سوء الإدارة العثمانية
باستقراء لأحداث الفترة التاريخية، قبل دعوة الإمام القاسم، تحديداً حين تسلم حسن باشا ولاية اليمن عام(1585م)، حيث كانت قد برزت جملة من التصرفات من قبل الولاة والعمال والجنود، كانت تسيء إلى سمعتهم الأخلاقية والدينية، تمثلت بقيام هؤلاء بأعمال سلب ونهب وابتزاز طالت غالبية الأهالي. وذلك لتغطية تكاليف معيشتهم: "فلقد ترتب على التناقض الواضح بين ضآلة المرتبات العثمانية بوجه عام، وبين تعلق الموظفين بمظاهر الحياة أن اتجه هؤلاء إلى ظلم الأهالي وإلى ابتزاز الأموال بالطرق غير المشروعة". وكان أن استغل الإمام القاسم تلك التصرفات لحث الأهالي على عدم الخضوع للعثمانيين كونهم أفسدوا في الأرض.
كما استغل أيضاً الناحية الدينية لتأجيج روح المقاومة واستمراريتها، فهو يرى في خروج العثمانيين عن مبادئ الدين مروقاً، ويصبح من الأهمية بمكان اقتلاع سيطرتهم على البلاد. ويأتي حثه واضحاً في خطاب (منشور) وجهه إلى جميع أهالي اليمن كي: "يستيقظوا من رقدتهم وينتبهوا من غفلتهم". ويؤكد أن إحكام هؤلاء قبضتهم على السلطة يعني أن: "أحكام الشريعة قد عطلت". ولن يتم إحيائها إلا عن طريق الجهاد.
ولكي يذكي روح الثورة في صفوف الأهالي، فهو يوضح أيضاً في الخطاب ذاته، أن: "المحارم قد انتهكت ـ والخمور قد شربت ـ والذكور قد نكحت ـ والدماء قد سفكت ـ والشرور قد كثرت ـ والفتنة قد عظمت".
وفي صورة أخرى يرسمها المؤرخ الجرموزي -كاتب سيرة الإمام- توضح سوء تصرفات هؤلاء الولاة وفسادهم، وتساند بصورة جلية ما جاء في خطاب الإمام -الآنف الذكر- حين يقول: "وأخبرني من سمع طاغيتهم سنان [باشا] وقد شكى إليه بعض المردان الذين في السوق من بعض العسكر، أنه فعل بهم العظيم، قال: فأمر بذلك الجندي أن يضرب، فكيف تغصب هذا المسكين غصباً، أعطه دراهم فإن قبل وإلا زودت له حتى يرضى".
ويتضح هنا أن الوالي سنان باشا، لم يأمر بضرب الجندي كونه قد أتى بأفعال يحرمها الدين الإسلامي .. وإنما كان عقابه لذلك الجندي لأنه لم يبادر إلى مراضاة ذلك الفتى ليأخذ مبتغاه.
وفي جانب آخر يبرز لنا صورة تمثل أخطاء العثمانيين الاجتماعية، تتمثل في الظلم الجائر الذي كان يقع على عاتق الأهالي .. حيث يقول: "وأما الحكم في الرعية والعمل في القضية فجورٌ وظلم وكفر".
ولقد عمد هؤلاء الولاة والعمال إلى استخدام شتى الطرق والوسائل في ابتزاز أموال الأهالي، مؤرخ معاصر للأحداث يوضح ذلك بقوله: "وأما المال فلهم في أخذه قوة وسطوة .. ولقد يعذبون أهله العذاب العظيم مثل ضربه بالسياط قليلاً أو كثيراً .. وقد يجلدون بعضهم".
ولم يكن اشتعال فتيل الثورة مقتصراً على المناطق الشمالية من اليمن، فقد استعرت حمى الثورة في أقاليم شافعية المذهب، كشف بالتالي سوأة العثمانيين، ودعت اليمنيين إلى ضرورة الثورة عليهم، ولعل ثورة قبائل يافع عام 1006ه/1597م، ضد الأمير علي، عامل العثمانيين هناك، توضح مجريات الأحداث بشكل جلي. فلقد حاصرت تلك القبائل ذلك الأمير، عندما اشتدت وطأته على الأهالي في حصن الخلقة، الأمر الذي استدعى إلى قيام الوالي حسن باشا -وقتئذ- بتجهيز قوة قوامها خمسة آلاف جندي لفك الحصار عن الخلقة لاستعادة هيبة الدولة.
إلا أن تلك القوة تلقت هزيمة نكراء على أيدي قبائل يافع والرصاص، في نجد السلف و:"ضعفت دولة الأتراك، وقتل كثير من أجنادها وخرج أكثر البلاد على أيديهم". وتم الاستيلاء على معداتها العسكرية وموادها التموينية وأسر عدد كبير من أفرادها.
تمرد آخر يكشف بجلاء ضعف العثمانيين، ارتكزت مجريات أحداثه في منطقة الحجرية، حيث تمكن الشيخ علي الشرجبي -أحد مشائخها- في عام 1006ه/1597م: "من قيادة تمرد القبائل هناك على السلطة العثمانية". وقد تمكن رغم بساطة قواته من السيطرة على غالب القلاع والحصون، القائمة بين الحجرية ومدينة تعز والتي تتمركز فيها قوات عثمانية، وأطلق من فيها من الرهائن، بل وأكثر من ذلك استطاع إحكام قبضته على القاهرة الحصينة والاستيلاء على محتوياتها وعتادها العسكري. وكانت القلعة -حينئذ- تمثل الخط الدفاعي الهام لمدينة تعز.
وطالت الاضطرابات كذلك مناطق ريمة ووصاب وعتمة، المشهورة بحصونها وجبالها الوعرة و:"باستمرار الثورات بها".
ولا شك بأن تلك التمردات القبلية، توضح بجلاء مدى ظلم وجور حكام تلك الأقاليم ضد الأهالي، وهو الأمر الذي أدى إلى ردود أفعال -من قبل الأهالي- تمثلت بصورة التمردات الآنفة الذكر. وهي بالتالي ساندت إلى حد لا يستهان به ثورة الإمام القاسم، إضافة إلى أنها شتت المجهود الحربي العثماني.
ولقد أدت سياسة البطش والتنكيل واستخدام القوة، التي انتهجها بعض الولاة العثمانيين هي الأخرى إلى إشعال فتيل الثورة في نفوس اليمنيين ضد سلطة الحكم العثماني. فوالٍ كحسن باشا (1585-1604م) شهد الأهالي خلال سنوات ولايته الطويلة صنوف العذاب والخوف والتنكيل، واشتدت وطأة الحكم العثماني ضدهم حتى: "امتلأ عهده بالحروب والأعمال العنيفة" لإخضاع اليمنيين لسيطرة الدولة العثمانية.
ولعل صورة أخرى للبطش والعنف مورست ضد الأهالي. تتضح بشكل جلي وبدلالات عميقة عند تولي سنان باشا لولاية اليمن (المرة الثانية) خلال الفترة (1604-1607م)، حيث قبض على إدارتها بقبضة حديدية، إلى حد استحق معه: "أن يقرنه بعض اليمنيين ب(الحجاج) أمير الأمويين الشهير على العراق".
كونه عامل الأهالي بقسوة وعنف، بل: "وتوصل إلى أخذ أمالهم الجليلة بكل حيلة، حتى بالغ أهل الأموال في كتم ما بأيديهم منها بكل حال". الأمر الذي أدى ببعض أعيان اليمن أن اشتكوه إلى السلطان العثماني أحمد الأول (1603-1617م).
وقد أورد المؤرخ الجرموزي في غير صفحة من مؤلفه (النبذة المشيرة) أعمال العنف والبطش والقوة التي مارسها سنان باشا ضد الأهالي في اليمن خلال فترة ولايته الآنفة الذكر.
وهكذا يتضح أن سوء تصرفات الولاة -السابقة الذكر- وجورهم المستمر ضد الأهالي كان وراء الاستجابة الكبيرة للقبائل -الأهالي- لثورة الإمام القاسم، والانضواء تحت رايتها.
ولعل ذلك يتضح بصورة موجزة رسمها أحد المؤرخين المعاصرين لتلك الفترة -رغم ميوله للعثمانيين- إلا أنه التزم الموضوعية خلال سرده لأحداثها، إضافة إلى معايشته لأوضاع مجتمعه، وإدراكه لمعاناتهم الشديدة من شدة وطأة الحكم العثماني، حيث يقول: "وقد كان قبل الفتنة -ثورة الإمام القاسم- أطبق على العباد الجور، وضعفت البرية، واستهلك العمال أموال الرعية، وقاست القبائل من الظلم أشد التعب، والهول، والنصب، فمن أجل ذلك أشعلت القبائل نارها، وحملت على جنوبها أكفانها، وأصدقت مع الإمام الحروب".
تدهور الأوضاع الاقتصادية
مما لا شك فيه أن العامل الاقتصادي، يعد اهم العوامل في بناء أي مجتمع، وهو بالتالي المرتكز الأساسي لاستقرار نظامه السياسي من عدمه. وبنظرة جلية لمجريات الأحداث التي هيأت لاندلاع ثورة الإمام القاسم -وقتئذ- سنجد أن ضخامة الأعباء المالية الملقاة على عاتق اليمنيين في العهد العثماني، كانت أحد أسباب هذه الثورة.
ولعل الحروب الكثيرة التي دارت وقائعها في اليمن -حينذاك- قد دفعت بالتالي الدولة العثمانية إلى زيادة الأعباء والضرائب المالية على كواهل الأهالي، وذلك لتغطية تكاليف تلك الحروب، وكان لاتساع الدولة العثمانية وازدياد أعبائها المالية إضافة إلى انشغالها في مشاكلها الداخلية والخارجية -آنذاك- سبباً رئيسياً في ظهور أزماتها المالية, وقد انعكس ذلك على ولاياتها ومنها اليمن.
ذلك أدى إلى استغلال كبار الموظفين لوظائفهم للحصول على الثروات الطائلة، خاصة إذا ما علمنا حسب مؤرخ محدث: "أن الخزانة العامة للدولة كانت تصرف لبعض كبار موظفيها جزءاً من مرتباتهم، أما الجزء الثاني فكانوا يحصلون عليه من الأهالي أنفسهم وذلك في صور رسوم أو عوائد مقابل ما يقدمونه من خدمات".
وقد استخدم العثمانيون القوة نظير حصول قواتهم على احتياجاتها والمصادرة -أي السلب والنهب- من المناطق التي ينزلون إليها. وكان ذلك من أهم العوامل التي ساعدت على اضطراب الأحوال في اليمن وانتشار الفوضى.
وأوضح الجرموزي بصورة أكثر دقة -كونه أحد المعاصرين لأحداث الفترة- شدة وطأة الحكم العثماني على الأهالي في الحصول على المال حيث قال: "أما المال فلهم في أخذه قوة وسطوة ولقد يعذبون أهله العذاب العظيم، مثل الضرب بالسياط قليلاً أو كثيراً، وقد يجلدون بعضهم حتى يموت مع المساهرة والكي بالنار وغير ذلك".
أما بالنسبة للخراج والذي كان يرسل سنوياً إلى خزانة الدولة في استانبول، فقد شكل هو الآخر عبئاً أثقل كاهل اليمنيين، وزاد من معاناتهم، فبعد أن كان ذلك الخراج حوالي خمسين ألف ذهباً، عند بداية عهد العثمانيين باليمن، تم رفعه من قبل سنان باشا بعد انتهاء حملته في اليمن (1571م) إلى مائتي ألف ذهباً، وقد اختلفت الآراء حسب دكتور سيد مصطفى: "حول تقدير هذا الخراج حيث ذهب أحد الأتراك المتأخرين إلى أن إيراد ولاية اليمن كان حوالي خمسمائة ألف ذهباً".
وكان على اليمنيين أن يتحملوا أيضاً متطلبات الأمراء والعسكر وبقية الموظفين من مرتبات وغير ذلك.
ويتضح ذلك جلياً من خلال قوة قوام الجيش العثماني في اليمن، فقد كان يتألف باستمرار من حوالي خمسة عشر ألفاً من العثمانيين، إلى جانب خمسة آلاف من أهالي البلاد الذين يدخلون في خدمة العثمانيين.
ولم تستند تلك الأعباء المالية الضخمة على أساس اقتصادي متين، فقد شهدت المناطق الزراعية لفترات متلاحقة، شحة في سقوط الأمطار، وهو الأمر الذي انعكس بالتالي على مردود المنتجات الزراعية، إضافة إلى تدهور زراعة البن كمحصول اقتصادي كبير، نتيجة للحروب المستمرة بين اليمنيين والعثمانيين حينذاك.
ثمة عامل آخر كان سبباً في تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، يتعلق بمحاولات الدولة العثمانية زيادة إيراداتها من الضرائب، تمثل ذلك بنظام الالتزام، والذي طبق في الولايات العربية كمصر والشام، أو نظام الضمان، أو التضمين، كما عرف في اليمن، وقد شكل عبئاً اقتصادياً أثقل كواهل الأهالي، وأدى إلى سخطهم وتذمرهم.
وبمقتضى هذا النظام كانت الدولة العثمانية تعهد إلى شخص من ذوي النفوذ والثراء في العادة بجباية الضرائب المربوطة على الأراضي الزراعية والمقررة على الفلاحين.
وقد سمحت تلك الثغرات التي وجدت في هذا النظام للمعينين في تنفيذه، ـ حيث عمد هؤلاء الملتزمون ـ إلى استغلال الفلاحين لتأمين منافعهم باستحصال الأموال التي دفعوها، وبتحقيق ربح خاص لأنفسهم.
وفي حقيقة الأمر لم يكن للضرائب العثمانية نظام معين أو حجم معين، بل كانت تفرض من قبل الملتزمين اعتباطاً، ومع هذا فهناك من حيث الأساس نوعان من الضرائب:
أولهما: الضرائب الشرعية التي أقرها الفقهاء على مدى الأزمنة ومنها الخراج والعشر والجزية، إلا أن الولاة توسعوا كثيراً واجتهدوا في جبايتها.
وثانيهما: الضرائب الديوانية التي كانت تفرض من قبل السلطان وقت الحاجة على الأشخاص والتجارة والحيوانات والمنتجات المختلفة.
وقد أشار مؤرخ معاصر للأحداث-لفترة الوالي جعفر باشا في اليمن- إلى ما كان يمارس على الأهالي في سهل تهامة حيث: "كان يطلب منهم ما هو مكتوب في الدفاتر الخالية مما هو مقرر ومقدر في كل عود من النخيل ورأس من البقر".
وبموجب ما هو قائم في تلك الدفاتر، كان لزاماً على الأهالي، في كل سنة دفع المقررات المالية -الضرائب- حتى وإن: "أفنى أكثر الأشجار، ويموت أجزل الأبقار، وقد تفنى كلها ويتبعها أهلها، ويتركون من خلفهم ذرية ضعفاء فقراء لا يملكون نخيلاً ولا بقراً، فيطلب منهم ما هو مكتوب على أصولهم في ذلك الدفتر، حسبما كانوا يملكون سابقاً من النخيل والبقر".
وهكذا تتضح الصورة جلية واضحة إلى أي مدى بلغ التعسف والجور، الذي مورس ضد الأهالي من قبل الحكام العثمانيين في جمع الأموال، فهم -حسب عبارة المؤرخ المعاصر الآنفة الذكر- لم يحاولوا التحري والتدقيق لما هو موثّق في سجلاتهم -الدفاتر- والتي رصدت بياناتها لسنوات مضت، وبين ما هو قائم على الواقع بالنسبة لما هو بين يدي الأهالي من الممتلكات.
وحيال ذلك لم يجد هؤلاء الأهالي بداً، من تسليم ما هو ملزم عليهم: "وتضرروا بذلك غاية الضرر". ولم يكن أمام غالبهم سوى الخروج من قراهم ومواطنهم هرباً من ثقل الأعباء المالية الملقاة على كواهلهم حتى أن بلاد تهامة: "خلت كثير من ممالكها بالتفرق في الأرض والتشتت والتبديد".
ولقد شاعت أصناف أخرى من الضرائب كانت تفرض على الأسواق وأصحاب الحرف فيها. فكان البقالون والعطارون والقصابون والخبازون يدفعون ما يسمى ب(ضريبة المهنة). والتي كانت تناهز أحياناً الثمن الأصلي للبضائع.
أما بالنسبة للعملة والتي تعتبر المؤشر الحقيقي، لاستقرار الوضع الاقتصادي في أي بلد، فقد نالها هي الأخرى ضروب من المد والجزر، حيث أدى اهتزازها تبعاً للأحوال السياسية وتطور الأحداث -حينذاك- إلى انهيار الأوضاع الاقتصادية، وكان ذلك نتيجة حتمية للضعف الاقتصادي الذي أصاب البلاد، جراء الحروب الكثيرة -بين اليمنيين والعثمانيين- إضافة إلى تلاعب بعض الولاة العثمانيين بالعملة، طمعاً في تكوين الثروات الخاصة، وميلهم أيضاً إلى سك عملات جديدة خلال فترة ولايتهم لليمن، وهو الأمر الذي أضر بالقديم منها. وانعكس بالتالي على أحوال الأهالي الاقتصادية. ولقد عمد هؤلاء الولاة إلى: "إنقاص قيمة الذهب والفضة عند سك العملات المختلفة" وذلك للاستفادة من فروق العملة في تكوين ثروات خاصة بهم.
ولقد رصد بعض المؤرخين المعاصرين للأحداث عدداً من العملات تم سكها، في فترات متلاحقة من قبل الولاة الجدد القادمين إلى اليمن، ومن ذلك على سبيل المثال في عام 977ه/1569م ضرب بهرام باشا: "السكة المباركة في ملحظ .. وهي مشهورة بالملحظية". أما حسن باشا فقدم سك عملة جديدة في عام 999ه/1590م حيث: "ضرب السكة السلطانية بتعز باسم السلطان مراد بن سليم(1574-1595)". في حين قام سنان باشا في عام 1013ه/1604م بضرب: "البقشة السنانية، والمنقير السناني". ولقد أدى ضرب هذه العملات الجديدة بين حين وآخر وفي فترات متقاربة إلى الإضرار بأحوال الأهالي المعيشية، وإلى إرباك في الميزان الاقتصادي للبلاد. وهذا الأمر الذي جعلهم يرفضون التعامل بها: "لشكهم في قيمتها".