يعني بالتأكيد ترك الناس الزراعة مصدر قوتهم الأساسي.

20 / 109
ع
En
A+
A-