ويبدو أن الحسن بن المطهر الجرموزي، هو من قام بنسخ هذا المخطوط بعد وفاة أبيه (المؤرخ) يتضح ذلك جلياً من خلال مقارنة دقيقة لخط الحسن، ورسم الكلمات كما جاءت في الورقة الثانية بمثيلاتها في باقي الأوراق الخاصة بالسيرة، وحرصاً لما ذهبت إليه -الباحث- فقد دفعت بالمخطوطة للأخ أحمد مسعود (أحد موظفي دار المخطوطات وخبير في هذا المجال) والذي أكد بعد مقارنته هو الآخر لخط الناسخ في الورقة الثانية للسيرة وطريقة رسمه للكلمات وما جاء في باقي محتويات السيرة، أن المخطوطة قد نسخت من قبل ابن المؤرخ (الحسن). فيما اشتملت الورقة الثانية للسيرة على تعريف للإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم.
أما نسخ المخطوط فقد كان بخط نسخي معتاد وجميل، وقد استهل الناسخ عند كتابته لسيرة الإمام القاسم بن محمد بالبسملة، كما حرص عند كتابته عنوان أو فصل أن يكون بارزاً وبخط كبير، وقد عمد كذلك إلى تمييز اسم الإمام وأفعال الرواية مثل (قال .. أخبرني .. نذكر) بخط كبير باللون الأسود.
أما بالنسبة لتلك الكلمات التي سقطت خلال عملية النسخ لهذه المخطوطة -وهو أمر طبيعي نجده في غالب المخطوطات- فقد عمد الناسخ إلى وضع الإشارة (7) سهم مقلوب (وهي عادة جرى عليها النساخ) وهو إلى ذلك قام بإثبات ما سقط عنه سهواً في حواشي الأوراق، والملاحظ أن الكلمات التي سقطت من قبل الناسخ كانت قليلة جداً بالمقارنة ببقية النسخ الأخرى.
كما حرص الناسخ على وضع نقاط بين سطور الأوراق بهذا الشكل (0) وبلون أسود واضح، للتدليل على نهاية جملة أو فقرة ما، ولقد وضع الإشارة نفسها لتشطير الأبيات الشعرية.
ولقد اهتم المؤرخون عند تأليفهم الكتب على توثيق مادتهم التأريخية بما يقع بين أيديهم من خطابات أو رسائل أو أبيات شعرية لإضفاء المصداقية على ما ذهبوا إليه في مؤلفاتهم، وفي حالة عدم تمكنهم من الحصول على تلك الوثائق، فإنهم يحرصون على ترك (بياض) في الأوراق التي يرغبون تثبيت ما كانوا يؤملونه، حرصاً منهم على الأمانة العلمية لمؤلفاتهم، ويتضح ذلك من خلال ترك الناسخ للمخطوطة (ك) بعض أوراقها خالية من الأحداث (بياض).
كما جرت العادة لغالب نساخ المخطوطات، إهمال استخدام الهمزات في الكلمات التي تستوجب استخدامها مثل (مشايخ، قبايل، عماير) وعمدوا كذلك في رسمهم للعديد من الكلمات بالرسم القرآني مثل (الصلوت، الزكوت، السموات)، ولعل ذلك يبدو واضحاً لدى ناسخ المخطوطة (ك) كما سنبينه عند الحديث عن منهج التحقيق.
منهج المؤرخ
لقد أثرت الفترة التاريخية التي عاشها مؤرخنا الجرموزي (1003ـ1077ه/1594ـ1666م) تأثيراً كبيراً في أسلوب صياغته للأحداث بحكم قربه من البيت الحاكم (الأسرة القاسمية) إضافة إلى دخوله في خدمة هؤلاء الأئمة فهو أحد المسؤولين، وهو الأمر الذي ترك بصماته واضحة جلية في منهجه (المؤرخ) خلال كتابته لمؤلفاته.
ولقد استقى المؤرخ الجرموزي معلوماته من مصادرها كونه قريباً من الأحداث من جانب، ومن جانب آخر فإنه يعتبر من مؤرخي السير البارزين باحثاً مدققاً وراء ما يجمع من الأخبار وروايتها، ولم يغفل عن ذكر من أخذ عنهم حيث يسند رواياته إلى أصولها.
وتبدو لنا معالم منهجه واضحة من خلال دراستنا لمؤلفه (النبذة المشيرة) حيث أشار إلى الغرض من تأليفه بقوله: "...أما بعد فإني كنت سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا، ووسيلتنا إلى ربنا الإمام الأعظم والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم، المنصور بالله القاسم بن محمد بن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فأخذ النسيان أكثره، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن مما بقي، وأجعله في هذه الأوراق اليسيرة توقيعاً لما أمكن من الجمل، وأما الإحاطة بها فما أبعدها، والتفصيل لها أبعد من نيل النجوم وعدها، لطول المدة وتأخرنا عنها...".
فيما بيّن المؤرخ الجرموزي، بعناية بالغة، وتفصيل دقيق المنهج الذي اتبعه في كتابه (النبذة المشيرة) سيرة الإمام القاسم بن محمد، من جميع جوانبها الشخصية والحربية والسياسية، وقد عرض هذا المنهج في مقدمة كتابه ..حيث قال: "...ونذكر نسبه الشريف، ونشأته، وحلته، وخصائصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وتدبيره، وسخاه، وشفقته على الأمة، وصبره، ونبذاً من مواعظه ورسائله وكراماته، ونبذاً من أشعاره، ويسيراً مما امتدحه به أهل الإجادة، وتعداد عيون العلماء من أهل عصره، ودعوته، وحروبه، ونهضاته، ووفاته وموضع قبره...".
ثم يبدأ بعد ذلك عرض موضوعات كتابه ذاكراً كل عنصر بشكل مفصل، فيقول: "أما نسبه الشريف فهو الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن يوسف الأصغر الملقب الأشل ...". وقد تطرق المؤرخ في نحو (65) ورقة في مؤلفه إلى الحديث عن صفات الإمام ومناقبه، فيما تناول في باقي الكتاب، دعوة الإمام وحروبه (ثورته) في مراحلها الأربع حتى وفاته وهي تمثل الجزء الهام في مؤلفه.
وحرص المؤرخ على تدعيم كتابه بالوثائق مثل رسائل الإمام التي كان يبعثها إلى رؤوساء القبائل يدعوهم فيها إلى الثورة على العثمانيين.
على سبيل المثال وثق (المؤرخ) أحدى رسائل الإمام يحثهم فيها على الجهاد ضد العثمانيين حيث يقول: "...ثم إنا ندعوكم إلى جهاد أعداء الله الذين ظلموا العباد وأظهروا في الأرض الفساد..." كما اهتم الجرموزي بتلك الرسائل التي كان الإمام القاسم بن محمد يتبادلها مع قواده أو حكام الأقاليم، والتي كانت تحمل أوامره وتعليماته وتوجيهاته لتسيير الأمور في مراكز نفوذه، كما أنه لم يغفل تلك الرسائل التي كان يبعثها الإمام إلى بعض أمراء الدول العربية. من ذلك رسالة وجهها الإمام إلى شريف مكة حسن بن نمي يبين له فيها الفتنة التي حدثت في البلاد (اليمن) جراء خروج عبد الله المؤيدي عن الطاعة وإعلانه الإمامة لنفسه .. فيقول: "...أما بعد فكتابنا هذا إلى سلالة النجباء من عترة النبي المجتبى مفاخر الزمن ودوأبه بني الحسن، أهل الشوكة في حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...". ولقد مثلت محتويات تلك الرسائل وثائق بالغة الأهمية عن هذا العصر وما اتصل به من ظروف محلية (ثورة الإمام ضد العثمانيين)، وعلاقات كانت قائمة بين الإمام وبعض أمراء الدول العربية.
ولعل سعة اطلاعه وقربه من مواقع الأحداث، بالإضافة إلى موقعه كواحد من كبار مسؤولي الأسرة القاسمية، قد أثرت هي الأخرى في منهجه عند كتابة مؤلفاته، فهو لذلك قد استقى معلوماته من مصادرها المباشرة أمثال الإمام القاسم وكبار رجال إمامته ومستشاريه، وغيرهم من القادة العسكريين الذين شهدوا وقائع الأحداث عن قرب وتتبعوها عن كثب، فهو في موضع (على سبيل المثال) يدون حديثاً دار بينه وبين الإمام القاسم عن أحوال الأقاليم الواقعة وسط البلاد (اليمن) بعد الزيارة التي قام بها (المؤرخ) إلى أهله في بني جرموز ..فيقول: "...فلما عدت إليه سلام الله عليه سألني عن المشارق فحملني ما شاهدت من أحوالها ...".
ولقد تميز مؤرخنا دون غيره من المؤرخين المعاصرين له في رصده بعض أحداث مؤلفاته، وكأنه يكتب مذكراته، فهو على سبيل المثال يدون الأحداث حول حصار شهارة ضمن مجريات الأحداث لسنة 1011ه/1601م من قبل العثمانيين، وكيفية خروج الإمام منها (شهارة) في بضع أوراق، لكنه يتوقف فجأة عن أخبار الحصار، تاركاً أكثر التفاصيل لنتائج ذلكم الحدث، لينقلنا إلى أخبار وصول الإمام إلى برط، وما دارت من أحداث بين الإمام وأهالي برط ثم يتوقف عن سرد أخبار الإمام في برط، ليعود بنا مرة أخرى لمتابعة أحداث شهارة التي كان قد ذكرها فيما قبل، ليضيف إليها ما استجد من الأحداث عقب خروج الإمام إلى برط، كان قد رصدها في مذكراته، غير أنه لم يدونها في كتابه، ومن ثم يعود بالسرد التاريخي بعبارته التقليدية على مثل هذا النحو: "ولنرجع إلى أخبار شهارة المحروسة بالله، فإنهم صبروا بعد خروج مولانا الإمام وأحربوا حروباً كثيرة...".
ولقد اتبع المؤرخ الجرموزي في تناوله للأحداث في كتاباته أسلوب السرد القصصي مع حرصه على التوقيت الزمني ورصد الأحداث بتبيان تواريخها، وهو بذلك يختلف عن نهج من عاصره من المؤلفين ممن كتبوا عن الفترة أمثال عيسى بن لطف الله في مؤلفه (رَوْح الروح) والتي كانت تنهج في رصدها الأحداث منهج المدرسة العربية الإسلامية الكلاسيكية، بالتزامها بترتيب الأحداث على طريقة الحوليات.
وعني مؤرخنا كذلك وبشكل دقيق على توثيق مادته التاريخية بما وقع بين يديه من كتب المؤرخين المعاصرين له، كان الغرض منها تأكيد مصداقية تلك المعلومات والأحداث التي سطرها في مؤلفاته، شأنه في ذلك شأن سائر مؤرخي عصره، ويبدو ما ذهبنا إليه واضحاً في مؤلفه: (النبذة المشيرة) -موضوع الدراسة- حيث حرص على توثيق كثيراً من أحداثه مما استقاه من كتاب: (اللآلئ المضيئة في أخبار الأئمة الزيدية) للعلامة أحمد بن محمد الشرفي، ..مثل قوله: "...قال السيد أحمد نفع الله به: فتح جهات خولان صعدة وما جرى فيها من الحوادث.."، وهو في موضع آخر ينقل من كتاب (روح الروح في ما جرى بعد المائة من الفتن والفتوح) لمؤلفه المؤرخ، عيسى بن لطف الله حيث يقول: "...قال السيد عيسى أن الذين أنذرهم وأطلع خبر هذا الظالم رجل من عيال يزيد اسمه سبحا..." وتجدر الإشارة إلى ان ما نقله من هذه المصادر قد اقتصر على النقل الحرفي ليس أكثر، فلا هو علق عليها إثباتاً أو نفياً أو ترجيحاً ولا هو عابها منتقداً".
وإذا ما ألقينا نظرة على مؤلفات المؤرخ الجرموزي سنجد أنها اتسمت بالتحيز الشديد للأئمة الزيدية، فهو على سبيل المثال عند ذكره للإمام القاسم بن محمد يحيطه بألقاب التعظيم وهالات التقديس يقول: "...سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا ووسيلتنا إلى ربنا الإمام الأعظم والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم المنصور بالله القاسم بن محمد.." وهو إلى ذلك لم يذكره على طول السيرة مجرداً ولو لمرة فما صادف اسم الإمام مرة إلا وقال: ..الإمام عليه السلام.." أو: "الإمام سلام الله عليه.." ولعل تحيزه يتضح أكثر في تلك الصفحات التي خصصها لذكر كرامات الإمام القاسم بن محمد وفضائله وكرمه وحميد خصاله وسخائه.
لغة المؤرخ
مما لا شك فيه أن اللغة هي وسيلة الكاتب المؤثر في محيطه فبها يستشف المعاني والمفردات ويتغلغل في أعماق النفس البشرية، وبها يستلهم مفردات الحياة، وهي بالتالي تكشف على الدوام عن هويته، ومن الأهمية بمكان أن يكون ملماً بقواعدها دارساً لأبجدياتها عارفاً بجزئياتها وتركيبها وصياغتها، كونها أساس كل عمل كتابي قويم، فإن شابها خلل (ركاكة) في تناغم انسيابها أو اتساق مفرداتها أثرت بالتالي على محتويات مادتها.
وإلى ذلك نستطيع القول أن مؤرخنا الجرموزي كان ذو اطلاع ودراية وإلمام واسع بلغته العربية، نستشف ذلك حين نقرأ ما سطرته يديه من مؤلفات تؤكد: "مقدرته الفائقة على التصرف بألفاظها وتوظيفها في تحقيق ما يصبو إليه".
وفي حقيقة الأمر فقد كان لاطلاعه الواسع باللغة، أثرها على مؤلفاته التاريخية، فهو قد جعل قلمه ينساب أثناء تدوينه لوقائع الأحداث ليسطر في أسلوب أدبي رائع عبارات جزيلة المعنى، رصينة المأخذ، رائقة الصفاء، ليترجم من خلالها ما كان يؤمله، ويتضح ما ذهبنا إليه من عبارة كهذه: "...فكم له من موطن في الجهاد، تشهد له السيوف فيها أنه الذي أعطاها حقها، وأهداها من أعناق الإسلام إلى واضح طرقها..." هكذا يتضح لنا ولع مؤرخنا بجماليات اللغة وبمحسناتها البديعة من جناس وطباق ونحوهما، وهو في عبارة أخرى يستخدم السجع، كما جرى عليه مؤرخوا تلك الفترة ..حيث يقول: "...فلما ظهر فضل علمه على العلماء، وعمله على العملة الصلحاء، وإعراضه عن الدنيا وإقباله إلى الأخرى..".